ثَمِلٌ بالغطرسة!
قرأت سابقًا كتابين فيهما حوارات أعدها الكاتب والصحفي اللبناني غسان شربل مع ساسة من العراق وليبيا، وبين صدور الكتابين ثلاث سنوات، وكلا الساسة عملوا مع صدام أو القذافي، وبعضهم انقلب على زعيمه، أو كان ضمن المعارضة منذ الأساس، ولقد هالني جبروت الرجلين الذي لم يطفو في مستهل ظهورهما على المشهد، وتمنيت لو لم يستمرا جاثمين على بلديهما لعقود حتى آل الأمر إلى ما نرى ونسمع، والله يعيد للعراق وليبيا الأمن والاستقلال والرغد والتكاتف.
ثمّ اطلعت على كتاب عنوانه: في المرض وفي القوة: عن متلازمة الغطرسة وأمراض زعماء الدول خلال السنوات ال ١٠٠ الأخيرة، تأليف: ديفيد أوين، ترجمة: يوسف الصمعان، صدر عن جداول للنشر والترجمة والتوزيع عام (2017م) على نفقة مؤسسة ريم وعمر الثقافية، ويقع في أزيد بقليل من خمسمئة صفحة، ويتكون من مقدمتين للمترجم والمؤلف، فأربعة أجزاء فيها ثمانية فصول، يعقبها الخاتمة والفهرس.
بدأ المترجم مقدمته بنصوص مقتبسة؛ فهارون الرشيد يكتشف أن أولاده يحصون أنفاسه ويستطيلون عمره، ويجزم إدموند بيرك في رسالة له بأن من ثملوا بالقوة واستمدوا منها المنفعة لن يتخلوا عن السلطة طواعية. وقد أشاد المترجم بميزة هذا الكتاب عن غيره من دراسات العلاقة بين السلطة والمرض؛ ذلك أن المؤلف خاض المجالين فهو طبيب متخصص بالطب العصبي وتدرب في الطب النفسي، ثمّ ارتحل إلى عالم السياسة زعيمًا لحزب ووزيرًا لعدة وزارات منها خارجية بريطانيا، وأتاحت له هذه المكانة مقابلة زعماء كثر، ومعرفة أسرار مكتومة، وتقييم ما يشاهده أو يعلمه أو يشارك فيه، وأضيف أنا ميزة جديدة فالمترجم الحاذق طبيب نفسي ولا أدري أيتاح له ما أتيح لزميله أم لا؟
يبحث الكتاب عن آفات القوة المنفلتة التي تكتمل بعد زمن يتراوح من عام إلى عامين حتى تظهر أعراض متلازمة الغطرسة والغرق في نشوة نجاح أو إنجاز، ويحاج المؤلف بأن القوة تولد اضطرابًا كما ينقل المترجم عنه مؤكدًا في السياق ذاته مخالفة آخرين لرأيه، وبين التفسير النفسي للتاريخ موافقة أو رفضًا يحيلنا المترجم إلى كتاب من ترجمته بعنوان: “جنون من الطراز الرفيع” وله كتاب مترجم بالاشتراك عنوانه: “الأسس الثقافية للتحليل النفسي السياسي”، وتلك حسنة من د.الصمعان صاحب الاختصاص والممارسة في الطب النفسي على القارئ العربي.
أما المؤلف فأوضح في مقدمته افتتانه المبكر بتداخل العلاقة بين السياسيين والأطباء، واهتمامه بتأثير مرض رؤساء الحكومات على مسار التاريخ، وبعد عدة جولات حزبية ومناصب سياسية عانى خلالها من توترات الحياة السياسية وضغوطها، صار المعلوم عنده نظريًا واقعًا مشاهدًا فيما يراه عند الزعماء الذين التقى بهم أو سمع عنهم.
وينقل المؤلف عن المؤرخة باربرا توتشمن قولها: إن السلطة تولد الحماقة فالقدرة على إعطاء الأوامر تعطل المقدرة على التفكير، وعندما أصبح المؤلف وزيرًا للخارجية واجه مناسبات أوضحت له مدى تأثير المرض على عملية الحكم وصنع القرار، ولاحظ أن الزعماء الذين سلموا من المرض وقعوا في أسر الغطرسة وهي المرادف لديه لوصف الحماقة التي تعرفها باربرا بأنها الاستمرار في سياسة من الجلي أنها غير مجدية وذات نتائج عكسية، وتتابع قائلة: الذهنية المتخشبة هي منبع خداع الذات حين تتعاطي مع الأمور من خلال أفكار مسبقة مع تجاهل أو رفض أيّ مؤشرات معاكسة.
فمن خصائص الغطرسة رفض تغيير المسار لأن هذا يتضمن الاعتراف بالخطأ، ولأجل ذلك اقتبس المؤلف نصًا عن برتراند رسل يعلي من فضيلة التواضع، وأشار إلى أن أنظمة التسديد والمقاربة في المجتمعات الديمقراطية تحمي نفسها من قادة من هذا الصنف الضار إذ يكبح البرلمان والإعلام جماحهم حتى يغدو السياسي خادمًا للشعب، فالسلطة حسب هذا المفهوم يمكن إعارتها ويمكن سحبها كذلك.
كما شخص المؤلف أعراض الهوس الخفيف بالابتهاج والحماسة، والطاقة الزائدة والثقة العالية بالنفس، ثمّ شخص نوبة الهوس في مرض الثنائي القطبي من خلال عدة أعراض هي: زيادة الطاقة والأرق، وفرط البهجة، وتسابق الأفكار مع سرعة الحديث، والتشتت، وغرابة الأطوار، والبعد عن الواقعية في النظر للقوة والقدرات الذاتية، وسوء تقييم الأمور، وتعاطي المخدرات، والتبذير، وإنكار الخطأ، وزيادة الرغبة الجنسية، وعدوانية السلوك.
وعقب ذلك عرّج على مصطلحات لحقت بزعماء عالميين منها مزاج الكلب الأسود، وجنون العظمة وأبان موقفه العلمي منها، وكرر القول عن زيادة الطاقة، والغرور والوقاحة، واحتقار الآخرين، مع اتجاه حاد نحو الملذات، والاستمتاع بإهانة الناس، وناقش بعضها طبيًا وخلص إلى أن الغطرسة نابعة عن الاستعلاء وتجاوز الحدود الإنسانية وتعالى الله علوًا كبيرًا عما يظنه الطغاة بأنفسهم من خصائص لا تصلح لغير الله سبحانه وتعالى.
بينما وصف الفيلسوف ديفيد كوبر الغطرسة بأنها نوع من المبالغة الزائدة في الثقة بالنفس تصرف نظر صاحبها عن أيّ تحذير أو نصيحة لدرجة ازدرائها، وهذه الغطرسة نوع من فقدان الأهلية التي لو علم صاحبها بدلالتها على نقصه لفر منها حتى لا يفُتضح أمره! ومن صفاته يستبين أنه لا يدرك هذا المعنى، وليس فيمن حوله غالبًا ناصح أمين أو صادق شجاع يخبره بالحقيقة أو بطرف منها ولو غمسه بعسل الدنيا كلها؛ عسى أن ينتهي أو يعتدل قليلًا.
وتنمو الغطرسة مع طول البقاء في المنصب، ومن أعراضها: النرجسية، وحب الظهور، والتحدث بطريقة تبشيرية، والقلق من التباين بين الوعود والأداء، والثقة المطلقة بالنفس، والاندفاع، والانقطاع عن الواقع، واعتقاد المتغطرس أنه والدولة شيء واحد، وألّا مجال لمحاكمته في الدنيا، والعجيب ثقة المتغطرسين بأن محاكم التاريخ والآخرة ستحكم لهم بالبراءة!
ويستعرض الفصل الأول زعماء أبرزهم روزفلت وكامبل وويلسون وتشامبرلين وهتلر وتشرشل وفرانكلين روزفلت وستالين وموسوليني، ويقف الفصل الثاني مع أيزنهاور وجونسون وماكميلان وديغول وبومبيدو ونيكسون وريغان وتاتشر وبريجنيف ويلتسن وبوش الأب وشيراك وشارون، ولأكثر هذه الأسماء حضور تبجيلي في الثقافة التاريخية والسياسية، وشيء من الفحص ينقص المقدار الزائد من التعظيم، ولا أدري ماذا سيكون حكم المؤلف على الزعامات الحالية مثل ترمب وبوتين وبوريس جونسون؟
أما الفصل الثالث فعن مرض إيدن وأزمة السويس وعبدالناصر، ويختص الرابع بموضوع صحة كينيدي وخليج الخنازير، ويكتفي الخامس بمرض الشاه السري علمًا أن المؤلف آخر مسؤول غربي اجتمع معه قبل تخلي حلفائه عنه، ويوضح الفصل السادس حياة ميتران وسرطان البروستات، ويعد الفصل السابع أطولها وهو عن مجرمي حرب العراق بوش وبلير، وتطرق الكاتب في الفصل الثامن والأخير للحماية ضد مرض رؤساء الحكومات.
ولمقتضى الأمانة فلم أقرأ سوى المقدمتين والخاتمة التي جزم الطبيب السياسي فيها بأن الثمالة بالسلطة صنف من المخدرات تطيح بالعقل، وأن الغطرسة من المخاطر المهنية التي تصيب رؤساء الحكومات وتتغذى من العزلة التي تحيط بهؤلاء، ومن اعتقادهم بالخلود، ورأى أن الديمقراطية التمثيلية، والإعلام الاستقصائي، واستقالة الوزراء والقادة، ستحد من هذا البلاء، وتمنى أن يحدث انفجار ديمقراطي في العالم ليزداد عدد الدول الديمقراطية التي تمثل الآن ثلثي دول العالم تقريبًا، وأبدى خوفه على البلاد العربية والإسلامية، وحث مجلس الأمن وهيئة الأمم على حماية شعوبهما فتلك مهمة نبيلة؛ والله يحمي بلادنا وبلاد العرب والمسلمين منهما ومن ما ظهر عنهما وما بطن، فمتى كان النبل سمة لهما أو قيمة معتبرة عندهما؟!
ولا يحسن بي وداع القارئ قبل الإشارة إلى أن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعناها الصحيح ومفهومها الواسع فريضة مباركة تمنع مثل هذه الغطرسة قبل أن تصل مرحلة الثمالة التي تضر ولا تنفع، وتقي الأفراد والمجتمعات والدول غوائل شر مستطير ينجم عن جنس الإنسان الذي من طبيعته أنه يطغى ويتجبر عن الهدى، ويبغي على قومه لجهله وظلمه إذا رأى نفسه غنيًا مستكفيًا، ولم يعلم أن الله بالمرصاد، وأبواب السماوات مفتوحة أبد الدهر تصعد إليها الآهات والدعوات، وينزل منها الأمر الذي لا يُرد ولا يُبدل.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الأربعاء 18 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1441
12 من شهر فبراير عام 2020م