الجميح وقرن من الكفاح والإحسان
طويت قبل قليل آخر صفحة من مئة عام عاشها الوجيه الكريم الشيخ محمد بن عبدالعزيز العبدالله الجميح (1341-1441) فما عرف عنه إلّا حسن التربية، وعظيم الكفاح، والجدية الصارمة، ثمّ نجاحات متوالية وإحسان يتبع آخر سواء في بلدته شقراء الجميلة، أو في باقي مناطق المملكة وغيرها.
تلقى الراحل أولى جرعات التربية القويمة على يد والده الشيخ الكبير عبدالعزيز العبدالله الجميح المتوفى عام (1376)، وفي رحاب والدته الكريمة هيلة ابنة قاضي شقراء الشيخ إبراهيم العبداللطيف المتوفاة عام (1399)، ثمّ درس في الكتّاب، وكان لمجموع هذه البدايات الرشيدة أثر بالغ على الرجل، فهو محافظ ليس على صلاة الجماعة فقط، بل على الصف الأول في المسجد، ولم يترك الحج والعمرة حتى وهو على كرسي متحرك، ولم يجعل ماله سببًا في ما يسوء أو يشين، وحين علم بحريق أصاب أحد معارضهم في جدة ربطه مباشرة بتأخير صرف بعض المبالغ الزكوية التي كانت في طور التوزيع كما ذكر الشيخ سلطان الدويش.
وإضافة لما تحصل عليه من تعليم في الكتاتيب، صقلته مجالس أسرته العريقة وملازمته لوالده المثابر، ثمّ مشاركته في رحلة الكفاح مع أبيه وعمه محمد العبدالله المتوفى عام(1425)، وأخيه عبدالرحمن المتوفى عام (1431)، وأخيه حمد أطال الله عمره على خير، ومن ذلك أنه عمل صبيًا أول الأمر في دكان والده وعمه، ثمّ تدرج حتى غدا رئيس مجلس المديرين للشركة، وهذه ثمرة أي كفاح نظيف مع الملاصقة الدائمة للكبراء وأهل الخبرة، وكم تفقدها أجيال تعيش أجسادها بيننا، بينما تسبح أرواحها مع جهاز لوحي مضامينه أوهى من لوح تقذفه الأمواج هنا وهناك.
لم يبلغ الشيخ محمد العبدالعزيز الجميح هذه المكانة الرفيعة بمقتضى الوراثة، بل سعت إليه المسؤولية بما وهبه الله من جدية وصرامة في العمل حتى أنه لا يكاد ينقطع عن مكتبه إلّا لسفر أو في إجازة، وبمثل هذا الانضباط يكون البناء، وحماية المكتسب، والاستمرار في الإنجاز، وأما اللهو والتراخي فمآلهما إلى انكسار وثبور وذبول.
وذكر لي بعض من عمل مع الشيخ أن طريقته القيادية أشبه بقيادة ظل، بمعنى أنه ملتزم بالإدارة الجماعية ولا يستبد برأي، وأعطاه الله حب المشاورة وتبادل الآراء، ويصف الموظفين بالشركاء، ثمّ إنه دائم التفويض لمن يستحق أو يراد تأهيله وتهيئته، ومع التفويض متابعة تجمع بين حزم المدير، ولطف المربي، فلا إفراط ولا تفريط، وبذلك يضمن الشيخ سلاسة العمل، وديمومة التعاقب.
ومع هذه البصيرة الإدارية، والانفتاح التجاري بمشروعات غير مسبوقة، رزق الله الراحل الكريم مع من سبقه وهو رابع أربعة أفذاذ مضوا من هذا البيت العريق حب الانفاق حتى صار العطاء مجلبة عنده للسعادة كما لو كان رقمًا مضافًا، وهذا من توفيق الله لهم، فالعطاء في العدد أرقام ناقصة، وهو في البركة خيرات مضاعفة، ومن تأمل تيقن من ذلك، فاللهم اعط منفقًا خلفًا؛ وقد ربح البيع آل الجميح.
لأجل ذلك لا يغيب اسم أسرة آل الجميح عن العمل المجتمعي والخيري في شقراء وغيرها من مدن المملكة، وتجد آثارهم ظاهرة في المجال الصحي، وفي دور الأيتام، وحين الحديث عن تأهيل الفقراء والأرامل والمطلقات، وضمن برامج التعليم والدعوة وحفظ الكتاب العزيز، وفي مشروعات العون على الزواج، وبناء المساكن، وتجهيز مغاسل الأموات، وغير ذلك من سبل الفضل التي تتبعوها ودخلوها ببصيرة ونية حسنة بإذن الله.
كما شمل إحسانهم الجوائز لحفظة القرآن الكريم والمتفوقين في التعليم بشقراء، ودعموا إقامة لقاءات لتعريف طلاب الثانوية بالتخصصات الجامعية واحتياجات سوق العمل، وساندوا برامج طويلة لتدريب المدربين على أن يقدموا برامج مجانية لمن طلبهم في المملكة، وزادوا فوق ذلك بترميم بيت آل الجميح بشقراء وبناء سوق مجلسها الشعبي، وخيركم خيركم لأهله، ولا ملامة فالأقربون أولى بالمعروف.
وقال لي رجل أعمال كبير: سمة آل الجميح الأساسية هي الطيبة وفتح الباب والتداخل مع المجتمع بتواضع خلافًا لطبع بعض الأثرياء ما بين صدود وكبر، ويثني الموظفون على رحمة الشيخ الراحل بهم، ويروون عنايته بخاصة شؤونهم حتى أنه يدفع ثمن عقيقة مواليد العاملين معه، ويلحظون جهوده الفائقة للوصول إلى رضا زواره وأضيافه وسرورهم، وتبادل الكلمات الرقيقة معهم، والابتسامات الصادقة، وتأكيده المتكرر على حسن الضيافة، وجعل الاستقبال على أكمل طريقة.
بينما أخبرني د.عادل السليم بقوله إنه تعامل مع الشيخ محمد ربع قرن أو أزيد، فما وجدت منه إلا الطيب وحسن الاستقبال وجميل الكلام وبشاشة الوجه وكثرة الترحيب، ويشعرك أن الفضل لك وليس له حتى تُصاب بالخجل، وهو كريم معطاء، لم أدخل عليه في طلب فرفضه، ولم أعرض عليه مشروعًا فامتنع عن دعمه، وهو مدرسة في الخير كله؛ حتى في الدعوة إلى عشاء بيته وهي دعوة لا يمل من تكرارها، ومع كثرة الأثرياء لم أجد أسمح من أبي إبراهيم، أو أكثر تواضعًا، وألطف سجايا.
وحين يُصلى عليه عصر يوم غد الخميس السابع والعشرين من شهر الله المحرم في جامع الإمام تركي، ويدفن في مقبرة العود، لا نملك مع الدعاء له إلّا عزاء أخيه الشيخ حمد، ونجله الشيخ إبراهيم، وكريمته الشيخة الجوهرة، وعقيلته الأميرة سارة بنت مشاري بن عياف آل مقرن، وعموم أسرة الجميح، وأهل شقراء، وقبيلة بني زيد، وعزاء خاص للعمل الخيري والمجتمعي أفرادًا ومؤسسات، ولعموم شعب المملكة الطيب الوفي المعطاء، المحب للخير والكرم وأهلهما.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
ليلة الخميس 27 من شهرِ الله المحرم عام 1441
26 من شهر سبتمبر عام 2019م
6 Comments
سلم يرعاك وإن عجزت الأحرف وتزاحمت الكلمات في وصف القامات الحقيقية في الخير والعطاء وبذل النفس والسخاء
رغم مكانته ووجاهته تجده ملبي لكل دعوة يدعى إليها رغم كبر سنه وقلة صحته فيحضر في الليلة الواحدة ثلاث الى أربع مناسبات زواج وغيره
يلبي الدعوة ويشارك الداعي أفراحه ويزور المريض ويدعو له ويواسي الحزين ويخفف عنه
لله درهم أسرةٌ مباركة
نسأل الله كما أعلا ذكرهم في الأرض بالخير أن يعلي منزلتهم في السماء بالفردوس الأعلى
لكم الشكر والثناء
رحم الله الجميح رحمة واسعة ، وشكرا أ.أحمد على مقالك التنويري هذا ..
ألا تتفق معي أن قولك في سياق المقال : (وحين علم بحريق أصاب أحد معارضهم في جدة ربطه مباشرة بتأخير صرف بعض المبالغ الزكوية التي كانت في طور التوزيع كما ذكر الشيخ سلطان الدويش) ، بها كلمة ناقصة وهي : (وحين علم بحريق أصاب أحد معارضهم في جدة رفض ربطه مباشرة بتأخير صرف بعض المبالغ الزكوية التي كانت في طور التوزيع كما ذكر الشيخ سلطان الدويش) ، ورحمنا الله جميعا يوم نلقاه .
شكرا لكم د.عيسى.
الرواية التي ذكرها الشيخ سلطان الدويش رأيتها في مقطع مسجل ويبدو أنه موجود في الشبكة، وذكر أن الشيخ الجميح لامهم باعتبارهم سبب الحريق الذي يراه عقوبة تأخير صرف الزكاة حسب اجتهاده الورع مع أن الزكاة مجدولة للصرف.
والله يرعاكم.
رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته
وجزاك خيرا أبا مالك.
ليتك أكثرت الترحم عليه وعلى من ذكر معه في ثنايا المقال. فهذا جزء من حقوقهم علينا.
رحمهم الله وغفر لهم وتقبل منهم صالح أعمالهم.
رحمهم الله وغفر لهم
الحقيقة أني أترحم عليهم أثناء الكتابة كثيرا وأتركها اختصارا وثقة بأن القارئ يترحم على من هذا شأنه.
وشكر الله لكم.