سياسة واقتصاد عرض كتاب

أبعاد سياسية في صلح الحديبية

أصبح الانغماس في الشأن السياسي أمراً شائعاً لعوامل متداخلة، منها ارتفاع الوعي الشعبي، وانتشار وسائل الإعلام والتعبير، والضغوط الدولية باتجاه شيء من الانفتاح السياسي، والانفراج الحقوقي، إضافة إلى الثورات العربية المفاجئة؛ التي حركت الساكن وأثارت الكامن.

وكم يجدر بالمسلمين أن يفهموا السياسة الدولية دون أن يتنكروا لمبادئ دينهم، وكم هو مفيد أن ينظر السياسي المسلم في علوم متداخلة كالتاريخ والاجتماع والسياسة، ومن ذلك دراسة الجانب السياسي في وقائع السيرة المحمدية المنيفة، وما أكثرها، وأعمق دلالاتها.

وبين يدي كتاب صغير الحجم، يدرس السياسة النبوية في واقعة خطيرة تحدث عنها غير ما مؤلف، ضمن كتاب خاص؛ أو مدرجة في موضوعات السيرة، ويكفيها أن الله أنزل عنها قرآناً يتلى في سورة الفتح، ولربما ظن البعض أن المقصود فتح مكة! وعنوان الكتاب: صلح الحديبية وأبعاده السياسية المعاصرة، تأليف د.عبد الحكيم الصادق الفيتوري، صدرت طبعته الثالثة عن دار المدني السعودية عام (2005 م)، ويقع في مئة وصفحتين من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة، ثم ثلاثة مباحث، فخاتمة بالنتيجة، وثبت بالمراجع، ثم مسرد الموضوعات.

أكد الباحث في المقدمة بأنه يؤلف هذا الكتاب لقيادات الأمة، وفيه نظرات سياسية، وتأملات حركية، وتجديد للصلة بين أبناء المسلمين والمصادر النصية الشريفة، من القرآن والسنة والسيرة، لما لها من تأثير إيجابي واضح؛ بعيداً عن منتجات أزمنة الملك العاض والجبري، التي أخرج بعضها النص الشرعي عن مضمونه ومآلاته، إلى تقريرات ومحترزات لم تكن موفقة أحياناً.

وفي هذه الدراسة دعوة للانعتاق من ذهنية الجماعة، إلى عقلية الحكم وقيادة الأمة، بعد قراءة صحيحة لمقتضيات الزمان والمكان والإنسان، وفق الضوابط الشرعية، والقواعد المقاصدية الملتزمة بها. ونعى المؤلف سمة الرفض السلبي التي ابتليت بها بعض القيادات؛ داعياً إلى المضي نحو الانفتاح السياسي، وكسر الحاجز النفسي، والاجتهاد لبلوغ الرأي الصواب في العناوين السياسية المدرجة ضمن هذا الكتاب، عسى أن يكون هذا الجهد لبنة في بناء صرح شامخ، للعمل السياسي المعاصر.

نص صلح الحديبية هو عنوان المبحث الأول، وفيه أورد د.الفيتوري نص الاتفاق، منقولاً من كتب السنن، والتاريخ والسير، معتبراً أن هذه الحادثة المليئة بالعبر، نموذج تطبيقي لنظرية العلاقات الدولية الإسلامية. وأما المبحث الثاني فعنوانه الحديبية وأبعادها السياسية، وذكر أن هذه الغزوة سميت فتحاً لأسباب منها:

  • ضمان حرية انتشار الدعوة في المجتمع المكي وما جاوره.
  • الاعتراف بكيان مستقل لدولة الإسلام، وهو اعتراف يكسر الحصار لأنه من أشد خصومها.
  • إتاحة الفرصة للمسلمين كي يصلوا أقاربهم الكفار، ويؤثروا فيهم بالسلوك التعاملي المميز.
  • الاعتراف بالقوة العسكرية لدولة المسلمين خاصة بعد فشل جموع الأحزاب.
  • تجفيف وجود الدول الكبرى في الجزيرة، والانفراد بالقوى اليهودية بعد تحييد قريش.

ثمّ انتقل د.عبد الحكيم بعد ذلك للأبعاد السياسية العشرة لصلح الحديبية، وابتدأ بتقرير مبدأ الحوار وهو البعد الأول، حيث برزت في الحديبية الواقعية على المثالية، وبعد النظر على الآنية، واعتبار المقاصد دون الاكتفاء بالظواهر، مع عدم الإخلال بمحكمات الشريعة. واستخدمت القيادة الإسلامية، الحوارات الشعبية والرسمية؛ لتحقيق أهدافها، ومعالجة مشكلاتها بواقعية، بعيداً عن التوجس الزائد، والخوف من التجربة والتجديد، ونتج عن الحوار التمهيد للتسوية، وتبادل الأفكار، ولم يحل الحوار دون استعراض قوة الردع من خلال بيعة الرضوان.

وأما البعد الثاني فهو تعظيم حرمات الله، ومراعاة ترتيبها وفق سلم الكليات الضرورية، والحاجية، والتحسينية، حسب قدرة الدولة، استضعافاً أو تمكيناً، وبالتفاعل الملائم مع مقتضيات الواقع، حتى وإن حقق التعظيم أهدافاً مشتركة مع الدول الأخرى؛ وليست مستقلة لدولة الإسلام، ونقل عن ابن القيم، التأكيد على إجابة الكافرين والمبتدعة؛ لتعظيم حرمات الله، وإعانتهم عليه، مالم يكن في ذلك مبغوض لله أعظم.

تقرير مبدأ التفاوض هو البعد الثالث، والتفاوض سمة إنسانية؛ لا يكاد يستغني عنها شخص أو مجتمع، وعملية التفاوض من العلوم التعايشية التفاهمية، التي أصبحت فناً يدرس للساسة والتجار، والمفاوضين. وفتح النبي في الحديبية قنوات شعبية ورسمية؛ لمفاوضة دولة قريش المشركة الجاهلية. ويقوم التفاوض على بناء أرضية مشتركة، وأحياناً يعمد المفاوض الحاذق لزرع بذور الشقاق داخل صفوف العدو، وربما استفاد أحد الأطراف من تعنت الطرف الآخر، بالحد من تأييد القوى المحيطة له؛ بسبب موقفه المتصلب، كما فعل الرسول بقبائل العرب تجاه قريش. ومن حكمة النبي الكريم دقة معرفته بشخصيات فريق التفاوض، والقيم العليا لديهم، فضلاً عن دلالات الأسماء، وحين بدأت المفاوضات الجادة، وضع الجانبان في خلدهما المصالح المشتركة، والتنازلات الممكنة، وبذلك انعقدت الاتفاقية على الحد الأدنى المقبول عند الطرفين.

ورابع الأبعاد هو تقرير مبدأ المصالحة، وهي نتيجة طبيعية للحوار والمفاوضة، التي حلت مكان السلاح والمواجهة الحربية، وفي ذلك تقرير لمبدأ المصالحة مع أي عدو، سواء ابتدأ الطلب من جانبه، أو بادر المسلمون بطلب الصلح، شريطة حفظ الدين، وتحصيل خير الخيرين ودفع شر الشرين، واحتمال يسير المفسدة رجاء دفع المفاسد العظمى. وبعض حكم الصلح وفوائده قد لا تظهر لعامة الناس؛ بيد أن العاقل منهم يركن لنضج القيادة السياسية، وتجانس أفرادها، وتحملهم المسؤولية، وتعظيمهم لدين الله، وحرصهم الأكيد على المصالح العامة. وفي السيرة الشريفة وقائع متعددة للصلح، حتى أضحى سمة بارزة في العلاقات النبوية الخارجية، ومنها يستفاد جواز الصلح لأحد هذه الأسباب الأربعة:

  • ضعف المسلمين، وهو حال ضرورة.
  • وجود مصلحة راجحة للمسلمين مادية أو معنوية، كنشر الدعوة، أو تنشيط الاقتصاد.
  • المحافظة على حسن الجوار.
  • حماية المستضعفين من المسلمين، وتأمين نشر الدعوة.

تقرير مبدأ الهدنة هو خامس هذه الأبعاد، والهدنة متنوعة؛ فمنها العسكري والإعلامي، والاقتصادي، وتجوز الهدنة حتى لو كانت مع من سبق قتاله، وهذا الجواز يخضع لقواعد السياسة الشرعية، والمهم الامتناع عن توقيع هدنة تحول دون تبليغ دعوة التوحيد، لأن ذلك يناقض أصل الإسلام، وهذا الحظر مستمر في جميع الأحوال والأطوار. ومع اشتمال صلح الحديبة على شروط كثيرة، إلا أنه خلا تماماً من أي شرط يمس الدعوة أو يحظرها، ولذا كان هذا الصلح فتحاً دعوياً كبيراً، وأدل شيء على ذلك؛ أن عدد جند فتح مكة، بلغوا أكثر من خمسة أضعاف جند الحديبية، مع أن الفرق الزمني بينهما عامان فقط!

أما البعد السادس فهو تقرير مبدأ المحالفة، فما أن فرغ الرسول من توقيع صلح الحديبة، حتى أبرم حلفاً مع قبيلة خزاعة الكافرة، ولم يكن باب التحالف مغلقاً؛ بل هو مفتوح لمن شاء من قبائل العرب وغيرهم. ويقوم الحلف على أسس أهمها تحديد قدرات الدولة المسلمة، وموازنة المصالح والمفاسد، والتبصر في المآلات، وتختلف باختلاف الأحوال، والزمان والمكان، والإنسان، والأصل فيها أنها لا تتعارض مع الولاء والبراء، ومفردات قضايا الإيمان. وقد أدى الحلف مع خزاعة إلى كسر شوكة قريش، ونقض وهم سيادتها، واختراقها ومراقبتها عن كثب، ومن حكمة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ أن توجه إلى خيبر للقضاء على يهود، بعد أن أمن جواره المكي باتفاقيتي هدنة وتحالف.

يختص البعد السابع بتقرير مبدأ جواز عقد اتفاقيات أمنية متبادلة، وغايتها إحباط العدوان أو ردعه، وكان من مضامين صلح الحديبية عدم إيواء المعارضين للدولتين، وإبعادهم أو تسليمهم، والإبعاد أفضل لأسباب دينية وإنسانية، وسياسية. وإن وجود دولة إسلامية، في محيط تسيطر عليه قوى الاستكبار والبغي، والكفر أو النفاق، سيضطرها للدخول في مواثيق ومعاهدات، وما أجدر قادة المسلمين، أن يحسبوا مالهم وما عليهم، قبل ولوج هذه الدهاليز التي لا مناص من أكثرها غالباً. ثم تحدث المؤلف عن عقوبة المرتد بالقتل، وهل هي حدية أم تعزيرية، وبحث حكم التعامل مع المرتد الذي أصبح يمثل دولة أخرى، وخلص إلى أنه لا فرق في التعامل السياسي بين الكافر الأصلي، والكافر المرتد، وفق الضوابط الشرعية.

مبدأ الاعتراف والتعامل مع العالم الخارجي هو البعد الثامن، حيث اعترفت قريش بدولة الإسلام حين وقعت معها الصلح، وبالمقابل اعترفت دولة المسلمين بدولة قريش اعترافاً وجودياً وليس شرعياً، وهذا الاعتراف ضرورة دولية وعرفية، وإهمال الضرورات الدولية يجلب النقمة العالمية، وتأليب الرأي العام، وهذه الضرورة تقدر بقدرها دون توسع؛ فلن يرضى اليهود والنصارى والمشركون عن قيام دولة إسلامية مستقلة عن سلطانهم، ولا محيد للقيادة عن الحصول على الاعتراف الدولي، حتى ييئس الكافرون من ديننا، وهي خطوة مهمة في الطريق نحو التمكين والنصر.

وتاسع الأبعاد عن توقيع اتفاقية إعلامية، حيث اصطلح الطرفان على أن بينهم عيبة مكفوفة، وصدور نقية من الغل والخداع، وهي هدنة إعلامية دعائية نفسية، مما يبين أثر الإعلام في المعارك الحربية، وفي الأجواء الدبلوماسية، وإذا توقفت الآلة الإعلامية عن الإساءة للآخر حسب الاتفاق، فلا يعني توقفها عن نشر رسالة الإسلام بوضوح وهدوء، من خلال انتاج مواد ثقافية نافعة، وتنشيط حراك فكري مثمر، بلا خنوع أو منهج تمييعي منبطح.

والبعد العاشر والأخير حول مبدأ مراعاة المقاصد الكلية في السياسة الشرعية، فبالنظر إلى شروط صلح الحديبية، نجد أنها أولت جل عنايتها للكليات المقاصدية، وإن أهدرت بعض جزئياتها التي يمكن تحصيلها، في إطار إدراك جل المطلوب قدر المستطاع، وقد أبصرت القيادة الإسلامية بثاقب نظرها، ما غاب عن بعض المسلمين وكرهوا هذا الصلح لأجله؛ قبل أن تستبين لهم المكاسب العظيمة منه، مثل:

  • الحصول على اعتراف قريش بدولة المدينة.
  • اقتناع قريش بالتعايش السلمي وترك القتال.
  • رجوع المسلمين للمدينة سالمين من القتل والتجريح، غانمين الفرص الدعوية والعمرة المستقبلية.
  • تحييد قريش والانفراد بمعاقل يهود ودكها.
  • إتاحة الفرصة لتبليغ دين الله للعرب كافة.
  • حفظ النوع البشري وإقامة مصالحه.

عنوان المبحث الثالث مفاهيم في السياسة الشرعية، وتحدث المؤلف عن مفهوم سياسة التحالف التي تعد خياراً سياسياً واقعياً، وتلتقي مع طبيعة العلاقات الإنسانية، ولوازم السياسة الدولية، ومن المهم بمكان إقامة التحالف على فقه المفاسد والمصالح. ثم عرج على مفهوم المعاهدة والصلح، وبحث عقبه مفهوم المصالحة في إطار الدولة، التي يقوم بأمرها إمام يحرص على ما فيه صالح البلد وأهله، وتكلم عن رابع مفهوم وهو القوة في إطار الدولة؛ فالمعاهدات واتفاقيات الصلح، لا تكفي وحدها ما لم يكن لدى الدولة قوة رادعة، فالحرب والسلام متداخلان في علاقة جدلية، وقد لا تحمي الدولة مصالحها الحيوية بغير الحرب، والمفهوم الخامس عن الدبلوماسية من خلال التفاوض والمساومة؛ لتحقيق مصالح الدولة، دون الالتزام الحرفي المسبق بمواقف مبدئية، تعوق الاجتهاد والاستنباط، وتتبع ما يجلب المصلحة ويدفع المفسدة.

حقاً، إن السيرة النبوية الشريفة، وفترة الخلافة الراشدة، يحتاجان مزيداً من الاهتمام قراءة، وتدارساً، واستنباطاً، لتفتح آفاقاً واسعة من الفهم، والتطبيق، وإنارة الطرق للسالكين في دروب الدعوة، والإصلاح، والجهاد، والسياسة، والحكم، ومعالجة شؤون المسلمين في واقع لم يشيد على ما يرضي الله؛ بيد أن الفرص متوافرة لاقتحام هذا الواقع، والإفادة منه، وربما تغييره مستقبلاً، وإعادة صياغته وفق المفاهيم الشرعية، وما ذلك على الله بعزيز.

ahmalassaf@

الرياض- الاثنين 14 من شهرِ ربيع الأول عام 1436

05 يناير 2015 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)