إستراتيجيات من سورة يوسف
صدق الله ربنا في كل حرف ورد في كتابه العزيز، وفي كل وصف وقول، ومن ذلك تخصيص سورة يوسف بأنها أحسن القصص، فمن حسنها استيلاؤها على السامع ولو كررها، ومن الحُسن كثرة الإشارات والأفكار ضمنها، ولذا سبق لي كتابة سبع مقالات عنها بعناوين مختلفة، وها هي الثامنة.
تختص هذه المقالة خلافًا لما سبقها بإستراتيجيات يمكن الإفادة منها في الحياة والعمل بغض النظر عن سياق ورودها في السورة الكريمة، فمنها:
العصبة غالبة:
هذا أمر نبوي، وميزة حسدنا عليها الغرب المتناقص عددًا لدرجة تقترب من الفناء، وحسد عليها الصين والهند أيضًا، ولذلك فتكت الأمم الظالمة بالعالم من خلال سبل ماكرة شتى، فلا هي استطاعت مجاراة سرعة تكاثرهم، ولا هي مطمئنة للمستقبل مع زيادة أعدادهم، وإنما الغلبة لمكاثر، ولأجل تحقيق النماء تدافع الحضارات العتيقة والأسر العريقة الفناء والتلاشي عنها بما يزيد عددها.
كن القائل فيهم:
قد تصبح عضوًا في فريق، أو فردًا ضمن مجموعة، وربما يرد على هذا التكوين الذي أنت عضو فيه أفكار أو قرارات لا ترتضيها ديانة أو مروءة أو مصلحة، بيد أنك لا تقوى على معارضتها، ومع ذلك فيمكنك أن تخفف من حدة آثارها، وتقلل من الشر والسوء؛ وتكون مثل القائل من إخوة يوسف: لا تقتلوا يوسف، فأنجى الله عبده، وملكه، وكتب التوبة والنبوة لمن أرادوا به كيدًا فيما مضى.
التخلية أولًا:
أي إجراء صحيح لن يكتمل نجاحه إذا حلّ في بيئة لاتزال متعلقة بأوضار سابقة، ومرتبطة بأخطاء قديمة، ولذلك فمن الأجدى قبل الشروع بأي إنشاء جديد تهيئة الوضع المحيط بإزالة الألغام القابلة للانفجار فجأة، ورمي المخلفات في المزابل التي تستحقها، وتمهيد الأرض حذار الحفر والصخور المعيقة.
اجعلني هنا:
إذا أتيحت لك فرصة نادرة فلا تفرط فيها، واختر المكان المناسب للتأثير الحسن، واطلب الصلاحيات اللازمة، ومثل هذا لا يكون بعد توفيق الله إلا بإعداد مسبق، وتصور سليم، وليس للزهد في بعض المواقف منقبة!
السيادة بالعلم:
قد يظهر أناس بسلطة المال، وسطوة الجاه، وقوة السلطان، بيد أنها أعراض قابلة للنزع والضمور، وإنما السيادة بالعلم الذي لا يمنحه بشر، ولا يخلعه بشر، ومن علمه الله وفقهه وفهمه وآتاه علمًا وحكمة فقد أعطاه ما يبز به أهل الدنيا قاطبة ويظهر عليهم دون استثناء.
صنع الفرص:
كم استعبد الإحسان قلوب المخالفين قبل الموافقين، ولم تمنع المساحة الضيقة، والمكان الكئيب، يوسف الصديق عليه السلام من صنع فرص دعوية وتغييرية بالفضل والمعروف والتضحية والخدمة.
استثمار الإقبال:
إذا أقبلت عليك وجوه الناس والمنابر فهي الساعة المواتية لإبلاغ فكرتك إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن حمل هم الفكرة عرف أكثر من طريق لتوصيلها وربما صنع لها مسارًا أو أكثر.
بناء السردية:
لكل أحد قصة يحاول إقناع الآخرين بها، ومن تمام الحكمة بناء سردية خالية من الثغرات والمآخذ، ومن الضرورة اختبار هذه السردية قبل نشرها كي لا تقود عيوبها بعد نشرها المتعجل إلى فضيحة لا تستر، وعيوب لا تعالج، والتأني محمود خشية الانكشاف الفج.
الدخول من أبواب متفرقة:
مسلك يفيض كياسة ورشدًا، فعلى كل باب أسباب تختلف عن الآخر، فربما أغلق واحد وفتح غيره، ولربما أدرك العطب رواد باب فسلم غيرهم، وفي النهاية لا تستطيع العيون حصر الداخلين إذا تفرقوا وولجوا من أبواب متفرقة مع تنوع في الزمان والمكان والكيفية والحال.
الهدوء مطلب:
إذا وقعت أزمة فمن كمال العقل انفراد بعض أهل الشأن للخلوص نجيًا بعيدًا عن المؤثرات وإرباك التفاعل المباشر مع الحدث، ففي البعد تركيز، واستشراف، ورؤية للوضع عن بعد، وحسن توجيه.
الحركة حياة:
مع الهدوء وبعده لا مناص من الحركة والتقدم ولو كانت الخطوات قصيرة بطيئة، ولو كان الفعل تحسسًا لطيفًا لا يشعر به أحد، فركود الماء سبب لفساده، والبركة تأتي مع استدامة العمل، والاستئناف بعد الانقطاع.
أعداء الحقيقة:
احذر خلال تقييم الأشخاص والمواقف والأفكار من رأي منافس أو غير خبير بالموضوع، فالمنافس يصنع التهمة ولو بان بطلانها وعرف الكافة أن المتهم ما سرق ولم يسرق، وجهل الأمر يجعل الناس وإن علموا أشياء كثيرة يصفون الرموز ذات الدلالة بأنها أضغاث أحلام لأنها لم تستبن لهم فقط.
أسأل الله أن يجعلنا جميعًا من أهل كتابه الذين يكثرون من تلاوته، ويحسنون تدبره، ويوفقون للعمل به، ويعينون على نشره، ويساعدون في خدمته، فليس للحياة لذة ولا قيمة ولا غاية إذا ابتعدت عن خطاب ربنا العلي الكبير لعباده الذين لا غنى لهم عن فضله وإحسانه ورأفته.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرياض
ليلة الاثنين 09 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1441
03 من شهر فبراير عام 2020م
One Comment
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك الكاتب احمد . اجمل ما ختمت بها مقالتك . اضافة الى تفاصيل المقالة الهادفئة .والله فليس للحياة لذة ولا قيمة اذا ابتعدت عن خطاب ربنا العلي القدير لعباده . اللذين لاغنى لهم عن فضله واحسانه ورافته . وفقك الله لما يحب ويرضى