إدارة وتربية

يومي الأول في المدرسة

يومي الأول في المدرسة

لا يكاد ينسى المرء أول يوم في كل حدث مهم من حياته، سواء كان هذا الحدث منتظرًا، أو جاء على حين غرّة كفانا الله وإياكم فُجاءة الأقدار، ورزقنا العفو والعافية، وألهمنا الرضا والتسليم. ومن المناسبات المعروفة مسبقًا أول يوم دراسي؛ خاصة في زمن يندر فيه التهيئة بالروضة والتمهيدي، وفي حال تخلو من حفلات الاستقبال المزعجة التي نشهدها مع أبنائنا.

وكنت أتلهف على التسجيل في المدرسة، لذا أخرج صبيحة بعض الأيام كي أرى منظر الطلاب في الصفوف البهيجة “الطوابير”، وهو مشهد باهر لطفل في عمري، وحين سألت والدي رحمة الله عليه (1351-1413): متى أذهب إلى المدرسة؟ أجابني: حين ينجح أخوك سليمان إلى الصف الثالث! فصنع جوابه ارتباطًا شرطيًا بين الحدثين في نفسي، ولذلك ظللت أنتظر عودة سليمان في يوم النتائج؛ فلما أقبل يحمل شهادته من الورق الأبيض المقوى سألته: هل نجحت؟ ثمّ قفزت من الفرح إلى الداخل لأخبر والدي بتحقق شرط التحاقي بالمدرسة، وربما أن فرحي يعادل أضعاف فرحة سليمان.

ثمّ ذهبت مع والدي لإكمال ملف الالتحاق بالمدرسة، والملفات مع محتوياتها معضلة إدارية منذ القدم؛ فالمطلوب المعلن غير المطلوب الحقيقي في الغالب، ومن طريف المواقف أن امرأة مسنة قابلتنا ونحن في طريقنا إلى معمل التصوير فاستوقفتنا، وخاطبت والدي بقولها: هذا الطفل جميل وأوصته عليّ، وللأمانة التاريخية أقول إني لم أكن جميلًا ولا ضد ذلك، وإنما استلطفتني العجوز، وعين الرضا تفعل هذا وأزيد.

بعد ذلك اصطحبني الوالد إلى مدرسة ابن الأثير الابتدائية بعرعر، وكان معنا أخي حمد الذي يصغرني بعام وعدة شهور، ودخل على المدير الأستاذ طالب بن عبود النجيدي، وبعد حوار سمعت المدير يقول لأبي: نقبل الأول ونعتذر عن قبول الثاني لأنه دون العمر النظامي، ومن نافلة القول أني سررت بقبولي وحزنت لاستثناء أخي، ودخلت إلى المدرسة وليس لي فيها أخ أو قريب أو جار أكبر مني، وهو أمر موحش حينذاك؛ ولم أسجل في ابتدائية أخي سليمان لأن مديرها رفض التحاقي بها بناء على تجديد الاختصاص المكاني للمدارس.

وفي أول يوم ذهب بي الوالد غفر الله له، وقابل الوكيل الأستاذ عبدالعزيز بن حمود الحميدان وهو من بلدتنا عيون الجواء بالقصيم، فأعطاني الوكيل صندوق الوجبة الغذائية الذي كان يوزع آنذاك على الطلاب رغبة منه في إقبالي على المدرسة؛ لأن علامات الجفول بادية عليّ، لكني رميت الصندوق وأنا أبكي من هول يوم سعيت له وانتظرته بشوق ولهفة، وهي رمية تاريخية لم ينسها أهلي لي حتى ساعة كتابة هذه المقالة.

لا أذكر ما حدث بعد ذلك، إنما أذكر أني جلست في ساحة المدرسة وحيدًا وليس مثل هذه الأيام التي يجلس الأب أو ولي الأمر مع الطفل المستجد في وقت ضائع ممل والأجر عند الله، والحمدلله على العافية والأمن. وحين اصطفت الطوابير لم أقم معها بسبب جهلي بالنظام؛ حتى حصبني طفل من الجيران في نفس سني وفصلي فقمت ووقفت خلف فهد، ولفهد هذا قصة ستأتي في موضعها بإذن الله.

بعد دخولنا إلى الفصل جاءنا معلم سعودي ثمّ اختفى تمامًا، وتعاقب علينا بعده معلمون من بلدان عربية، إلى أن استمر معنا الأستاذ عمر صالح أبو خليل الذي منحني الرعاية والتشجيع خاصة بعد أن سألنا في درس الفقه: هل يعرف أحد منكم كيف يصلي؟ وهو يجزم في قرارة نفسه باستحالة ذلك من صبية صغار، فكانت المفاجأة أن رفعت أصبعي؛ ولما صليت أمامه ركعتين جهريتين مكتملتين شجعني وأظهر سروره وأصبحت موضع عنايته، وخلع عليّ لقب شيخ الفصل حتى غاب اسمي الأول عن بعض المعلمين والزملاء لدرجة أن بعضهم سألني بعد سنوات: ما اسمك؟

ها قد مضت تلك الأيام بما فيها وبقيت ذكرياتها وآثارها، ولي عودة أخرى مع بقية ذكرياتي المدرسية بإذن الله. وما أحرى المعلمين والمعلمات مع ابتداء الدراسة هذا اليوم أن ينظروا إلى مهنتهم العظيمة نظرة مسؤولية دنيوية وأخروية، فالمجتمع كله أو جله من نتاج مشاركتهم الأساسية في الغراس، وهم يشابهون مقام النبوة العالي في التربية والتزكية والتعليم، ويديرون دفة أخطر عملية في أيّ بلد، والله يعينهم ويرشدهم للخير، ولهم علينا بعد ذلك حقوق التبجيل والدعاء وحسن التقدير.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الأحد 02 من شهرِ الله المحرم عام 1441

01 من شهر سبتمبر عام 2019م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. جزاك الله خيرا الكاتب الفاضل احمد حفظه الله ورعاه.لما ذكرته من تقدير وتبجيل ودعاء للمعلمين والمعلمات . وفي انتظار بقية الذكريات المدرسية الممتعة

  2. الكاتب احمد حفظه الله ورعاه .ما زال القراء المتابعين لمدونك ينتظرون المزيد من ذكرياتك المدرسية الشيقة وانت بذلك تاخذ كل منهم لذكرياته حلوها ومرها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)