سير وأعلام شريعة وقانون عرض كتاب

مؤانسة من سيرة ابن عقيل

Print Friendly, PDF & Email

مؤانسة من سيرة ابن عقيل

وجدت متعة أثناء قراءة سيرة سماحة شيخ الحنابلة القاضي الفقيه الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز بن عقيل (1334-1432)، وأتمنى أن تشيع ثقافة كتابة ‫السير الذاتية بين المشايخ والفقهاء والقضاة والمحتسبين، ففيها مصالح شتى، ويمكن صياغتها بطرق مختلفة ولو على هيئة سؤال وجواب خروجًا من حرج سرد الذات؛ وليس ثمت حرج.

الكتاب المقصود هو المجلد الثامن من مجموعة الشيخ العلامة عبدالله ابن عقيل العلمية بعنوان: سيرته الذاتية وأهم مراسلاته، اعتنى به بلال بن محمود عدّار الجزائري، طبعته دار الصميعي للنشر والتوزيع على نفقة مصرف الراجحي، ويقع في (619) صفحة، صدرت طبعته الأولى عام ( 1435=2014م)، ويتكون من بضع مقدمات، ثمّ سبعة أبواب فيها فصول عديدة، فملاحق ووثائق وإجازات وقائمة أبجدية بأسماء طلاب الشيخ.

صرم معالي الشيخ ابن عقيل حياته الطويلة في طلب العلم على أشياخ عنيزة وبريدة والرياض وغيرهم، ثمّ في نشر العلم وممارسة التعليم والقضاء والإمامة والإفتاء ونظارة الأوقاف، وكان بيته جامعة مفتوحة للطلاب تبدأ عقب الفجر إلى ما بعد صلاة العشاء، ولا غرابة بعد ذلك حين يبلغ عدد طلابه الذين تلقوا العلم عنه مباشرة وأمكن إحصاؤهم قريبًا من ألف ومئتي طالب.

أما اجتماعيًا فللشيخ القاضي خمسة وثلاثون ابنًا وبنتًا من سبع زوجات، عاش منهم أربعة وعشرون فردًا من أربع أمهات، وكان لابن عقيل مع أولاده وأحفاده وأسباطه وقفات تربوية على رأسها العناية بصلاة الجماعة، وطلب العلم، والتدريب على مهارات التفكير وإدارة المال والممتلكات الخاصة، وتنمية مواهب الخط والخطابة والكتابة، مع إشاعة روح الدعابة والألفة بينهم، وابتداء الملتقيات الأسرية، وهو نموذج تربوي جدير بأن ينشط لروايته أحد الأبناء.

 يحوي الكتاب تأريخًا مهمًا لجوانب عديدة من الأعمال الحكومية والمجتمعية، ففيه شيء من طرق التدريس وطلب العلم، وفتح المدارس الأهلية والحكومية، وتأسيس القضاء مع تطوره، وتكوين اللجان الخاصة والعامة، ووصف المناطق وطرق السفر برًا وبحرًا وجوًا، ومنها أخبار العلاقات الحدودية بين السعودية واليمن، ورحلات الشيخ الداخلية والخارجية، وأشعاره ومراسلاته مع والده وأشياخه وتلاميذه وأقرانه.

أما الأخبار المستطرفة فكثيرة لا تكاد أن تغيب عن عين القارئ، فمنها إشاعة خبر موت الشيخ عدة مرات، وجزم والده بوفاته بعد أن ساءت صحته سنة الرحمة (1337)، وذات مرة صُلي عليه غيابيًا وعمره تسعة عشر عامًا حتى قال أحدهم ممازحًا له: إذا كتب الله عليك الوفاة فلن نصلي على جنازتك إذ تكفي صلاتنا القديمة عليك!

وحضر مع والده درس الشيخ ابن سعدي بعد المغرب، وأراد أحد الحاضرين من الوجهاء شرب الماء، فطلب من عبدالله أن يحضر له القربة لأنه أشب المستمعين ففعل؛ فلما رآه والده قال له: “لأن تجلس في الحلقة تتلقى، خير لك من أن تكون سقّا”، وهي لفتة تربوية وإدارية من رجل ينتمي لأسرة عريقة في العلم.

وعندما ظهرت الدعوة المهدية في السودان عام (1299) أرسل أهل القصيم على نفقتهم الشيخ المحدث علي بن ناصر أبو وادي (1273-1361) لفحص ما اشتهر من خبر صاحب الدعوى، فلما عاد قال لهم: لا تنطبق عليه الصفات المذكورة في الأحاديث الواردة، والشريعة هناك غير مطبقة، وما أعقل من يتبين ولا يستعجل.

ولم يكن الشيخ ينوي الحج عام (1353)؛ ولذا شارك في وداع حجاج عنيزة؛ لكنه التقاهم في مكة خلال موسم الحج بعد أن سار إليه دون تخطيط مسبق مع أمير عنيزة، وهناك شاهد بعض أبناء الملك عبدالعزيز يخدمون الحجاج وهم محرمون، وخطب الشيخ عبدالله بن حسن خطبة عرفة، وفي تلك السنة تعرض الملك عبدالعزيز وولي عهده الملك سعود لمحاولة اغتيال فاشلة في صحن المطاف يوم الحج الأكبر.

كما يذكر ابن عقيل أنه ممن أشار على ابن سعدي بطباعة تفسيره، وأخبرنا عن سر عزوف ابن سعدي عن قراءة الدواوين التي تتضمن هجاء الآخرين؛ لأنه نظر فيها ذات ليلة ثمّ نام فرأى أنه ينبش قبرًا ويده تتجول في عظام الميت؛ فامتنع بعدها عن قراءة الهجاء، واشمأزت نفسه منها.

أيضًا يحفظ الكتاب طرفًا من سيرة الشيخ عبدالله القرعاوي الذي يخصص وقتًا للرياضة والمصارعة في مدرسته الخاصة، ويحفز الطلاب بالجوائز على قلة ذات يده، وكان سببًا في المطالبة بمشاريع حكومية لتسهيل عقبة ضلع والعقبة الصماء في جنوب المملكة، ومنحته الدولة أموالًا ودعمًا معنويًا في دعوته هناك، وحين رُزق في جازان بصبي أسماه “سعود” وأبرق للملك سعود يخبره بذلك، وبما أن العادة في جازان أن المسمّى عليه يقدم هدية للمولود، فإن الشيخ يطلب أن تكون هديته تكوين لجان للقضاء على طريقة الختان الأليمة السائدة في تلك النواحي، وهو ما كان.

ومن طرائف السيرة أن معتكِفًا لا يستطيع ترك الشيشة؛ فأوصلها من بيته المجاور للمسجد حتى موضع معتكفه كي يمص أنبوبها فلا تضيع عليه فرصة الاعتكاف ولا ينقطع عن الشيشة! وأن الرواتب قديمًا تتكون من كسوة، وأرز، وسكر، وملح، وطحين، وقهوة، وهيل، وشاي، وربما تصرف أحيانًا من التيوس! واشترى الشيخ كميات كبيرة من أجود العسل بسعر رخيص؛ بينما لا يقوى على شراء مثل هذه الكمية الآن أيّ موظف مهما كان راتبه مرتفعًا. 

واشتكى رجل لأمير عنيزة إطالة ابن عقيل للصلاة، فسأله الأمير: ما عملك؟ فقال الرجل: حلاق، ثمّ سأله الأمير: أتحلق واقفًا أم جالسًا؟ فأجاب: بل واقفًا، وعندها رد الأمير شكواه لأن الصلاة مهما طالت فلن تكون أطول من حلاقة رجل واحد، وسافر آخر عدة مرات للاعتراض على حكم القاضي ابن عقيل في شجرة أثل مع أن تكاليف سفراته أعلى من قيمة الأثلة، ومع ذلك لم ينل مراده.

والشيء بالشيء يذكر فمن توفيق الله له أن أحكامه لم يُرفض منها شيء طيلة عمله في القضاء، وكان المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم يأخذ بأقوال تلميذه ابن عقيل، ونال مكانة كبيرة لدى شيخه الأول عبدالرحمن بن سعدي، وأنابه الشيخ عبدالله بن حميد عنه في رئاسة مجلس القضاء الأعلى، وكذلك فعل الشيخان محمد الحركان وإبراهيم آل الشيخ إبان عملهما وزيرين للعدل ورئيسين للمجلس، وكانت نظرة الشيخ لنفسه متواضعة، بينما قدره عند أشياخه وأقرانه فضلًا عن طلابه رفيع.

وتوثق السيرة بدايات الصحف والبرقيات والسيارات، ومجلس الملك عبدالعزيز الأسبوعي ضحوة الخميس مع المشايخ دون سواهم، والهزة الأرضية بأبي عريش عام (1361)، وأمطار الرياض الغزيرة قيظ عام (1364) خلافًا للمعهود، والمدارس الأولى في عنيزة والحجاز، وفتوى علماء الأحساء في الصلاة بمشلح ذي زري، وموقف ابن باز من الإصرار على فتواه في الطلاق، وفيها وثيقة نادرة ومهمة بخصوص اتفاق الحدود مع اليمن، ومن فرائدها أن المربي الشيخ ابن صالح كان يعلم طلابه في مدرسته الخاصة طريقة التنفس الصحيحة.

بينما تروي سيرة ابن عقيل قصصًا عن الملوك والأمراء منها أن الملك عبدالعزيز ذهب لزيارة ابنته دليل عام (1368)، وبعد خروجه من بيتها دخل أقرب مسجد ليصلي الفجر ووجد جماعة ثانية فصلّى معهم هو ورجاله، وحين سجدوا صار لوقع السيوف على الأرض صوت مرعب فهرب الإمام وترك المصلين! وبنى الملك فيصل قصره بالمعذر وضمّ إليه قليبًا داثرة لا يُعرف لها مالك فكتب الملك للشيخ محمد بن إبراهيم شيكًا بأربعين ألفًا إبراء لذمته، فعمر بها الشيخ مسجدًا لصاحب القليب الذي لم يُعرف له اسم أو وريث.

كما نقل الشيخ قصة الأمير جلوي بن تركي أمير القصيم عام (1270) في عهد أخيه الإمام فيصل، بعد أن سمع عن شجاعة مزنة المطرودي التي استرجعت إبل أهلها وأوثقت السراق وساقتهم لبيت ذويها؛ فخطبها وتزوجها وأنجبت ابنه سعود، وبعد وفاتها تزوج أختها ميثا، ثمّ ماتت فتزوج أختها رقية التي أنجبت له عبدالله، وهؤلاء الأمراء اشتهروا بشجاعة مضاعفة جاءتهم من ثلاثة طرق: أصل الأسرة، وأخوال أبيهم العجمان، وأخوالهم المطرودي.

وطلب الأمير منصور من المشايخ إخباره عن أي منكر يرونه في نزل الضيافة بالطائف كي يُزال مباشرة وأخبرهم أنه استضافهم في هذا المكان دون غيره لهذا الغرض تحديدًا، ومرض أحد الأمراء فجاءه الطبيب وقال له: عندك إسهال فهل تأخذ مسهلًا للبطن؟ فقال: لا، ولكن البرقية المشفرة التي ترد من الملك عبدالعزيز تسبب انطلاق بطني خوفًا مما فيها!

وللنساء نصيب من جمال السيرة؛ فهذه مشاطة تتأسف على شعر عروس سيذهب للقبر، فلما استفهمت العروس منها عن تفسير قولها قالت لها: زوجك حفار قبور إذ تزوج قبلك ثلاث نساء كلّ واحدة على حدة فمتن جميعًا وأنت على الأثر حتمًا، فخافت البنت ورفضت الزواج، وتلطف الشيخ عبدالعزيز بن مانع فطلقها؛ وتزوج فتاة أخرى من أسرة الشبيلي وأنجبت نجله العلامة الشيخ محمد وورثته هي وابنها؛ والخيرة خفية.

وفي ختام السيرة ترجم ابن عقيل لوالده الشيخ الأديب، وله كلمات محفوظة منها قوله: الضوء والضوضاء من منغصات النوم، وتقاول قريب له مع بنّاء فأرسل له داعيًا أن يعامله البناء بنصف اسمه الأول لا الثاني وكان اسمه برغش! وجاوره في دكانه تاجر له ابن لم يشغل نفسه بعمل، فلم يرق لعبدالعزيز بن عقيل ذلك، فوجه بيتين من الشعر للفتى الذي تنبه وهبّ من فوره لحلقة الشيخ ابن سعدي وحفظ بلوغ المرام ونال الجوائز، ثمّ واصل مسيرة العلم والعمل حتى صار أمين مدينة الرياض بمرتبة وزير، وهو الأستاذ عبدالله العلي النعيم.

هذه نتف من مسيرة قرن لعالم وفقيه وقاض وشاعر محبوب مألوف جميل الأحدوثة والمفاكهة، خدم الدولة أزيد من خمسين عامًا خلال عهد خمسة ملوك، وتنازل عن ثلاث وظائف كبرى، وتنقل كثيرًا بين مناطق المملكة، وحين تقاعد لم ينصرف عن الحياة والتأثير، بل أكبّ على التعليم وظلّ يحتفي بطلابه ويقدمهم على أيّ شيء، ويحتفظ بأسمائهم وأرقامهم، حتى سقط في أواخر محرم عقب الوضوء للعشاء، وأجريت له عمليات رقد على إثرها في المستشفى لشهور حتى توفي في شوال عام (1432)، وقبل وفاته بساعات صار جدًا لجد، فاللهم افض عليه من رحمتك وعفوك كما نفع بعلمه، وأمتع بسيرته، وبارك له في آثاره العلميّة والذرية.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الجمعة 14 من شهرِ الله المحرم عام 1441

13 من شهر سبتمبر عام 2019م 

 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)