إدارة وتربية

حكاية تخفي حكايا!

حكاية تخفي حكايا!

‏هل يصح النظر إلى أيّ حدث أو قصة على أنه أكمة تخفي تحتها شيئًا؟ من الصعب أن نقول نعم، ومن المستحيل أن نقول لا، ولذا روي من الحكمة ما معناه أن الشأن كله في استشراف نتيجة دقيقة بعد رؤية مقدمات عمومية، وهي سمة ذوي البصائر، وخصيصة ضرورية للقادة والمرجعيات في بيئاتهم ومجتمعاتهم، وأما بعد اكتمال الصورة فما أكثر الحكماء ومن يدعي أنه توقع المآل مسبقًا.

ومن المهم أن يبقى التحليل في دائرة الممكنات والظنون ولا يرقى للقطع مالم تتظافر عوامل ترتفع به من موقع الاحتمال إلى خانة تلامس المؤكد، وعلى أي حال فمن طريقة العقلاء وضع مخرج لكل مدخل آتٍ، وصنع منفذ من أي زاوية قادمة، واستجابة رشيدة للتحديات المنتظرة، وبهذه الحيطة مع التخطيط تكمن السلامة والنجاح، ويأمن الناس من المباغتة والأخذ الشديد على حين غرة.

فمن ذلك ما روي بعد خسارة جيش الكويت في موقعة الصريف الشهيرة عام (1318) على يد الأمير عبدالعزيز بن رشيد ثمّ عودته إلى بلاده، إذ سأل الشيخ مبارك الصباح الإمام عبدالرحمن الفيصل: هل هناك أمل في العودة إلى نجد؟ فأجابه: إن فعل ابن رشيد كما فعل عمه الأمير محمد بن عبدالله بن رشيد بعد وقعة المليداء عام (1308) فلن نعود، وإن سام الناس خسفًا وظلمًا فقطعًا سنعود، وكانت الأخرى، وصار المستقبل كما قال بعد سنة واحدة فقط، وتلك هي الحكاية المستخلصة من التاريخ وأحداثه فهل من مدكر؟

وحين كانت بريطانيا سيدة العالم والبحار أجبرت المشيخات المتساحلة عند شاطئ الخليج الغربي على توقيع اتفاقية مهادنة في البحر فقط حماية لمصالح الإنجليز وسفنها التجارية والعسكرية، أما في البر فلهم حرية النزاع والقتال حتى لو انتهكوا جميع الأعراف، وسالت دماؤهم إلى آخر قطرة مالم تمس مصالح ‫لندن بسوء، أو تتضرر سيادتها البحرية، وكانت ولا تزال تلك هي حكاية المصالح العليا المحركة لقرارات وإجراءات وجيوش ومواقف، ولا ندري أين موقع هذه المصالح من الإعراب في شرقنا مع كثرة ما فيه من أسباب قوة!

وإنه لأمر مذهل حين نعلم أن جلّ التطورات والاكتشافات في أمريكا أو روسيا أو غيرهما من البلدان المتقدمة الغازية جاءت لأغراض عسكرية بادئ الأمر، وسنزداد ذهولًا من استثمارهم لها بعد ذلك في حقول مدنية صناعية وتقنية وزراعية وغيرها، ثمّ تصديرها للعالم وجني المال والأرباح منها ليكتشفوا غيرها، وهذه إحدى حكايات ثراء العالم الأول وريادته البحثية، وحكاية نهمنا الاستهلاكي؛ فنحن سوق لمنتجاتهم ولولا ذلك فليس لحياتنا معنى في قاموس الغزاة البيض، وسجلهم في الحروب والاحتلال والإبادة يشهد.

وتزعم العرب أن مع كلّ شاعر شيطان يوحي له ويلقي على لسانه، ويضيفون أن شيطان جرير والفرزدق-مع خصامهما الظاهر- واحد، فجميع شعرهما في التفاخر والهجاء العنيف منبعه حسب هذه المقولة يصدر عن شيطان واحد جالس على أريكته يحرك أدواته ويهيجها على بعضها كما يشاء! وفي غير الشعر قد تكون تلك هي الحكاية التي تفسر كثيرًا من التناقضات والصراعات بين أطراف تعود إلى ذات المرجع، أو تصدر عن آمر واحد.

كما قرأت أن الوزير ابن العميد يغار من شاعرية المتنبي، ويتمنى أن يحظى منه بقصيدة مديح أو رثاء لمن يموت من أقاربه؛ فلم يفعل المتنبي مما أحفظ ابن العميد عليه، وحين ماتت قريبة الوزير دخل عليه صديقه ليعزيه في وفاتها، فلاحظ على ابن العميد حزنًا عميقًا، ولم يفلح في مسح الكآبة عن محياه، فأخبره الوزير بأن الموت حق وإنما حزنه على أن كتب العزاء وردته من أصقاع الدنيا وهي مصدرة بقول المتنبي: طوى الجزيرة حتى جاءني خبر….، وكم كانت الغيرة حكاية خفية وراء كثير من حكايا التصرفات الطائشة والمستهجنة، ويبقى القبول والانتشار من الله وليس من تدبير البشر مهما اجتهدوا، وتلك حكاية أخرى.

وبعد أن عبر أحد أمراء الأندلس من عند نخاس وسمعه يروي للغلمان الصغار شعر عنترة وهم يرددونه وراءه نهره زاجرًا ناهيًا، وأمره أن يعلمهم شعر المخنثين وأشعار الغزل كي يتراخوا، ويزداد خضوعهم، وينشغلوا بشهواتهم، وأن يجنبهم حفظ شعر هذا الفارس المقدام الشجاع الذي لا يهاب، حتى لا تتشبع نفوسهم بمعاني الأنفة والعزة، وتلكم هي الحكاية خلف كثير من التفاهات.

‏وربما يضطر المعالج لفحص حساسية مريضه تجاه الإجراءات الجديدة والجريئة؛ فيحقنه بمادة خفيفة الأثر خلسة أو ببطء أو بتغيير شكلها؛ فإن تقبلها الجسم دون مقاومة أعطاه الحقنة الأشد، وإن ظهر على الجسد شيء غير طبيعي توقف أو غير خطته العلاجية، وقد يلغى الفكرة من أصلها، وتلك حكاية تقف خلف إشاعات غريبة أو مستندات مزورة تنتشر بين فترة وأخرى؛ فإن راجت أتى ما هو أطم منها وأعظم، وإذا قوبلت باستهجان كانت نهاية المطاف أبدًا أو إلى أجل.

وعندما فشلت المخططات في إقحام بنات بلد ما في الأعمال الفنية من تمثيل وغناء ورقص، كان الحل بزج نساء من ذات البلد ينتمين لأقليات دينية أو مذهبية أو اجتماعية، أو ذوات تربية غربية، ليصبحن رأس حربة في إفساد بنات ذلك المجتمع؛ ويبرزن على أنهن النموذج والقدوة، فهذه العينات لا تقيم وزنًا لشيء البتة، ولا تستحي من قول أو فعل، وتلك هي حكاية تقف خلف إفساد غالب المجتمعات المسلمة.

لذلك لا تستغرب، فهناك من يُستأجر لفعل أو قول حسن! وهناك من يُستأجر لفعل أو قول قبيح؛ حتى يُقال: هلك الناس وفسدوا، والحقيقة غير ذلك؛ فالمجتمع العريق يحافظ على ثوابته وركائز استقراره، وينفي خبثه الدخيل أيًا كانت كميته وكيفيته، فالمحتد الكريم يرجع إلى أصوله وإن غرّد بعيدًا، وتلك هي حكاية مجتمعات تاهت ذات اليمين وذات الشمال، ثمّ عادت إلى مركز الدائرة مع أول فرصة سانحة لها.

‏ولم يتركنا الله فريسة لأهل المكر الخفي، فهناك طريقان جوهريان للتعامل مع شياطين الإنس والجن، فشيطان الجن تطرده البسملة فقط خلافًا للشيطان الإنسي الذي ربما يتمتم لسانه بالأذكار تظاهرًا دون أن يتأثر بها، لكن شيطان الإنس يمكن اكتشاف خداعه ومكره في الدنيا ثمّ يركل بعدها خلافًا للجني الذي لا تفضحه سوى جهنم أعاذنا الله وإياكم منها، ولا موضع للندم أو التصرف حينها، فهيّا بنا نجابه تلك الشياطين اللئيمة؛ فإما أن نبسمل، أو نركل، حتى نسلم ونغنم، ونعلم يقينًا أن هذه هي كل الحكاية.

أخيرًا فهذه مجموعة تغريدات في أوقات مختلفة تشير إلى فكرة متشابهة، أحببت جمعها في موضع واحد عسى أن تكون مفيدة، وأتمنى ألّا تُعصر أو تلوى لتوافق فهمًا في ذهن القارئ، أو تتقاطع مع واقع أو أشخاص؛ فصفتها الأبرز أنها عامة مفتوحة، وأما تأطيرها وتنزيلها على الوقائع وغيرها فمسؤولية من فعل وليس من كتب، وتلك هي الحكاية!

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الخميس 04 من شهرِ صفر عام 1441

03 من شهر أكتوبر عام 2019م

 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)