سياسة واقتصاد عرض كتاب

التجربة البرازيلية: لولا الشعب…ولولا(1)

التجربة البرازيلية: لولا الشعب…ولولا(1)

هذا كتاب يختصر تجربة ناجحة يمكن أن تُحتذى من بلدان المسلمين المبتلاة بالفقر والعسكر والاستبداد، وعنوانه: التجربة البرازيلية: قراءة في تجربة لولا دي سيلفيا؛ تأليف د.محمد صادق إسماعيل، وصدرت الطبعة الثانية منه عام (2013م) عن دار العربي للنشر والتوزيع في القاهرة، وعدد صفحاته (208) صفحات من القطع المتوسط، ويتكون من مقدمة ثم سبعة فصول فقائمة المراجع، وعلى الغلاف صورة “لولا” وعلم البرازيل.

اختصرت المقدمة تاريخ البرازيل الغاص بالمشاكل؛ ثم انتقلت لحاضره الجميل، وفي خاتمتها سؤال ليس منه مناص عن طريقة هذا التحول من دولة متعثرة إلى بلد يزاحم على المراتب المتقدمة وينافس القوى العالمية، وهذا سؤال يحسن بالمسلم أن يجعله حاضراً أمامه؛ وهو يستمع إلى كذب أكثر حكوماته، أو يشاهد تخبطات غالب زعمائه طويلي الأجل فاسدي الصلاحية!

اُكتشفت البرازيل عام (1500م) بواسطة البحار البرتغالي كابرال، وعندما تدفق عليها البرتغاليون أفنوا أهلها الأصليين كعادة المحتل الأبيض، وخطفوا الناس من أفريقيا واستعبدوهم للعمل، وخلال ثلاثة قرون خطف البرتغاليون ستة ملايين أفريقي؛ ويبلغ الرقم ثلاثة أضعاف هذا العدد في مصادر أخرى، وظل الأفارقة أرقاء حتى أُلغي الرق عام (1888م).

وكانت البرازيل من نصيب الاستعمار البرتغالي حتى عام (1822م) في حين ظفرت أسبانيا بباقي بلدان القارة، ويروى أن البرتغاليين نصبوا محاكم تفتيش لمسلمي البرازيل الفارين إليها من جحيم الأسبان، أو المختطفين من أفريقيا؛ وفيهم علماء وحفاظ، وكانت العلامات الدالة على دين المسلم: الاغتسال ونظافة الملابس والاستيقاظ المبكر والصيام! وثمَّ نسب واضح بين محاكم التفتيش ومعتقل جوانتاناموا؛ فاللهم عجل للأمة إصلاح حالها.

تبلغ مساحة البرازيل (8,547) مليون كم2 تمثل نصف مساحة أمريكا الجنوبية؛ وتحتل المرتبة الخامسة على مستوى العالم، ويناهز عدد سكانها مئتي مليون نسمة منهم (62%) دون سن (29)عاما، وغالب سكانها نصارى: كاثوليك (75%) وبروتستانت (15%)؛ وبالتالي فهي أكبر دولة كاثوليكية في العالم. وفيها ألف نهر، وأربعون ألف نوع من النبات، ولذا فهي رئة العالم، وثلث سلة غذائه، ويعمل بالزراعة ربع القوة العاملة، وهي غنية بالنفط والغاز والمعادن والغابات فضلاً عن الإيثانول المستخرج من قصب السكر. وقد أصبحت برازيليا عاصمة للدولة في 21 أبريل 1960، والأعراق فيها تتكون من الأوربيين، والهنود الأمريكان، والزنوج ثم بقية المهاجرين من الدول العربية والآسيوية.

ينتخب الرئيس مرة كل أربع سنوات، ويحق له تولي هذا المنصب مرتين فقط، وتنقسم السلطة التشريعية الفيدرالية إلى مجلسين؛ الأول الشيوخ ويضم (81) عضواً منتخباً لمدة ثماني سنوات، وهم يمثلون الولايات السبع والعشرين بالتساوي، والثاني مجلس النواب ويتكون من (513) عضواً ينتخبون شعبياً لمدة أربع سنوات، ولكل ولاية وزن خاص حسب عدد سكانها ودخلها الاقتصادي، ولكل ولاية مجالسها وبلدياتها الخاصة بها، وللدولة نظام قضائي واحد ومستقل يوصف بالنزاهة مع بطء العمل حسب مصادر أخرى.

ومن الإصلاح السياسي في البرازيل أن الحكومة والمعارضة تتصرفان كشركاء غير مباشرين وليس كأعداء، والتزمت المؤسسة العسكرية بالحياد التام تجاه العملية الديمقراطية، وعلى الصعيد الإقليمي والدولي سعت البرازيل لمبادرات وتحالفات إقليمية ودولية، وأصبحت الوسيط في صنع السلام الإقليمي، والمتحدث باسم أمريكا الجنوبية في المحافل الدولية، وهذا البروز أدى إلى تراجع نفوذ الولايات المتحدة في حديقتها الخلفية، وفتح للبرازيل أفاقاً رحبة للتعاون مع الصين، وروسيا، والهند، وجنوب أفريقيا؛ بصفة فردية أو ضمن مجموعة (البريكس).

وأما الوضع الاقتصادي فقد ورث “لولا” دولة مثقلة بدين خارجي بلغ (260) مليار دولار، وديون داخلية تلتهم (61%) من الناتج القومي، مما أجبر الرئيس لولا دي سيلفا على التقشف وشد الأحزمة؛ وحظي بتجاوب شعبي مكنه من مواصلة تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها؛ حتى استعاد الاقتصاد عافيته وبلغ نموه السنوي (6%) في وقت عانى العالم فيه من أزمة اقتصادية خانقة عامي (2008-2009م).

وتدفقت العمالة الأجنبية على البرازيل؛ وبلغت تحويلاتها السنوية أكثر من مليار دولار، ولا تقبل البرازيل من المهاجرين سوى الفنيين والعمال – في تاريخ بريدة أن حاكمها الفذ حجيلان بن حمد آل أبو عليان-رحمه الله- أغلقها إلا عن تاجر أو صانع!- ويتوقع أن يصبح اقتصاد البرازيل سادس اقتصاد على مستوى العالم عام (2050م) متجاوزاً بعض دول الفيتو.

وفي المجال الاجتماعي طبقت البرازيل برنامجاً فعالاً لمحاربة الفقر قبل وصول “لولا” للرئاسة؛ لكنه هو الذي نفخ فيه الروح وأنعشه، حيث جعل الإعانات المالية للأسر مشروطة بما يؤدي في النهاية إلى تقليص الفقر، ورفع المستوى الصحي والتعليمي، ولم تكن الرعاية الاجتماعية مجرد منح شيء من المال قد يكفي وقد لا يكفي، واستفادت من هذا البرنامج (11) مليون أسرة تمثل ربع السكان تقريباً.

وتشترك البرازيل مع العالم العربي في عدة تجمعات سياسية واقتصادية، ولها علاقات تجارية واسعة مع مصر والسعودية والجزائر-والجزائر بالمناسبة تشبه البرازيل كثيراً وعسى أن تقبس من تجربتها-، ويعيش على أرضها (12) مليون عربي سدسهم تقريباً مسلمون؛ وغالب مسلمي البرازيل من أهل السنة، ولهم جمعيات واتحادات، لكن يعوزهم العلم الشرعي والمال والإدارة الفعالة، ومجتمع البرازيل متسامح غالبا، وبيئة خصبة للدعوة الإسلامية، وروض أُنُف عسى أن يلتفت لها الدعاة المصلحون، وفي البرازيل  معاهد مهتمة بالشؤون الآسيوية والأفريقية؛ ولست أدري كم من معهد في العالم الإسلامي يهتم بالقارة اللاتينية!

وأهم الجماعات الضاغطة القوات المسلحة، والكنيسة الكاثوليكية، واليسار، والطلبة، ولليسار والطلبة علاقات وثيقة مع النقابات العمالية أو تنسيق كبير معها، وللشعب البرازيلي حضور واضح في شؤون بلاده الاقتصادية والسياسية بعد أن تجاوزوا مجرد الولع بكرة القدم، وغدا السؤال الذي يطرحونه في محافلهم: هل ستصبح البرازيل خلال القرن الجديد أهم قوة عالمية أم مجرد واحدة من القوى الكبرى؟ ويحق لنا أن نتساءل: ما هو سؤال الناس في عالمنا الإسلامي؟ أم أنهم حرموا حتى من مجرد السؤال؟

وفي سير رؤساء البرازيل أن أحدهم انتخب لولاية ثانية عام (1918م)، لكنه لم يمض يوماً واحداً منها لأنه توفي بسبب الأنفلونزا الأسبانية التي وقعت عام (1337=1918-1919م) وتسمى في تاريخنا الشعبي بسنة الرحمة. وأحد الرؤساء يعد نصير القهوة حتى أنه اشترى المحصول العالمي منها لرفع سعرها، وآخر يسمى أبو الفقراء، ورابع يعشق كرة القدم، والخامس اُنتخب رئيساً لكن المرض يسقطه ميتاً قبل توليه الرئاسة؛ علماً أنه ذهب ليدلي بصوته ماشياً لا محمولاً على كرسي متحرك! وسادسهم مدمن مخدرات! ومع ما فيهم من محسن أو مسيء فقد استمر الشعب في حراكه، حتى تخلص من الحكومات الفاسدة العسكرية والمدنية، وصارت “الأمة” البرازيلية حاضرة في قلب المشهد ولا تغيب ألبته؛ بل تشارك وتناقش وتعارض ولا يقضى الأمر وهم شهود!

أما الرئيس المنقذ “لولا” فقد ولد عام (1945م) من أسرة فقيرة تقطن ولاية فقيرة، وكان سابع إخوته الثمانية، وهاجر والده إلى ساوباولو بحجة العمل؛ وكان في الحقيقة هارباً ليكمل قصة حب سرية، وقد أسهمت أمه بتكوين شخصيته واعتزازه بنفسه. وخسر أصبعاً في يده اليسرى وهو يعمل في مصنع قطع غيار للسيارات؛ مما دفعه للالتحاق بنقابات العمال حتى انتخب رئيساً لها عام (1978م)، وبعد أن أسس حزب العمال عام (1980م) خاض الانتخابات الرئاسية ثلاث مرات وخسرها دون أن ييأس؛ ففاز بالمحاولة الرابعة في 27 أكتوبر عام (2002م)، وأعيد انتخابه عام (2006م). ومن أسرار نجاحه بعد الفشل المتكرر أنه اختار نائباً ليبرالياً مقبولاً لدى رجال الأعمال، وخفف من لهجته الحادة تجاه الرأسمالية للاقتراب من المجتمع المالي، وحسَّن طريقته في لبس الثياب والحلل، وخفف شعره وأصلح أسنانه، مما جعله مقبول المنظر عند عامة الناخبين.

وفي آخر خطاب ألقاه في مسقط رأسه؛ وهو لا يزال رئيساً، بكى ثلاث مرات حين تذكر ماضيه الأليم؛ المكون من فقر وظلم وحرمان إلى أن قادته عناية الله-كما يقول- فنال ثقة الفقراء، وانتشل بلادهم من أوحال العسكر واللصوص؛ حتى أصبحت أقل دول العالم الثالث في نسبة الغلاء؛ فضلاً عن فائض مالي يزيد عن مئتي مليار دولار، ونقلت سياساته الاجتماعية ملايين الأسر من منطقة الفقر إلى الطبقة الوسطى؛ وفي ذلك قضاء على معدل الجريمة المرتفع في البرازيل.

ورد في ختام الكتاب تعريف ببعض الشخصيات البرازيلية، حيث ابتدأ المؤلف بالكاتب باولو كويلو صاحب رواية الخيمائي التي ترجمت إلى (62) لغة، وبيع منها (30) مليون نسخة في (150) بلداً، وتصدرت قائمة أعلى المبيعات في (18) دولة. ثم تحدث عن المهندس المعماري أوسكار نيماير صاحب التصاميم العالمية؛ وتعد أعماله من كنوز العمارة العالمية الحديثة، والمخترع سانتوس دومونت المغرم بالطيران وعلومه؛ والبرازيل رائدة في صنع الطائرات وما يخصها، ومن الشخصيات المذكورة العالم والطبيب كارلوس ريبيرو شاغاس وهو أول باحث في تاريخ الطب يصف مرضاً معدياً وصفاً كاملاً.

كذلك منهم بيليه أسطورة الكرة، ووزير الرياضة الأسبق، الذي لم يستطع تملك حذاء رياضي قبل بلوغه أحد عشر عاماً، وبدأ حياته ماسح أحذية؛ لكنه فتن الناس في الملاعب، وكان أصغر لاعب يقود بلاده لإحراز كأس العالم الذي فازت به البرازيل خمس مرات وربما تكون التي تستضيفها هذه السنة (1435=2014م) هي السادسة، والرياضة لديهم ثقافة وصناعة وتوظيف واقتصاد، وليست إضاعة مال ووقت وجهد كما عند غيرهم، وليت أن المتابعين لمباريات هذه السنة يبحثون عن “سر” البرازيل بعيداً عن المستطيل الأخضر والكرة الدائرية.

أخيرًا فليست الغاية من استعراض التجربة أن نكتنز معلومات إضافية، وإنما العبرة أن نستفيد من تجربة بلد يتقاطع مع عالمنا الإسلامي من حيث المساحة والسكان ووفرة الموارد، مع الابتلاء بالتغول الأمريكي، ووجود الفساد وسوء الإدارة والمظالم، لكنهم تخلصوا من سطوة الأمريكان وسيطرة الفاسدين، وحزموا أمرهم، وامتلكوا حرية اتخاذ القرار النافع لبلادهم دون مصادمة أو مناكفة، حتى نفضت البرازيل عن نفسها غبار التخلف، وطردت شبح الإفلاس، وها هي تطالب بمقعد دائم في مجلس حكم العالم، ومن يدري فربما تكون في قابل الأيام كأمريكا في أيامنا!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

  ahmalassaf@

الثلاثاء 14 من شهرِ رجب الحرام عام 1435

([1])  كل خير فهو من عند الله، ولولا الله لما أستطاع الشعب و”لولا” فعل شيء.

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)