مواسم ومجتمع

أوقف ولا تقف!

أوقف ولا تقف!

يُصنف قليل من الناس بأنهم أثرياء، وقليل من هذا القليل من ينتصر على نوازع نفسه فيوقف قسمًا مهما كان يسيرًا من أمواله ليستعمل ريعه في وجوه البر والإحسان والمعروف وما أكثرها، وما أشد الحاجة لها، والله يوفق أثرياء المسلمين إلى دخول هذا الباب بثقة وصدق نية؛ ففيه لهم منجاة وأجر، ولمجتمعاتهم الحياة والتكافل والتراحم، ومن فضل الله أن صار مجال الأوقاف متاحًا حتى لغير الأثرياء من خلال المشاركة في أسهم وقفية بأيّ مبلغ من المال لمن وجد سعة وقدرة على العطاء.

أما من لم يرزقه الله سعة من المال وبسطة في الرزق، فمتاح له أن يوقف ما رزقه الله من وقت وعلم وفكر ومواهب ومهارات بالتعليم، والتأليف، والتقييم، والتقويم، وبث ما لديه عسى أن يكون من العلم الباقي والعمل الصالح، ومثله يصنع المهني والحرفي بنقل مهارته لغيره، ولو التزم كل إنسان بتعليم فرد واحد سنويًا ما يحسنه لأصبحت الأمة مجموعة من الخبرات والفنون والعلوم والمهارات، ولن تُغلب أمة هذا شأنها.

ومن حكمة بعض العوام أنه يزرع النخل في الأحواض الفارغة المخصصة للزراعة على الأرصفة وداخل الأحياء وبجوار المساجد والحدائق، فكل من طعم منها أو استظل بها فلصاحب البذر الأول والغرس القديم أجر عند مولاه، ومن هذا الباب وضع الماء للطيور في لهيب الصيف، ويصبح الماء والإناء وقفًا للسقيا وما أعظم أجرها، وإذا وُجد الهم والاهتمام فما أكثر طرق الخير وفعل المعروف، والسابق له أجر التابع.

كما أن رفع الوعي بنشر الأفكار والآراء وتصحيح طرائق التفكير، والإصلاح بين الناس، والدعوة إلى الخير، وإقناع الآخرين به، وتعميم الأخلاق الحسنة، والسلوك الراقي، ونشر السلام والابتسام، وإسعاد الآخرين ولو بكلمة تشجيع وثناء، وجميع ما يشبهها من بابها، ولن يتصدع مجتمع هذا صنيع أفراده، ربما تصبح هذه الأعمال هي الأثر الباقي الوحيد للمرء بعد رحيله عن الحياة الدنيا، ومن تبصر في نفسه عرف مواطن نبوغها، وكيف يستثمرها بالحسنات حتى بعد وفاته.

فإن لم يستطع الإنسان أن يوقف مالًا أو وقتًا أو علمًا أو مهارة أو سلوكًا فلا أقل من ألّا يقف مكتوف الإرادة أمام السوء ولو أن ينقبض قلبه ويتمعر وجهه، فيقف ممانعًا بحسب طاقته ولو بصموده وحده ليكون قدوة لغيره وأشد تثبيتًا لمجتمعه، حتى ينقبض الشر خاسئًا وهو حسير، أو تتعثر خطاه على أقل تقدير، كي لا يستيقظ الناس على صباح مظلم ليس فيه معروف ولا منكر.

ويمكن للمرء أن يصنع خيرًا فلا يقفُ ما ليس له به علم حتى لا يورد نفسه وغيره دروب المهالك والعطب، ويستطيع الواحد ألّا يقف حاجزًا يحول دون إشاعة سبل الخير، أو يغدو سببًا في تعسير حركة المعروف وإبطاء صنائع الفضل والعدل، فمن عجز عن فعل مبارك فليحذر من أن يكون في الصد عن مسالك الشرف أصيلًا أو مشاركًا؛ فيبوء بإثم مضاعف.

وكم في وقف المال والوقت والعلم والجهد والسلوك من بركات ومآثر تبقى، وكم في الوقوف مع الحسن وضد السيء من حسنات ومحامد، وكم في كف اليد واللسان والعقل عن المضرة من منقبة لصاحبها، والسعيد من فاز بشيء من هذا ولو بطرف محدود، والميدان رحب أوسع مما كتب؛ وإنما هي إشارة مثل قلادة تحيط بعنق وهو منها أكبر وأطول.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الثلاثاء 19 من شهر جمادى الأولى عام 1441

14 من شهر يناير عام 2020م 

 

Please follow and like us:

9 Comments

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته الكاتب القدير احمد حفظه الله ورعاه
    لا اجد ابلغ من ان اعلق على هذه المقالة القيمة تعليق السيد الفاضل عبدالله الحميدي … لله درك وكتب الله اجرك وجعل ماتخطه بيمينك مثقلا لميزانك . كما عودتنا نحن القراء على الانتفاع بمقالاتك المنتقاة بعناية فائقة والمستوفاة من كل الجوانب للاستفادة منها

  2. جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه . لما تكتبه من مقالات هادفة ونافعة . جعل الله ما تكتبه في ميزان حسناتك وفقك الله لما يحبه ويرضا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)