سير وأعلام عرض كتاب

محمد بن ضاوي: إخلاص وتيسير

محمد بن ضاوي: إخلاص وتيسير

أتمنى أن يتفرغ باحث أو أكثر لدراسة سير الرجال الذين اصطفاهم الملك عبدالعزيز لأعماله في مجالات شتى خلال مراحل تكوين الدولة، ثمّ تحليل هذه الشخصيات لمعرفة مزاياها وكيف استثمرها الملك لصالح مشروعه دون الاكتفاء بسرد أخبارهم، وفي علم الإدارة يكون القائد الذي يكتشف المواهب والعبقريات المحيطة به أو التي يمكن استقطابها والإفادة منها هو الأقرب لتحقيق أهدافه ونيل مراميه ولو كانت بعيدة المنال، فالمحيط مؤثر على المركز ولا ريب.

وبين يدي كتاب يحكي سيرة رجل من هؤلاء كاد أن يطويه النسيان، عنوانه: محمد بن ضاوي: سيرة ذاتية، تأليف عبدالله بن محمد بن ضاوي، صدر عن دار الزازان عام (1441)، ويقع في (152) صفحة مكونة من مقدمتين للناشر د.عبدالله الزازان وللمؤلف، فتقديم بقلم د.عبدالرحمن الشبيلي، ثمّ سبعة عشر عنوانًا تختلف في حجمها، وبعضها يمكن ضمه لغيره، وفيها تكرار، فملاحق من صور ووثائق وقصاصات صحفية، ودشن الكتاب مؤخرًا في النادي الفيصلي.

يسرد الكتاب سيرة الشيخ محمد بن ناصر بن ضاوي ( 1322-1403) المنحدر من قبيلة بني تميم، الذي قضى أربعين عامًا في العمل الإداري ضمن عدة مؤسسات حكومية، ويروي مغادرته لبلدته ومسقط رأسه حرمة عام (1341) إلى الزُّبير النجدية التي يقطنها جم غفير من أهالي حرمة وعموم مناطق سدير والقصيم والوشم، ودراسته في مدرسة النجاة الأهلية التي ساهم الوجيه الشيخ محمد السليمان العقيل في إنشائها، وحمل العالم والأديب الشيخ محمد الشنقيطي أعباء برنامجها التعليمي المتين، فمن درس فيها سنة واحدة نال أضعاف ما يجده الآخرون في غيرها، وشهادتها الابتدائية تعادل الثانوية من قوة منهجها وطاقمها حسب تعبير معالي الشيخ عبدالرحمن العبدالله أبا الخيل، ولذلك كانت قبلة الطلاب في المنطقة؛ وإن التعليم لأمانة ذات ثمار إذا أُحسن توجيهه، وإلّا كانت مخرجاته أشواكًا من الجهل، وطبولًا من الفراغ.

وحين علم محمد بن ضاوي أن الحكومة العراقية توسمت فيه النباهة وتنوي ابتعاثه لمصر توجه إلى الجبيل عام (1343) نائيًا بنفسه عن الذهاب لمصر، وأمضى عامين في الجبيل معلمًا بمدرسة الكهلان التي تنسب لبلديه الأعجوبة الشيخ سليمان بن محمد الكهلان (1305-1370) وهو أول أستاذ تتلمذ عليه معالي الشيخ عبدالعزيز العبدالمحسن التويجري، ثمّ قرر الارتحال إلى مكة عام (1346) فهي القبلة والمركز الحضاري والداخلة حديثًا تحت الحكم السعودي بإرثها الإداري والثقافي من عهدي الأشراف والعثمانيين، وبما فيها من فرص للعلم والعمل والتجارة.

وفيها التحق بالهجانة، وانتظم في حلق التعليم بالمسجد الحرام، وصار إمامًا لمسجد قلعة أجياد بعد أن حفظ القرآن الكريم، ولما آنس من نفسه الأهلية كتب للملك عبدالعزيز مبديًا رغبته في العمل بالديوان الملكي، فاستجاد الملك خطه، وأعجبه أسلوبه في الكتابة وطريقة سبكه للكلام، وقدّر أن وراءهما شخصية منظمة تحسن التفكير، فأمر بتعيينه كاتبًا في الديوان بعد أن سأل عنه ابني بلدته الشيخين عثمان النجران التويجري، وعبدالله بن عسكر.

لذلك شارك ابن ضاوي مع الملك عبدالعزيز في موقعة السبلة عام (1347)، وكان رسوله الخاص لرؤساء تركيا وباكستان والهند وسورية، ولإمام اليمن خلال فترة المفاوضات، ولشاه إيران ومعه ثلاثة خيول عربية أصيلة، وهذا الإيفاد والاصطفاء من بين سائر الأسماء الكبيرة من رجالات الديوان والشعبة السياسية دليل على ثقة الملك به، وامتلاكه من المواهب ما يؤهله لها؛ فليس من السهل مقابلة زعماء لحضارة بعضهم مواقف مناوئة لنا، أو مع بعضهم خلافات حدودية، أو منافسات وخصام تستدعي الحوار وتبادل الآراء.

ثمّ طلب أمير عسير الشهير تركي الأحمد السديري -خال الملك فهد وسلمان وأشقائهما وجد عدد من الأمراء- تعيين ابن ضاوي رئيسًا لديوان الإمارة وهو ما كان عام (1353)، وله فيها انجازات منها تبني فكرة النادي الأدبي العسيري، وعقد اجتماعه الأول في منزله بأبها سنة (1355) بحضور أدباء مشاهير وطلبة علم وشداة معرفة، وهو حدث تاريخي وقع قبل أربعة عقود تقريبًا من ترخيص الأندية الأدبية تحت مظلة رئاسة رعاية الشباب، ويحسب سبقًا للمنطقة وأدبائها ولصاحب السيرة في دولة لم يمض على توحيدها سوى سنوات أربع.

وبعد أن أنهى مهامه في ديوان الإمارة، وأنجز سفاراته لإمام اليمن، عينه الملك مفتشًا في مكة والقنفذة ومدن الشمال، فمساعدًا للمندوب التجاري في الكويت وله أياد بيض على تجار كثر من النجديين الذين أفادوا من حركة التجارة والسفن في الكويت، وعقب عودته من الكويت أصبح مسؤولًا في وزارة الداخلية عام (1372)، وختم أعماله مديرًا للجوازات والجنسية سنة (1374) حتى تقاعد عن العمل سنة (1384)، وأعتذر عن قبول إمارة الخبر بعد ذلك.

كما حظي الشيخ محمد بمكانة كبيرة عند الملوك، فالملك سعود أهداه سيفه، وذكر أ.مساعد بن حمد الضاوي أن السيف من سيوف الملك عبدالعزيز، وأن عمه أهداه للملك سلمان خلال زيارته لحَرمه عام (1391) وهو أمير للرياض حينذاك، ووصف الملك خالد ابن ضاوي بالنظافة والنزاهة، وتقدم الملك سلمان المصلين عليه في شهر صفر عام (1403) إبان إمارته على الرياض، وكانت علاقاته وثيقة حسنة مع باقي الملوك والأمراء ورجال الدولة حتى وصفه كبير المترجمين ابن مانع بأنه شاب في غاية البراعة وأثار إعجاب كل الناس، ومضى فيما سبق الحديث عن استعماله من قبل الملك عبدالعزيز في مهمات متنوعة داخلية وخارجية.

ومن حسناته استصدار أمر من الملك سعود بإعفاء المعدات الزراعية من الجمارك، والسماح باستيراد المولدات والمكائن الزراعية من البحرين، واستثمار معيشته في الزُّبير والجنوب للتسهيل على أهلهما، وكان معرفًا لأهل الجنوب لإلمامه بالقرى والقبائل ومشايخها؛ فصار عمدة لهم يوقع على أوراق التعريف الرسمية كما روى د.محمد آل زلفة، ووصفه الكاتب أحمد أبو دهمان بأنه مثل الأب لأهل تلك النواحي الكرماء الطيبين، ومنها مطالبته بإعادة إعمار جامع الأرطاوية الذي شيّد عام (1330)، وأنفته من وصف أبناء الأقطار الشقيقة بالأجانب.

ومن المناسب نقل ثناء معالي د.عبدالعزيز الخويطر على ابن ضاوي في الجزء الرابع عشر من وسم على أديم الزمن، وخلاصته: هذا الرجل ملأ مركزه، ممتدح من كل إنسان، يعرف الأسر والناس جيدًا، وكان سمحًا ميسرًا كثير المساعدة للعائدين من العراق، ووصفه بأنه يمشي بنور الله؛ ولذلك نال سمعة حميدة، ومحبة وتقديرًا، حتى أن الأمير -الملك- سلمان زار سدير وخصّ ابن ضاوي بزيارة منزلية، وفي نهايتها أهدى الضاوي لضيفه قطعة بخور هائلة، وعندما غادر الدنيا حزن عليه عارفوه وحقّ لهم أن يحزنوا على رحيله.

كما سمعت في مجلس الشيخ أ.د.محمد الصالح، وهو مجلس عامر ضم عددًا من الأمراء والعلماء والكتّاب والوزراء والأثرياء والوجهاء، أن الأمير فهد-الملك لاحقًا- وكان حينها وزيرًا للداخلية سأل ابن ضاوي عن تفسير ما يشاع عنه بأنه متساهل؟! فأجاب: إذا أخطأت في منح تابعية أو جواز فحاسبني! لكن تأكد أن الناس يدعون لمن جعلني في المكان مع التيسير، والتعسير سبب للدعاء عليه؛ فقال الأمير من فوره: إذًا فيسر وأنا المسؤول!

وأتاه رجل من أهل شقراء ملهوف على التابعية فقال له من تعرف من أهل شقراء؟ فقال: آل الجميح؛ وحينها سأله ابن ضاوي عن رجل من أهل شقراء مشهور بمسألة معينة فآل الجميح مشهورون ومعرفتهم عامة؟ فأجاب الرجل ومنحه التابعية. وأتاه رجل فاز بوظيفة واشترطوا عليه يومًا واحدًا لإحضار التابعية وهو طلب يقترب من المستحيل، وغايتهم صرف الوظيفة لمن جاء في الترتيب بعده، وعندما وصل الشاب لابن ضاوي وقال له أنا من الخرج ولا أحد يعرفني في الرياض؛ تحقق منه أبو ناصر من فوره ثمّ منحه التابعية وأدرك الوظيفة التي كانت النية متجهة لتحويلها إلى غيره!

وعلى فراش المرض الأخير أخطر صديقه الذي جاء يعوده باستعداده للموت وكأنه ذاهب لزيارة حرمة، فهو ليس طالبًا ولا مطلوبًا، ولا عجب من رجل يصدر منه هذا الكلام قبيل وفاته وهو الذي قالت عنه ابنته نعيمة إنه لا يكتب بقلم الحكومة ما يرتبط بشؤونه الخاصة، ويقيّد في مذكراته أن أموال الجوازات بقي منها خمسة عشر ريالًا!

فلا غرو أن يشعر بالراحة للقاء ربه وقد اشتهر بالتيسير على الناس وذوي الحاجات وإنما العسر والتعسير من ذوي النفوس المعقدة أو الخبايا المغرضة، بينما كان الضاوي ذا إخلاص مطلق دفعه لتخطي عقبات الإدارة البطيئة، ومن حسن حظ العمل أن يتولاه رجل بهذه المرونة بحسب وصف د.عبدالرحمن الشبيلي، وهو رجل يتسم بالحكمة السياسية والتوازن الدقيق كما قال د.عبدالله الزازان فلا يتصور منه غير الصنيع الجميل.

بينما يضع هذا الكتاب الذي هو سيرة غيرية معتمدة على المقابلات، وليس سيرة ذاتية بقلم صاحبها أو إملائه، المسؤولية الثقيلة في أعناق القادرين من أبناء وزملاء وموظفين على هيئة أمانة غليظة لسرعة تسجيل وحفظ ما يخص أولئك الأفذاذ بعد أن اطلعوا على شؤونهم بملاصقة قرابة أو زمالة أو صداقة، فمع الزمن يصعب تذكرها خاصة إذا غاب المعاصرون لمثل هذه الشخصيات، وما أحوج التاريخ لرواة أمناء وكرماء في نشر المعلومة، وأقلام لا تكل من الكتابة، وألسنة لا تفتر عن السؤال، وعقول لا تتحاشى التمييز والتحليل، وكل ميسر لما خلق له من أجل إتمام الصورة لمن يأتي بعدهم وبعدنا، ومعذرة لربنا ولعل وعسى.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف- الرياض

ahmalassaf@

السبت 10 من شهرِ ربيع الآخر عام 1441

07 من شهر ديسمبر عام 2019م

Please follow and like us:

4 Comments

  1. جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه . مقالة قيمة وهادفة . ماذكرته في سيرة المرحوم محمد بن ضاوي .
    جعل الله العلي القدير مثواه جنة الفردوس . ما ابلغها من جملة بوصفك التعليم ذات ثمار اذا احسن توجيهه. والا كانت مخرجاته اشواكا من الجهل وطبولا من الفراغ .صحيح ماقراته عن التعليم في العراق سابقا . كان الذي ينهي المرحلة الابتدائية يدخل دورة ستة اشهرطرق تدريس الطلبة ويصبح معلما كفوءا لاانما ما يدرس بها من سنة واحدة ينال اضعاف مايجده الاخرون في غيرها الان ليس كالسابق تغير كل شئ .

  2. بارك الله فيك وجزاك الله عنه خير الجزاء انا ابنته نعيمه وتم تعييني معلمه وهو على فراش المرض مسك يدي وقال لي يابنتي ترا هالبلد حنا اللي بنيناه وجاهدنا فيه يابنتي اكملوا طريق بديناه وخلكم صاملين مخلصين وتراه امانه تراكناها لكم فاكرموا الامانه وعندما اخذت درع المعلمه المتميزه على منطقة الرياض تمنيت انه حي واهديه اياه لانه السبب في حصولي عليه من خلال دعمه وتوصيته مهما تكلمت عن والدي فلن اوفيه قال لي مره والله يابنتي كان كل شي في يدي ووالله ان ابوك ما استثنى في جيبه شي ولا ابي من هالدنيا الارضى ربي والستر وسيشهد له ضميره عند الله وكذلك ستشهد يده لقد اعطت اكثر مما اخذت قبل وفاته يوما كان في طريقه للمستشفى نظر حوله وكبر ثم قال ياليتك يابو تركي تشوف اللي انا اشوف ثم رفع يديه وقال الحمد لله الحمد لله / اشكرك اخي احمد فوالله انك شهدت لرجل امين وصادق اذا تغنى فهو يتغنى بالقران رحمك الله يانور الارض وبارك الله فيك اخي احمد وجعله في ميزان اعمالك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)