سير وأعلام

عبدالله السعد: وزير من البادية

عبدالله السعد: وزير من البادية

ليس للإبداع والقدرة على الإنجاز اشتراطات جسدية دومًا، وفي التاريخ البشري أمثلة كثيرة، سواء من علماء أفذاذ وأدباء كبار حرموا نعمة البصر أو السمع والنطق، أو في رجال دولة وقادة لم يهبهم الله بسطة في الجسم، أو جمالًا في الصورة؛ بل كان بعضهم محرومًا من بعض أعضائه أو دميمًا، فلم يتواروا عن العالم والعمل والمنافسة، والأمثلة كثيرة قريبة من الأذهان.

وهاهنا مثال محلي فريد في المنصب الذي بلغه، هو معالي الشيخ عبدالله السعد القبلان (1328-1414) الذي ولد غرب تربة في ديرة الشدادين بين الحجاز ونجد، وتوفي أبواه في يوم واحد سنة الرحمة عام (1337)، فانتقل بعدها بثلاث سنوات إلى الرياض وعاش في بيت الشيخ عبدالله السليمان وأخيه حمد مع أولادهما، وكان الشيخان يعملان مع الملك عبدالعزيز، ويعد أولهما أحد أهم رجال الدولة وأول من سمي وزيرًا قبل تكوين مجلس الوزراء بأكثر من عقدين.

عاش الفتى مكرمًا في بيوت السليمان؛ ثمّ ذهب إلى البحرين للاستشفاء من مرض دهمه، وقضى فيها قريبًا من عام يبتغي العلاج في مستشفى الإرسالية الأمريكية، وعاد لبلاده عام (1344) مستردًا بعض عافيته غير أنه فقد يده اليمنى التي بترت من الساعد، ولم يمنعه ذلك من طلب العلم بمكة والدراسة في مدرستها ومعهدها ابتداء من عام (1345)، حتى نال شهادة أعلى معاهدها عام (1352).

ومن الطريف أنه اختير لإلقاء كلمة الطلاب أمام نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل -الملك فيما بعد-، وبعد أن فرغ من الكلمة المراجعة من قبل لجنة الحفل، أخرج كلمة أخرى بديعة في الصياغة، وجريئة في تلك الأيام، طالب فيها بنقل تجربة التعليم من الحجاز إلى نجد وباقي المناطق، ومع أن المنظمين لاموه على اجتهاده الذي أحرجهم، إلّا أنّ الكلمة أعجبت الأمير، وويل للحقائق والآراء الصادقة من تفسيرات بعض المحيطين الذي يسعون للظهور بهيئة الحريص الحذر الفطن!

ثمّ خطط للابتعاث فلم يتيسر له مع قربه من الوزير؛ لذلك دخل إلى مجال الخدمة العامة في وزارة المالية بوظيفة صغيرة وظل يترقى حتى بلغ مراتبًا عالية خلال ثلاثة عقود، ولم ينس فضل الوزير الأول عليه فقال: “تربيت في كنف عبدالله السليمان منذ الطفولة، وتعهدني وأكرمني، وأحسن إليَّ في كل مراحل عمري، وسعى إلى ترقيتي في كل وظائفي في الدولة إلى أن صرت وكيل وزارة، ولا أزال أذكر عطفه وحنانه في معاملتي”.

بعد ذلك صدرت أوامر بتعيينه وكيل وزارة المالية للخاصة الملكية، وبعدها نقل للعمل وكيلًا لوزارة المواصلات في عهد وزيريها المتعاقبين الثاني والثالث الأميرين سلطان (1375-1380)، وبدر (1380-1381)، ثمّ أصبح رابع وزير للمواصلات بعد ثلاثة أمراء أولهم الأمير طلال الذي يعدّ أصغر من جلس على كرسي الوزارة سنًا في تاريخ مجلس الوزراء السعودي.

لكنه لم يمكث طويلًا في منصبه إذ أعفي منه بعد أقل من سنة على إثر إعادة ترتيب طريقة العمل في المجلس، ويعتقد البعض أن إقالته جاءت على إثر مقالات كتبها، وفسرت بتأويلات قد تجافي الصواب، وهي المقالات التي جمعها في كتابه المفقود “رموز على اللوحة”، ولا يبدو هذا التفسير دقيقًا؛ لأنه سمي وزيرًا بعد نشر بعضها بسنوات، فضلًا عن مشاركته بعد الوزارة في رئاسة أو عضوية مجالس إدارة مؤسسات تجارية وخدمية وتعليمية وخيرية، إلى أن ارتحل عن الدنيا في أوائل شهر ذي الحجة عام (1414).

وحين غادر الوزارة كتب الشيخ حسين منصوري مقالة بعنوان: “وداعاً أيها الوزير” أدلى فيها بشهادته قائلًا: “من العسير على أي مواطن أن يذكر اسم وزارة المواصلات دون أن تقترن في ذهنه باسم عبدالله السعد فقد ارتبطت به هذه الوزارة وارتبط بها فهو ابنها البار حقًا وصدقًا”، وهذه كلمة مهمة من الرجل الذي غدا سابع وزير للمواصلات؛ علمًا أن وزارة المواصلات أيام الشيخ السعد ومن قبله تشمل قطاعي النقل والاتصالات، وله يد طولى على هذين القطاعين منذ عمله في وزارة المالية ثمّ انتقاله إلى المواصلات وكيلًا فوزيرًا، كما أثنى الأديب إبراهيم الحسون في عدة مواضع من مذكراته المطبوعة على تعاون السعد ولطفه وحرصه على الصالح العام.

وللوزير الشيخ عبدالله السعد جهود ثقافية تمثلت في تأليف عدة كتب ظهر منها ثلاثة أحدها في حكم المفقود من المكتبات والسجلات كما أشرت آنفًا، وبقي غالبها مخطوطًا مجهول المصير ومن أهمها سيرته الذاتية بعنوان “سيرة يتيم” التي لو نشرت لأصبحت من أوائل السيرة الذاتية المنشورة لوزير سعودي فيما أعلم، وهي من النصوص الغائبة تمامًا مثل سير وكتب أخرى، ولعل سيرورة الزمن كفيلة بعد إرادة الله بإظهارها، أما أول مقالة نشرت له فكانت في صحيفة أم القرى عام (1349).

بينما نشرت أغلب مقالاته في صحيفة البلاد التي كان عضوًا في مجلس إدارتها، وبعضها في مجلة المنهل الثقافية المتينة، وللشيخ السعد علاقة صداقة أدبية وثيقة مع الأستاذ عبدالقدوس الأنصاري صاحب المنهل، وتمتاز مقالات الوزير الشيخ بسهولة العبارة، والتركيز على المعنى، والابتعاد عن التشخيص حتى يطول عمر المقالة، وتنتشر فكرتها، ولا غرابة بعد ذلك أن يهدي كتابه الأهم “إلى من يحاسبه ضميره قبل أن يحاسبه الناس”.

ومن أخباره إبان وزارته ما نقلته صحيفة القصيم أنه طلب من مجلس الوزراء إصدار ترخيص لإنشاء إذاعة “طامي” لعبدالله بن سليمان العويد؛ ثمّ اقترح صرف مكافأة تشجيعية له على تشغيله الإذاعة قدرها عشرة آلاف ريال، وهذا التصرف منسجم مع مساعي الوزير الثقافية لتبصير الناس، وفتح منافذ أخرى للمعرفة والوعي.

ويدعو الشيخ السعد إلى تنويع مصادر الدخل، وألّا يكون الاعتماد على النفط فقط، وسطّر جوابًا مختصرًا لتحقيق صحفي قائلًا: ” وهنا يجب أن نضع نصب أعيننا أن هذا المورد، إنما هو مورد مؤقت بل هو كالإناء المملوء لا يلبث أن يتناقص شيئًا فشيئًا من جراء الاستعمال، حتى ينضب إن عاجلاً أو آجلاً، فاذا نضب ونحن كما كنا، لم نتزود شيئا إلّا في الرفاه والترف وبعض المظاهر السطحية عدنا إلى وضعنا قبل عشرين سنة، فقراء بدائيين، بل ستكون النكبة أكبر لأننا قبل عشرين سنة كنا نقنع بالقليل، ونرضى بشظف العيش ولم تتفتح أنظارنا على أسباب الراحة ومقومات الحضارة الحديثة، أما اليوم وقد سايرنا ركب الحضارة، وأخذنا بوسائلها ومستلزماتها، فإن رد الفعل سيكون قاسيًا ومؤلمًا بالنسبة لنا”.

كما يحفظ كتاب الرسائل الموجهة للأستاذ الشيخ عثمان الصالح رسالة من الوزير الكاتب مؤرخة في 16 من شهر ذي القعدة عام (1385) ورد فيها: “فلان سياسي أكثر منه مؤرخًا، وظاهره فيه الرحمة…، كما أنه يبتعد دائمًا عن المشاكل ويغني لها، لاسيما وأن مشاكل كعب الأحبار لازالت قائمة لدى حفظة النصوص وحملة الأسفار، وأما التاريخ فإنه عندهم ثانوي حتى ولو كان عن وقعتي بدر وأحد؛ ولذلك فلن يجيب على أسئلتك”، وفي هذا النص يبدو لنا معرفة السعد بالرجال، وقدرته على الترميز الواضح، وحرصه على الدفع بمسيرة الثقافة والأدب، ومما يذكر بالمناسبة أنه حث المعلم القديم الأستاذ الصالح على الكتابة منذ عام (1378) فامتنع أولًا ثمّ تدفق قلمه بعد ذلك.

من عباراته الجميلة وصفه صنيعه مع رموزه ومقالاته بأنه مثل الخياط الذي يفصل الثياب على مقاسات مختلفة؛ وكل واحد يلبس ما يناسبه على ألّا يظن أنها مصممة له مهما تشابهت مع أوصافه ومقاساته، وهذا مطلب عسير على البشر أهل الشك وسوء الظن، حتى لو كرر الطلب بأن لا تحمل عباراته أكثر مما تحتمل، ولعمركم إن الكتابة لورطة كفانا الله وإياكم شرورها.

ويوصي المخلص ألّا يكون جسرًا تعبر فوقه مواكب الطامعين والمغرضين، ويؤكد على أهمية حراسة البناء الشامخ من الانهيار ولو صاحبت عملية الحراسة تعقيدات وصعوبات، فستطلع الشمس يومًا ويرى حماة الحق السباع الضواري تحيط بالفريسة فينتصرون لها حتى تعود الأمور إلى نصابها، ويحث على ردع الجهال والسفهاء عن الزج بأنفسهم في معارك لا يستطيعون حمل أسلحتها.

كما يمقت سلوك الحرباء المتلون ولا يحبه، ويعد الإنسان البصّام -الذي يوافق على كل ما يقوله رئيسه-كارثة يزداد خطرها بعلو منصبها، وبسمو وأنفة يلفت النظر إلى أنّ كل شيء في حياة جامع النفايات نفايات: فكره وقوله وفعله ورفاقه، ويشير إلى أن الصارم الخبي يزداد مضاءً إذا كان يؤوي إلى ركن شديد؛ وكأني به يقول ويل لصارم بلا ركن!

ويلوم أهل النفاق والخداع كثيرًا، ويروي قصة مختصرها أن جارية لكبير المدينة ماتت فخرجت المدينة تشيعها وتبكي على شبابها وفراقها، وحين مات هذا الكبير لم يخرج معه أحد من المواكب الصفراء! ويبغض التزلف والمدح الكاذب، ويحب الصدق والنزاهة والعدل والانصاف، وهو بعيد عن المناطقية إذ كتب قبل رحيله بسنة ونصف السنة للشيخ عبدالمقصود خوجه مقترحًا عليه أن يكرم مجلسه الأدبي الشهير يوم الاثنين أدباء ومفكرين وعلماء من جميع مناطق المملكة.

هذه وقفات مع سيرة أديب ومثقف وكاتب ووزير ورجل أحب مواطنيه وبلاده وأمته والأخلاق الحميدة، وظل منافحًا عن عراقة مجتمعه ومصالحه، ساعيًا لبث ما يراه صوابًا وإن انزوى عن الأضواء وابتعد عنها مقابل انصرافها هي عنه، ولا يسعنا ونحن نذكر سيرته ونستحيي خبره إلّا حث كل من يقدر ويعلم على رفد مكتبتنا والمحتوى العربي بسير ومواقف يُسترشد بها؛ فهي من الماضي بما فيه، وزاد للحاضر، وعبرة للمستقبل.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 06 من شهرِ ربيع الأول عام 1441

03 من شهر نوفمبر عام 2019م 

Please follow and like us:

4 Comments

  1. جزاك الله خير علي ماذكرت ،، اعتقد انه تنحي عن وزارة المواصلات لتعديل وزاري في عهد الملك سعود ،، فاسدل له عضوية مجلس البنك الزراعي وكذلك مسؤول عند ديون الامراء وتقلد منصب في شركة الأسمنت بجدة ومن اعضاء شركة الكهرباء بالفربية وبعد وفاة بن لادن اصبح هو وباحارث مسؤؤلين عن مؤسسة بن لادن وكلف بادارة لمساعدة منظمة فتح والفلسطيين ..وهناك الكثير ، وبعد صدوره للكتاب المفقود عزل مماذكر ..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)