سير وأعلام شريعة وقانون

ابن جبير: الشّيخ الإداري!

ابن جبير: الشّيخ الإداري!

أعانني الله فيما سلف على كتابة مقالتين عن معالي الشيخ محمد بن جبير، وثلاث مقالات عن نائبه معالي الدكتور عبدالله نصيف، ومن فضل الله أني استقبلت عددًا من التعليقات والإضافات التي تساعدني على كتابة هذه المقالة الثالثة وربما الأخيرة عن الشيخ، ليتساوى عدد مقالات الرئيس ونائبه، وهي من الموافقات التي تعجبني، سائًلا الله الاعتصام به دومًا مع النفع والموضوعية.

أشرت فيما مضى إلى بر الشيخ بوالده وخفضه جناحه لأبيه حتى أنه يضع راتبه بين يديه مطلقًا له حرية التصرف الكامل فيه، فأخبرني أحد الأصدقاء نقلًا عن رجل معروف وثيق الصلة بابن جبير ما ملخصه أن الشيخ اجتمع لديه مبلغ مالي فاشترى به عمارة في مكة، واصطحب والده إلى العمرة؛ وإن أداء العمرة مع الوالدين لأجر عظيم وتوفيق من الله، ثمّ أوقف أباه على العمارة ولاحظ إعجابه بها، فانفتل الشيخ من فوره إلى كتابة العدل ونقل ملكية العمارة إلى والده سمحة بها نفسه!

ويستمر لطف الشيخ وإكرامه حتى مع غير أسرته، فمن ذلك أنه حين كان وزيرًا للعدل ورئيسًا لمجلس القضاء الأعلى لا يدخل لغرفة الاجتماعات قبل سماحة الشيخ عبدالعزيز بن صالح، ويقدم الوزيرُ ابن جبير إمامَ الحرم المدني ابن صالح على نفسه مع أن الشيخ الصالح عضو وابن جبير هو الرئيس، وذلك من تقدير معاليه لسنّ الشيخ وحفظه.

كما روى لي فضيلة القاضي وعضو المجلس لاحقًا الشيخ سليمان الماجد نقلًا عن معالي د.سعيد المليص أن الشيخ إذا ذهب على رأس وفد زائر، ونزل من سيارته لا يتحرك من موضعه مع أن مثيله المضيف يقف على بعد أمتار منه، وينتظر الشيخ اكتمال الوفد معه ليسيروا معًا، وينالوا مزيد عناية في الاستقبال والحفاوة مع رئيسهم الحنون.

بينما يتأكد من مواقف كثيرة عناية الشيخ بتسهيل الإجراءات العدلية، ونقلت سابقًا حبوره بصدور أنظمة الإجراءات الجزائية ونظام المرافعات وسعيه لمدونة قضائية نافعة حسب اجتهاده، فأخبرني معالي الفريق د.عبدالإله الصالح أن ابن جبير كان يحدثه مع آخرين كثيرًا عن رغبته الجادة لإصدار نظام إجراءات جزائية، وآخر لإجراءات مدنية بعد صياغتهما، وكان الملك فهد يساند مقترحه بيد أنه لم يتحقق كاملًا لوجود اجتهادات أخرى، مع حرص الشيخ على دقة الصياغة وإقناع الأطراف الأخرى.

ولبراعة الشيخ في فهم الشريعة والأنظمة أعلمني زميل نقلًا عن أحد المقربين للشيخ أن الملك فيصل يضع في مكتبه ملفات للمعاملات التي لم يحسم شأنها، ثمّ يدعو ابن جبير وحده، ويغلقان باب المكتب عليهما، ويبدأ ابن جبير في فحص الملفات بدقته المتناهية المعروفة، ويكتب رأيه بقلم رصاص تأدبًا مع الملك ثمّ يعرضها عليه، فإذا وافق الملك على رأيه كتبها بحبر حي ليوقعها الملك، وتستكمل باقي خطوات العمل عليها.

وللشيخ حرص على المال العام، فحين أفردت مجلة خليجية ذائعة الصيت ملحقًا عن المجلس دون اتفاق على مقابل مالي، تفاجأ المجلس بفاتورة من المجلة ليس لها حجز مبلغ مالي، فلما تأكد الشيخ أن المجلس غير ملزم بدفع مبلغ لم يتفق عليه مسبقًا صرفه من حسابه اتقاءً لشرور المجلة! وكان يتردد كثيرًا قبل توقيع أيّ تعميد مالي ثمّ يقول: لا أعرف كيف سيكون الوضع لو كنت مسؤولًا عن وزارة خدمية، والواقعتان أنبأني عنهما الأستاذ عبدالرحمن الصغير مدير عام الإعلام والعلاقات العامة في المجلس سابقًا.

بينما تمتاز إدارة الشيخ بالسلاسة في موضعها، والحزم في مكانه، فمن ذلك ما نقله لي الأستاذ صالح الشويرخ المستشار في إدارة البحوث والدراسات بالمجلس أن الشيخ كان يثني كثيرًا على جهده في إعداد التقارير الدورية، ويوجه له كتب الشكر ويطلب نشرها في الصحافة، ويؤكد عليه ألّا ينقطع عن عمله الإبداعي الذي يفوق عمل آخرين غيره قائلًا: أنت بعملك تصنع الكثير.

كما أنه حازم في إدارة جلسات المجلس، وله في ذلك مواقف، فذات مرة تجاوز عضو الوقت المحدد فأوقفه الشيخ بقوة النظام وبقدرته على ذلك تقنيًا، لكن العضو رفع صوته معترضًا قائلًا للشيخ: أنا مثلك جئت هنا بأمر من الملك! فأجابه الشيخ بهدوء: هذا صحيح ولكن نظام الجلسات يسري عليك وعلى غيرك! وأطنب آخر بالحديث حسب اعتياده الإعلامي فقال له الشيخ: لسنا في مجال الظهور واستعراض المعلومات فإما أن تتكلم في صلب النقاش أو دع المجال لغيرك، وحين نقل معاليه الكلمة للعضو التالي وهو د.زاهر الألمعي خاطب الرئيس بقوله: ليس عندي شيء لأني نسيت ما كنت أنوي التعليق به!

ولا يأنف الشيخ من الحق، ولا يحتجز الفضل لنفسه، فيأخذ بأي مقترح نافع وينسبه لأهله، وبعد أن طالبه موظف بالمكافأة المقررة لمن يعمل في قطاع حكومي، وهي خمسون ألف ريال انقطعت منذ زمن، أجابه الشيخ بقوله: قدم شكوى على المجلس في ديوان المظالم ولاغضاضة عليك؛ فإن حكم على المجلس صرفنا المبلغ لك ولغيرك حسبما حكاه لي الأستاذ الشويرخ.

أيضًا ينقذ الشيخ الموقف ببصيرة وحكمة، من ذلك أنه ذهب في زيارة برلمانية إلى الفلبين، وفي لقاء رسمي خاطب أحد أعضاء الوفد من أعضاء مجلس الشورى نظراءه من الفلبين قائلًا: نريد زيادة استقدام العمالة المسلمة من بلادكم، فالتقط الشيخ الكلمة وقال بأن الزميل خانه التعبير ونحن نريد العمالة المحترفة منكم التي تنفع بلدنا وتعطي صورة حسنة عن بلدكم، وبعد نهاية اللقاء لام الشيخ العضو على كلمته الخالية من الحكمة.

أشير أخيرًا إلى أن الشيخ ابن جبير ورده تساؤل عن الأسماء المقترحة لرئاسة المجلس فكتب عدة أسماء كان منهم معالي الشيخ د.صالح بن حميد الذي خلفه مباشرة، ومن المواقف التي تذكر في هذا السياق أن أحد الصحفيين استعجل وغابت عنه الحصافة، فسأل الملك عبدالله -وكان حينها وليًا للعهد- من سيخلف الشيخ الراحل في رئاسة المجلس؟! وكان الأمير-الملك فيما بعد- يرتقي حينها عتبات بيت الجبير لعزاء بنيه وآله فتوقف وخاطب الصحفي دون تعنيف بقوله: أتينا هنا للعزاء وليس هذا بموضع لسؤالك!

ألا ما أجمل السير التي تبين عن معدن أصحابها النفيس، وقدراتهم العالية، ومواقفهم المباركة التي تصلح أن تكون نبراسًا وقدوة لمن بعدهم، وإذا لم يسجل هؤلاء العظماء حياتهم لسبب أو آخر، فلا أقل من أن نستذكرها ونرويها ليبلغ الحاضر منا الغائب، ويعلم السابق اللاحق، فهؤلاء آبائي، وبهم نفاخر، وإلى أمثالهم يجذبنا الحنين، والله نسأل أن يوفق من يَختار ومن يُختار لخدمة الدار والديار، وإدارة الحاضر مع صنع المستقبل، دون إغفال توقير صواب الماضي.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 07 من شهرِ صفر عام 1441

06 من شهر أكتوبر عام 2019م 

Please follow and like us:

2 Comments

  1. ابدأ من حيث انتهيت أستاذ أحمد بالتأكيدعلى كلامك إذ قلت (ألا ما أجمل السير التي تبين عن معدن أصحابها النفيس، وقدراتهم العالية، ومواقفهم المباركة التي تصلح أن تكون نبراسًا وقدوة لمن بعدهم) رحم الله ابن جبير رحمة واسعة وهو حري بأن يصدر أعضاء مجلس الشورى سابقا كتابا عنه ، بأن يوزع لإدارة العلاقات العامة والإعلام في المجلس باستكتابهم عنه وعن العلامة ابن حميد الشيخ الفقيه اللطيف والشيخ عبدالله بن محمد آل الشيخ حفظهم الله ورعاهم .
    بقي لي تنبيه على المقال وهو فتوى العلامة ابن باز تغمده الله بواسع رحمته :
    س: ما رأيكم في المؤسسات التي تستقدم العمال من الكفار؟
    ج: لا يجوز استقدام العمال من الكفرة إلى هذه الجزيرة العربية، لأن الرسول ﷺ أوصى بإخراج الكفار منها، وقال: لا يجتمع فيها دينان، وقد نفذ ذلك عمر .
    وقد نبهنا على هذا غير مرة في برنامج نور على الدرب، وفيما نكتب في الصحف ولولاة الأمور وفقهم الله لكل خير.. لأن هذه الجزيرة لا يجوز أن يقيم فيها المشركون لما ذكرنا آنفا، ولا يجوز السماح لهم بدخولها إلا لحاجة كباعة الحاجات، التي تستورد من بلاد الكفرة إلى هذه الجزيرة، وكالبرد الذين يقدمون من بلاد الكفرة لمقابلة ولي الأمر في هذه الجزيرة، أما أن تكون محل إقامة لهم فلا يجوز ذلك.
    وهكذا لا يجوز منحهم الجنسية.. أعني جنسية سكانها لأن ذلك وسيلة إلى الإقامة بها.. لأن الرسول ﷺ أوصى بإخراج الكفار من هذه الجزيرة كما تقدم، ويجب أن يمنع من كان منهم فيها من إظهار شعائر دينهم.
    أما استقدامهم ليكونوا عمالا أو موظفين فيها، وما أشبه ذلك فلا يجوز ذلك، بل يجب الحذر منهم.. وأن يستغنى عنهم بالعمال المسلمين، ويكتفي بهم في العمل بدلا من الكفار، إلا عند الضرورة القصوى التي يراها ولي الأمر لاستقدام بعضهم لأمور لابد منها، ولا يوجد من يقوم بها من المسلمين، أو صنعة لا يجيدها المسلمون، والحاجة ماسة إليها.. أو نحو ذلك، ثم بعد انتهاء الحاجة منهم يردون إلى بلادهم، كما أقر النبي ﷺ اليهود في خيبر للحاجة ثم أجلاهم عمر ، لما زالت الحاجة إليهم[1].
    (مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز 5/ 74).

    1. جزاكم الله خيرا يا د.عيسى، وأتصور أن موقف الشيخ ابن جبير في الفلبين لايخالف هذه الفتوى ومقصده أنه لاداعي أن نقول ذلك لهم علانية وهو مقتضى التعامل بحكمة سياسية كما لا يخفاكم.
      والله يرعاكم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)