سير وأعلام عرض كتاب

محمد بن قاسم: وارث العلم ومورثه!

محمد بن قاسم: وارث العلم ومورثه!

بين يدي كتاب عنوانه: العالم العابد الشيخ محمد بن عبدالرحمن بن قاسم رحمه الله (١٣٤٥-١٤٢١) حياته وسيرته ومؤلفاته، تأليف نجله د.عبدالملك القاسم، صدرت طبعته الثانية عام (١٤٣٢=٢٠١١م) عن دار القاسم للنشر والتوزيع، ويقع في (٣٩٢) صفحة، وكنت قد كتبت بالأمس مقالة عن الشيخ العلّامة عبدالرحمن بن قاسم، ووعدت بأن أتبعها بمقالة عن نجله سماحة الشيخ محمد انطلاقًا من الكتاب أعلاه الذي رقمه مؤلفه عن والده ولما تخبو لوعة الفراق بعد، ولذا فكتابه قطعة من قلبه، وفيض من مشاعره، ولا غرابة فهو الابن، والتلميذ، والصاحب.

طلب الفتى محمد بن قاسم العلم على إثر كلمة قالها له بلديه إبراهيم اليحيى ناصحًا إياه بأن يترك الزراعة ويطلب العلم الذي يليق به، فلازم دروس الشيخ محمد بن إبراهيم ربع قرن، وأنقذه الله من العمى حين أصابه الجدري بأن وضع الشيخ محمد العسل في عيني طالبه النجيب، فلما عرف والده بنجاة ابنه خرّ ساجدًا في الحرم، وتمضي السنون ليكون نجي العينين بفضل الله ثمّ باجتهاد الشيخ ابن إبراهيم هو القائم وحده على إخراج فتاوى شيخه وعلمه للناس بعد دأب متواصل خلال اثني عشر عامًا إلى أن طبعت في بضعة عشر مجلدًا.

لم يكتف أبو عبدالملك بملازمة شيخه، بل كان شريكًا لوالده في جمع فتاوى ابن تيمية من آفاق الدنيا، فحاز بذلك البر بأبيه، والجدية في طلب العلم، وإظهار كنوز شيخ الإسلام من مدافنها، وخدمة العلم وطلابه، ومعرفة المكتبات والعلماء والمخطوطات، والدربة المتينة على التأليف والفهرسة، وبقاء ذكرهما الحسن في الآخرين مقترنًا بالإمام ابن تيمية.

ولولا أن الشيخ محمد فهرس مجلدات الفتاوى بإتقان في مجلدين لنقص مقدار كبير من نفعها، ولتعسرت الإفادة الكاملة منها، ولما استطاع هو بعد حين أن يضيف إليها المستدرك على الفتاوى بعد أن تأكد من خلو المجموع الكبير منها، وذلك حتى لا يكرر شيئًا موجودًا، وليت أن بعض المؤلفين وتجار الكتب يراعون القراء اقتداء بالشيخ، ولا يتفننون في الاحتيال الثقافي!

كما رفض الشيخ محمد وظائف عليا عرضت عليه، فهرب من القضاء حتى ألغى الشيخ ابن إبراهيم نيته في تعيينه، ورفض مقترحًا من الشيخ عبدالعزيز بن باز لضمه إلى عضوية هيئة كبار العلماء، وقبل نصيحة والده بالاعتذار عن منصب وزير العدل، والانشغال بالعلم والكتب، ولقد ربح الاختيار، إذ ما أسرع ذهاب لذاذة المناصب ووجاهتها وأموالها مع بقاء المسؤولية الأخروية عنها، فضلًا عن احتمال نزعها من صاحبها في الدنيا مع ما يحدثه العزل من كدر وشماتة، وأما ولاية العلم فأسمى من أن تُمنح أو تُنزع، وثمارها المقبولة تغدو من عمل المرء الذي يجري عليه عند مولاه بعد وفاته.

أما حياة الشيخ فكلها علم وعبادة وقراءة وكتابة دون أن يحرم نفسه من زينة الحياة الدنيا الطيبة الحلال، ولذلك أنجز مع والده الفتاوى، وجمع وألف كتبًا كثيرة كالمستدرك على الفتاوى التيمية، ومجموع فتاوى الشيخ ابن إبراهيم، وغيرها، وتعلق بالصلاة، والقرآن، وقيام الليل، والحج، وأداء الرواتب والنوافل، والدعاء والذكر والاستغفار، فالملتزم عند الكعبة يشهد دعواته، وموضعه في مصلاه بعد الفجر يعرف مكوثه إلى شروق الشمس.

ثمّ التزم في آخر عقدين من عمره بقضاء شهر رمضان كاملًا في الحرم المكي ما بين تهجد وتلاوة وطواف وتفطير، ولم يغفل عن توكيل الثقات بالحج عن والديه سنويًا، وذبح الأضحية عنهما، وله في باب الصدقات والأوقاف أسهم صائبة نالت الفقراء، والأيتام، والأرامل، والمحتاجين من القرابة، وخصّ حفظة القرآن الكريم ومعلميه بنصيب منها، وواصل توزيع ثمار مزرعته على الأقارب والأصدقاء والجيران، وإن أبواب الجنة الثمانية لمفتوحة أمام الناس والتوفيق من الله.

بينما كان في بيته الأب المربي الحنون فلا يرفع الصوت، ولا يضرب، ويعظّم شأن التوحيد في النفوس، ويغرس في الأفئدة عظمة قدر الصلاة والقرآن، ويحرجّ بنيه من الخروج بعد الآذان إلّا لمسجد، وهو مع زوجه الرفيق العاذر حسن العشرة، مع ترغيب أهل البيت بفعل الصالحات والمكافأة عليها، وتنفيرهم من المنكرات وتنقية المنزل منها، وأجدى من ذلك كله أن الرجل في داره قدوة عملية بسمته وحيائه وعمله، وتلك التي تصنع الفرق، وتجعل مسالك الأبناء والبنات راشدة قويمة.

ولا يتحدث فيما لا يعنيه، ويكاد كلامه أن يُحصى خلال الأسبوع، وحين ضعف سمعه رفض مقترحًا بعلاج أذنيه فليس في أكثر كلام الناس ما يفيد، ولأجل ذلك لم يكثر من غشيان المجالس حتى لا يسمع الغيبة، مع أنه لا يترك حضور مناسبات الزواج، ومتابعة الجنائز، وتعزية أهل الميت، ويستضيف في مكانه الزوار والمحبين، وبنى المساجد الكثيرة، وأنفق خفية، وكان يختم القرآن بكثرة، ويرحم عماله في المزرعة ويغدق عليهم، ورفض تعبئة استمارة الترشيح لجائزة كبرى، ولا يحب أن يُنادى بلقب الشيخ، ويلبس مثل عوام الناس حتى عرض عليه أحدهم أن يبيع الخضار في دكانه معه ضمن برنامج سعودة الوظائف!

أيضًا يُذكر له أنه عمل في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم وسافر إلى مكة كثيرًا من أجلها، ومع ذلك لم يأخذ انتدابًا ماليًا على عمله وسفره، وسعى في البحث عن فتاوى شيخه في مظانها حتى جمعها من تسعة مصادر منها الديوان الملكي وديوان رئاسة مجلس الوزراء، وحين أتمّ العمل وطبعه شعر براحة كبيرة إذ أخرج للناس كتابًا يجزم بأنه ينفعهم، فضلًا عن كونه يحوي علم شيخه الثاني بعد أن جمع مع والده فتاوى شيخهما الأول ابن تيمية، وما أعظم بركة الشيخين الأب والابن على عموم طلبة العلم، وعلى الحنابلة من وجه أخص.

كذلك من أخباره تساميه عن مشابهة المشركين، وحرصه على الاستغناء عن خدمات أيّ مستعلن بالمعصية، ولذلك راقب وإخوانه طريقة صيانة فني لإحدى معدات المزرعة كي لا يضطروا لاستدعائه مرة أخرى بعد أن أتقنوا مهارة الصيانة، واسترضى راكب دراجة ناله شيء من ماء على الأرض بعد مرور سيارته فوق الماء، ووضع في مكتبته صندوقًا للكتب المستعارة وكتب عليه عواري تعاد لأهلها؛ ولو فعل ذلك كلّ مستعير لما ضاعت كتب على أهلها مخلفة الحسرة في نفوسهم على نفائسهم!

ويبدو لي أن الشيخ لم يمنح الدنيا التي نتكالب عليها اهتمامًا يزاحم مطلوبه الأعلى، ففي ليلة زواجه لم يترك قيام الليل الطويل، ورفض قراءة القرآن على امرأة مريضة ذات مكانة يتسابق لمثلها الرقاة والأطباء، واختار الحج المتواصل وحيدًا بعيدًا عن رفاهية الحج مع الأجهزة الحكومية وغيرها، وتنازل عن حقوقه المالية المليونية من كتاب الفتاوى التيمية، وكان يقبل رأس الشيخ عبدالرحمن الفريان مع تقاربهم في السن؛ ويعلل ذلك لسائله بأن الشيخ الفريان من أهل ود أبيه.

وحين سافر في شبابه الباكر إلى بلاد ذات مفاتن تثير كبار السن فضلًا عن شاب مثله لم يأبه بها، وانصرف شهورًا متوالية للبحث في المكتبات الخاصة والعامة، ولم يتنازل خلال سفراته عن مبادئه أو ملابسه العربية، ولذلك لم يُثلم دينه، أو تُخرم مروءته، أو تفسد مفاهيمه، أو تذوي أخلاقه، وبعض الناس يسافر أسبوعًا فينقلب رأسًا على عقب.

من مواقفه الطريفة أنه صلى بالناس ذات يوم بدلًا عن إمام غائب، فاشتكى له أحد المصلين من ضعف عمل المكيفات وألح في شكواه فقال له الشيخ: أنا إمام بدل فاقد! وروى له رجل حديثًا موضوعًا عن فضل الصلاة في المسجد النبوي فأجابه من فوره: حديثك هذا رواه أصحاب الفنادق المجاورة للحرم! واسترخصت منه معلمة في تغيير معنى “الكرسي” للطلاب كي يفهموه فقال لها: أنتم مدرسون أم مدلسون؟

وقبيل رحيله المفاجئ كتب آخر نص لوصيته، وفرغ من تبييض كتبه ودفعها للمطبعة، ولما توفي في حادث سيارة مؤلم توافد الناس إلى المسجد للصلاة عليه، وقدمت جنازته على جنازة أمير متوفى في ذات اليوم، واستمر العزاء فيه سبعة أيام متتالية، وتحدث الخاصة والعامة عن فضله وعبقه الذي كان يكتمه، ولا يرويه، بيد أن وضع القبول للناس والأعمال، وجعل الود في القلوب، شأن رباني لا يحتاج إلى موازنات، ودعايات وفريق علاقات، فاللهم ارزقنا منك القبول والمحبة والعفو.

أحمد بن عبدالمحسن العسّاف- الرّياض

ahmalassaf@

الجمعة 10 من شهرِ شعبان عام 1441

03 من شهر إبريل عام 2020م 

 

Please follow and like us:

3 Comments

  1. جزاك الله خيرا الكاتب احمد حفظه الله ورعاه.. على مقالة الشيخ محمد بن عبد الرحمن القاسم سيرة عطرة . تستحق القراءة والدعاء له ولوالده السكن في جنات الفردوس الاعلى . هنيئا لعائلته ولاولاده مثل هذا الاب المثالي والقدوة الحسنة. كثر الله من امثاله. وحفظ الله بلد الحرمين وحكامها واهلها من كل سوء . ومن عليهم بالامن والرخاء , قبلة جميع المسلمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)