مسائل من فقه الإمامة العظمى
بحثت عن هذا الكتاب كثيراً فلم أجد إليه سبيلاً، وفي زيارة إلى مدينة أبها عام (1417)، دخلت مع زميل عزيز إلى مكتبة نستطلع ما بها، فدخول مكتبات البلد من فوائد السفر، وكانت مساحة المكتبة تضيق كلما تعمقنا فيها، وفجأة لمحت أربع نسخ من هذا الكتاب؛ فأخذت ثلاثاً منها، واشترى الزميل الأخيرة. ولم أتوان لحظة، وتركت ما بيدي وشرعت أقرأه في جنوب المملكة، ثم أنهيته بعد أيام في شمالها. ورأيت بعد ذلك أربع نسخ منه؛ قد علاها الغبار في مكتبة جداوية، فاشتريتها، وأهديت النسخ الست لمن يستحق من المهتمين والمثقفين.
والكتاب المقصود عنوانه: الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة، تأليف عبد الله بن عمر بن سليمان الدميجي، صدرت طبعته الثانية عن مكتبة طيبة، عام (1409)، ويقع في (656) صفحة، ويتكون من مقدمة، ثم بابان، وفي كل باب أربعة فصول يتبعها الخاتمة، ثم الفهارس والمراجع، وأظن أن الكتاب لم يطبع بعد ذلك؛ مع عظم الحاجة لموضوعه، واشتماله على مباحث يجب رفع الجهل بها.
أصل الكتاب رسالة ماجستير، تقدم بها الباحث لكلية الشريعة بجامعة أم القرى عام (1403)، ومُنح الشيخ الدميجي الدرجة بامتياز، ومن أهمية موضوعها أن مدير الجامعة آنذاك د. راشد بن راجح الشريف كان المشرف عليها، وناقشها الشيخان السيد سابق، وكمال نجا، وللرسالة أخوات سابقات تتقاطع معها في ذات الموضوع، مثل (رياسة الدولة في الفقه الإسلامي) تأليف د. محمد رأفت عثمان، (الخليفة: توليته وعزله) تأليف د. صلاح الدين دبوس، (طرق اختيار الخليفة) و(رئيس الدولة بين الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية المعاصرة) وكلاهما من تأليف د. فؤاد محمد النادي.
ذكر المؤلف في المقدمة أن موضوع بحثه تعرض لتشويه كبير من أعداء الإسلام، وحتى من بعض المسلمين بحسن نية أحياناً، ومن ذلك دعوى فصل الدين عن الدولة، ثم إنكار أن يكون في الإسلام نظام حكم، مروراً باعتساف النصوص، وتكلف التأويل؛ لإثبات أن الإسلام دين ديمقراطي أو اشتراكي، أو مقارنة النظام الإسلامي بالنظم المعاصرة بما يوحي بتكافؤ الأمرين، وشتان بين شرع الله وبين نتاج عقول خلقه. وللأقدمين أقوال ومعتقدات في الإمامة أبرزها أقوال الشيعة، ولم يتعرض المؤلف لنقد أقوال هذه الفرقة خلافاً لما فعله د. محمد رأفت عثمان في رسالته التي ناقشها الأزهر عام(1391)؛ حيث أسهب في نقض دعاوى الشيعة، وعارض بحثهم موضوع الإمامة في العقيدة، لأنه موضوع فقهي بحت.
أما منهج المؤلف في رسالته، فيقوم على بحث الموضوع دون تصور سابق، حيث جمع النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ثم نظر في فتاوى الصحابة والتابعين، وحصر أقوال ثقات العلماء قديماً وحديثاً، وتتبع سيرة الخلفاء الراشدين، وسنتهم القولية والفعلية، واجتهد في تطهير بحثه من آراء المستشرقين؛ لاستغنائه عما فيها من حق على ندرته.
الإمامة عند أهل السنة والجماعة هو عنوان الباب الأول، وفيه أربعة فصول، أولها عن تعريف الإمامة، واختار المؤلف تعريف ابن خلدون لها بقوله: “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها…، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به”، وأوضح الباحث ترادف معنى الإمام مع الخليفة، وأمير المؤمنين. ويلاحظ من التعريف تقديم أمور الدين على شؤون الدنيا، دون إهمال لها؛ بل جُعلت تابعة للمقتضى الشرعي، خلافاً للملك الذي يحمل الناس غالباً وفق الشهوة، وتغليب مصالح الدنيا، وقد أجاز أهل السنة إطلاق لقب “الخليفة” على الملوك الذين حكموا بعد نهاية عصر الراشدين؛ شريطة كونهم من قريش.
وثاني فصول هذا الباب عن وجوب الإمامة، حيث اتفق السواد الأعظم من المسلمين على وجوب نصب الإمام، واستدلوا بآيات كريمة، وأحاديث صحيحة، وفعل النبي عليه الصلاة والسلام، وإجماع الصحابة على تعيين خليفة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقبل تجهيزه ودفنه. وهو أمر تقتضيه قواعد الشريعة؛ فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ودفع الضرر عن النفس والمال لا يكون بغير وجود سلطان مطاع قوي، كما أنه أمر مدرك بالفطر السليمة. وهذا الحكم بالوجوب يخص طائفتين هما: أهل الاجتهاد؛ حتى يختاروا للأمة أمثل من يحكمها، والثانية هم الأفراد الذين تجتمع فيهم شروط الإمامة، ويرى الباحث أن الطائفتين إذا تقاعستا عن أداء هذا الواجب الكفائي، فإنه يتعين في حق أفراد الأمة؛ كل بحسب استطاعته، حتى تجتمع كلمة المسلمين.
مقاصد الإمامة هو عنوان الفصل الثالث، فلها مقصدان عظيمان عند أهل السنة هما: إقامة الدين، وسياسة الدنيا به. ويتمثل إقامة الدين بأمرين هما: حفظه، وتنفيذه، والحفظ يكون بنشره بكل وسيلة متاحة، ودفع الشبه والبدع عنه، وأخيراً حماية البيضة وتحصين الثغور، وأما التنفيذ فبإقامة شرائعه، وإمضاء أحكامه وحدوده، وحمل الناس عليه ترغيباً وترهيباً.
والمقصد الثاني يشمل سياسة الدنيا بالدين، من خلال تحكيم الشريعة في جميع الشؤون، والأمر ليس مستحيلاً ولا عسيراً لدرجة المشقة، فالأحكام إما محددة، أو دائرة ضمن قواعد وكليات، أو داخلة تحت السياسة الشرعية وميدانها الرحب، في جلب المصالح ودفع المضار، وباب الاجتهاد مشرع لأهله، وليس على الحاكم المسلم سوى الصدق في تحكيم الشريعة، واجتناب مواطن الزلل، وإصلاح مواضع العثار والزلل، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلن يعوقه شيء، وسيعينه رجال صادقون، بحكمة ودراية وبعد نظر، ونية صادقة. وذكر المؤلف مقاصد فرعية تجب على الإمام، منها: العدل ورفع الظلم، وجمع الكلمة واجتناب الفرقة، وعمارة الأرض واستثمار خيراتها لصالح المسلمين.
الفصل الرابع يبحث طرق انعقاد الولاية، حيث قرر خلو النصوص من تعيين طريقة لانعقاد الإمامة، ولذا فلا مناص من استعراض طرق انعقاد إمامة الخلفاء الراشدين؛ فالاقتداء بهم واجب نصاً، فضلاً عن حجية إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على أمر، ولأن عصر الخلفاء الراشدين هو التطبيق العملي لشرائع الإسلام؛ لتوافر الصحابة؛ وهم أعلم الناس بالرسالة، ونصوصها، وكيفية فهمها.
وناقش المؤلف القائلين بالنص على خلافة أبي بكر أو علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ورجح أنه لم يُنص على أحد منهما، وإن كانت الإشارات متجهة صوب الصديق الأكبر رضي الله عنه؛ ويكفي لنفي النصية اجتماع السقيفة، ومبايعة علي لأبي بكر، ولو علم الناس بنص لما تجاوزوه؛ ولو كان النص لأبي الحسن لما خالفه بمبايعة الصديق.
ثم استعرض طرق تولية الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم، فبيعة أبي بكر تمت في اجتماع كبار الصحابة في سقيفة بني ساعدة، وإجماع غالبيتهم على اختياره، ثم بايعه عامة المسلمين بعد ذلك. وأما انعقاد بيعة عمر فثبتت بطريق الاستخلاف والعهد، وهي جائزة بشرط مشاورة أهل الحل والعقد، ورضا الناس بالمعهود إليه ومبايعته. وجاءت تولية عثمان بطريقة مبتكرة من عبقرية الفاروق، جمعت بين العهد وتفويض الناس بالاختيار؛ حيث عهد إلى ستة أشخاص، بحيث يقع اختيار الأمة على واحد منهم، وتتشابه طريقة اختيار علي مع الطريقة الأولى، حيث بايعه أهل الحل والعقد أولاً، ثم تبعهم عامة الناس، فاللهم ارض عن هؤلاء الخلفاء العظام في سيرهم وطريقة اختيارهم.
ولأهمية التعريف بأهل الحل والعقد، عقد لهم المؤلف مبحثاً سأختصر أهم ما فيه، واترك التوسع لاستعراض كتاب خاص عنهم عنوانه: (أهل الحل والعقد: صفاتهم ووظائفهم)، تأليف: أ.د. عبد الله بن إبراهيم الطريقي. فأهل الحل والعقد هم العلماء والرؤساء ووجهاء الناس، الذين يتيسر اجتماعهم، ويشترط فيهم الإسلام، والعقل، والذكورة، والحرية، والعدالة، والعلم، والرأي والحكمة. ولهم أربع وظائف خطيرة هي:
- اختيار الخليفة وعقد البيعة له.
- التمييز بين المتقدمين للإمامة.
- مبايعة الأنفع.
- عزل الخليفة.
ثم أفاض الشيخ الدميجي في تفصيل طريقة العهد والاستخلاف، وذكر أدلة من السنة على جوازها، ونقل عن أبي يعلى الفراء أن الإمامة لا تنعقد للمعهود له بنفس العهد، وإنما تنعقد بعهد المسلمين، وعلى هذا يُنظر إلى العهد على أنه ترشيح متوقف على رضا الأمة. وحتى يكون الاستخلاف صحيحاً، لا بد من اشتماله على الشروط التالية:
- توافر شروط الإمامة في المعهود إليه.
- قبول المعهود إليه ورضاه.
- أن يكون المعهود إليه حاضراً أو في حكم الحاضر.
- أن يكون العهد من إمام لازالت بيعته معقودة له.
- مشاورة أهل الحل والعقد وموافقتهم دون إجبار.
ويجوز أن يكون العهد إلى واحد، أو إلى مجموعة يختار الناس منهم أنسبهم، أو يُعهد إلى أكثر من واحد على الترتيب بينهم، ونقل المؤلف ثلاثة أقوال في حكم العهد إلى الأصول أو الفروع، وهي المنع والجواز، أو تخصيص الجواز بالأصول فقط دون الفروع، ورجح الباحث رأي المانعين اقتداءً بالخلفاء الراشدين، وابتعاداً عن الميول البشرية الطبيعية، وعليه، فالإمامة لا تورث كما يحكي ابن حزم جازماً ألا خلاف بين أهل الإسلام في ذلك.
وتطرق الشيخ الدميجي إلى موضوع البيعة، وهي إعطاء العهد من المبايع على السمع والطاعة للأمير في غير معصية، في المنشط والمكره والعسر واليسر، وأنواعها: البيعة على الإسلام وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، والبيعة على النصرة والمنعة، والبيعة على الجهاد، والبيعة على الهجرة، والبيعة على السمع والطاعة، التي تعطى للأئمة؛ وهي المرادة هنا. ويشترط لصحة عقد البيعة ما يلي:
- أن يجتمع في المأخوذ له البيعة شروط الإمامة، وتستثنى حال الغلبة اضطراراً.
- أن يتولى عقدها أهل الحل والعقد.
- موافقة المبايع، فلو امتنع فلا يجبر عليها؛ إلا إن كان لا يصلح للإمامة إلا هو.
- أن تعقد البيعة لواحد فقط.
- أن تكون على كتاب الله وسنة رسوله قولاً وعملاً.
- الحرية الكاملة للمبايِع في البيعة، لأنها عقد مراضاة لا سبيل للإكراه فيه.
ومن نكث هذه البيعة كان عاصياً مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب، ويأخذ الإمام البيعة بنفسه في حاضرة الدولة، وينيب غيره في الأقاليم البعيدة، ومن صورها المصافحة-للرجال فقط-والكلام، والكتابة. وتؤخذ البيعة بعد وفاة الخليفة من غير عهد لأحد بعده، كما تؤخذ للمعهود إليه بعد وفاة العاهد، أو يأخذها الخليفة لولي عهده في حياته، أو يأخذها الخليفة من أهل ناحية ليتأكد من انقيادهم، أو تبايع الأمة من يخلع الخليفة المنتصب لموجب يقتضي الخلع. وعرج المؤلف بسرعة على مسألة القهر والغلبة، وملخص أحكام التغلب، جواز عقد البيعة للمتغلب اضطراراً، إلا إن كان كافراً، مع تجريم المتغلب واعتباره عاصياً، وإنما صاروا لهذا الحكم الواقعي حقناً للدماء، وحفظاً لبلاد المسلمين من الفتن.
عنوان الباب الثاني الإمام عند أهل السنة والجماعة، وهو أطول من سابقه، ويبحث الفصل الأول شروط الإمام، وهذه الشروط تطلب حال الاختيار، وأما حين التغلب فلا بأس من فقدان بعضها لأنها حال اضطرار. وبعض هذه الشروط عامة في كل ولاية إسلامية، وبعضها خاصة بالإمامة العظمى، ومنها ما يمكن الرضا بانعدامه، بينما لا تنعقد الولاية لمن يفقد بعضها، وبالتالي تختلف قوة الشروط وأهميتها، وهذه الشروط هي:
- الإسلام، وهو عام في كل ولاية، ولا تنعقد الإمامة لكافر أبداً.
- البلوغ، وهو شرط بديهي في كل ولاية.
- العقل، فإذا زال زوالاً مطبقاً فلا يصح ابتداء عقد الإمامة حينها، وإذا طرأ بعد العقد امتنع استدامته، والمطلوب ليس مجرد العقل؛ بل درجة عالية من الذكاء والفطنة.
- الحرية، وهو من الشروط الضرورية.
- أن يكون ذكراً، وقد سبق استعراض كتاب (المرأة والحقوق السياسية في الإسلام) لمجيد أبو حجير بما يغني عن التكرار هنا.
- العلم، ويكفيه أن يحوز مبلغاً من العلم الشرعي وغيره من العلوم؛ التي تفيده في الأوقات الحرجة.
- العدالة، وهي اجتناب الكبائر والصغائر، والتعفف عن بعض المباحات الخارمة للمروءة، وبالتالي فلا إمامة للفاسق.
- الكفاءة النفسية، وتشمل الشجاعة والجرأة، والدهاء في ممارسة السياسة وحسن التدبير.
- الكفاءة الجسمية، وتعني سلامة الأعضاء والحواس، ونقص بعضها مانع للولاية كالنطق والسمع والبصر، أو فقدان اليدين أو الرجلين.
- عدم الحرص عليها.
- النسب القرشي، والبعض يرى أن العلة وجود عصبية وشوكة للإمام، وبعد نقاش يرجح المؤلف اعتبار هذا الشرط فيمن يختار للإمامة العظمى.
ثم حرر الباحث مسألة ولاية المفضول مع وجود الأفضل، وخلص بعد عرض الأقوال والأدلة إلى ترجيح تنصيب الأقدر على تحقيق أهداف الإمامة، حتى لو كان مفضولاً؛ خاصة إن كان الناس منقادين له، أو كانت أحوال التنصيب تستلزم تقديمه، وهذا كله في حال الاختيار والعهد، وأما التغلب والاضطرار فلها أحكامها الخاصة، وناقش الدميجي أخيراً المفاضلة بين الخلفاء الراشدين والأقوال فيها، وفضلهم متماثل مع ترتيبهم في الخلافة رضوان الله عليهم.
عنوان الفصل الثاني من الباب الثاني واجبات الإمام وحقوقه، وابتدأ بالواجبات جرياً على القاعدة الإسلامية، وقسمها إلى واجبات أساسية مختصرها إقامة الدين وسياسة الدنيا به، وقد سبق الحديث عنهما في مقاصد الإمامة، وواجبات فرعية كالتالي:
- استيفاء الحقوق المالية لبيت المال وصرفها في مصارفها الشرعية، وتوسع المؤلف في بيانها، وسأختصرها على أمل الحديث عنها في مراجعة كتاب حافل عنوانه: (التصرف في المال العام: حدود السلطة في حق الأمة)، تأليف د. خالد الماجد. فموارد بيت المال هي الزكاة وتدفع للإمام البر العادل، وأما الفاجر فيجوز دفعها له حذار الفتنة، ثم الجزية، والخراج، والعشور، والغنائم، والفيء، والموارد الأخرى. ولبعض هذه الموارد مصارف شرعية لا يجوز تغييرها، ولبعضها مصارف عامة في مصالح الأمة، ولا يجوز للإمام أن يستأثر بها هو أو قرابته أو حاشيته، وقد كان إصلاح بيت المال والعدل فيه عملاً تجديدياً قام به عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وربما دفع حياته ثمناً لذلك.
- اختيار الأكفاء للمناصب القيادية، ومحاسبتهم، ويوجب ابن تيمية عليه إعداد البدائل وتأهيلها.
- الإشراف بنفسه على تدبير الأمور وتفقد أحوال الرعية.
- الرفق بالرعية والنصح لهم وعدم تتبع عوراتهم.
- أن يكون قدوة حسنة لرعيته.
وللإمام على رعيته حقوق، هي:
- حق الطاعة، وهي طاعة مقيدة وغير مطلقة؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، ويستوي في هذا الحق الإمام العادل والإمام الجائر.
- النصرة والتقدير، والدعاء لهم بالتوفيق، ومعونتهم على الحق، وعلى تحقيق مصالح العباد.
- المناصحة، وعدها ابن بطة من الأصول عند السلف؛ وعجباً ممن يلمز القائمين بها!
- حق المال، فله حق في بيت المال يكفيه ومن يعول بغير سرف ولا تقتير.
- الحكم مدة صلاحيته للإمامة.
وأفرد أ.د. الدميجي مبحثاً خاصاً عن الشورى، خروجاً من الخلاف بين كونها واجباً على الإمام، أو أمراً مندوباً إليه، وذكر أدلة مشروعيتها من الكتاب والسنة، والسيرة الراشدية وآثار العلماء، وعرج على فوائدها والحكمة منها، ومجالاتها التي يرجح المؤلف بأنها تشمل الأمور الدنيوية المهمة على اختلافها، والأمور الشرعية الاجتهادية التي لم يرد فيها نص، ونقل القولين في حكمها وجوباً أو ندباً، ومال إلى القول الثاني دون التقليل من أهمية الشورى، خاصة إذا كان السلطان جاهلاً كغالب ولاة التغلب والقهر. وهل الشورى ملزمة أم معلمة؟ أورد المؤلف أدلة أصحاب القولين، ورأى صعوبة إصدار حكم واحد عام فيها، وقسم رأيه كالتالي:
- إذا كان في المسألة حكم شرعي صريح، وجب على الحاكم الالتزام به بعد بيانه من أهل العلم.
- إذا لم يكن في المسألة دليل صريح، وجب على الحاكم أخذ الأقوال، ثم اتباع أقربها لتحقيق مقصود الشارع؛ وليس أنسبها لهواه.
- إذا لم يكن في المسألة نص فعلى الحاكم أن يجتهد فيها إن كان أهلاً للاجتهاد، أو يستنير برأي أهل العلم، ويفعل ما يراه أقرب للمصلحة.
- أما القضايا الفنية والتخصصية، فينبغي للإمام مشاورة ذوي الاختصاص، واتباع الرأي الذي يراه أصوب وأنفع.
- ينبغي للإمام المشاورة في الأمور العامة، وأخذ رأي الأغلبية، وإذا أصر على رأيه وجبت طاعته كما يرى الباحث.
عزل الإمام والخروج على الأئمة هو عنوان الفصل الثالث، ومسببات العزل هي:
- الكفر والردة بعد الإسلام.
- ترك الصلاة والدعوة إليها.
- ترك الحكم بما أنزل الله.
- الفسق والظلم والبدعة، وفيه تفصيل.
- نقص التصرف، بأن يطرأ على الإمام حجر باستيلاء أعوانه عليه، أو قهر بالأسر، أو بخروج من يتغلب عليه.
- نقص الكفاءة، بزوال العقل، أو فقدان بعض الحواس المؤثرة، أو فقد بعض الأعضاء المخل فقدها بالعمل.
وأما وسيلة العزل فواحدة مما يلي:
- أن يعزل الإمام نفسه، وأوجبه القرطبي عليه إن وجد في نفسه نقصاً مؤثراً.
- القتال والثورة المسلحة، وهي أخطر وسيلة، ويترتب عليها فتن عظيمة.
- الطرق السلمية، مثل عزله من قبل أهل الحل والعقد، أو العصيان المدني.
ودخل المؤلف إلى دهاليز معترك بحثي متشابك؛ بيد أنه أحسن الدخول والعرض، وهو مبحث الخروج على الأئمة، وأطراف المسألة هم الخارجون، والمخروج عليهم، ووسيلة الخروج. وقسم العلماء الخارجين إلى أربعة أصناف هم:
- الخوارج الذين يكفرون بالذنوب، ويوجبون الخروج على الإمام الجائر، وورد الأمر النبوي الصريح بقتالهم.
- المحاربون وهم قطاع الطرق والمفسدون في الأرض، وعقوبتهم حدية بالقتل أو الصلب، أو قطع الأطراف أو النفي من الأرض.
- البغاة، وهم الذين يخرجون على الإمام العادل طلباً للملك بتأويل سائغ، أو غير سائغ، وأحال المؤلف لرسالة دكتوراه قاهرية بعنوان (أحكام البغاة والمحاربين) للدكتور خالد رشيد الجميلي، ومختصر حكمهم أنهم لا يقاتلون ابتداءً، ويسعى في الصلح معهم، ومعرفة مطالبهم؛ فالمظلمة ترفع، والشبهة تزال، أو يعطوا الحق الذي لهم، فإن لم ينصاعوا للحق وبدأوا في القتال، فحينها يقاتلون عملاً بآية الحجرات. وليس في قتال البغاة حديث صحيح، وغالب أحكامه مأخوذة من فعل علي بن أبي طالب معهم.
- أهل الحق، وهم أهل عدل خرجوا على إمام جائر، ولا تجوز مقاتلة هؤلاء. وأما خروج العادل على مثله، أو الجائر على مثله؛ فهو قتال فتنة يجب اعتزاله.
والأئمة المخروج عليهم ثلاثة أقسام كالتالي:
- الإمام العادل المقسط، وهذا يحرم الخروج عليه مطلقاً.
- الحاكم الكافر أو المرتد، والخروج عليه ومقاتلته متفق على وجوبه مع القدرة، وفي حال انتفاء القدرة وجب السعي لتحصيلها والإطاحة به.
- الإمام الفاسق أو الظالم، وفي الخروج قولان هما:
- عدم الجواز؛ لما يترتب عليه من فتن وشرور قلما يسلم منها الخروج، وهو رأي غالب أهل السنة.
- وجوب الخروج، وسل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونسب ابن حزم هذا الرأي لأبي حنيفة ومالك والشافعي.
وأفاض المؤلف في تفصيل هذين القولين، وأدلتهما ورجح قوة أدلة المذهب الأول، مع الاعتراف بقوة استدلال أصحاب المذهب الثاني، وذكر الباحث رأيه في نقاط ملخصها: وجوب الطاعة بالمعروف، مع وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحريم الخروج على الإمام العادل، ووجوب عزل الحاكم الكافر أو المرتد، ووجوب طاعة الإمام الفاسق والظالم والمبتدع ما لم يأمر بمعصية؛ مع السعي لعزله بطريقة سلمية دون سل السيوف أن أمكن ذلك، وإلا فيجب الصبر على جوره؛ حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر.
وأما الفصل الرابع فعنوانه: موقفهم من تعدد الأئمة، وافتتحه بسؤال مهم هو: هل يوجب الإسلام على الأمة أن تكون دولة واحدة بإمام واحد؟ وأجاب بعد الدراسة أن في المسألة مذهبين، الأول يمنع تعدد الأئمة في زمن واحد، وفي مكان واحد، سواء اتسعت رقعة الدولة أم كانت صغيرة، والمذهب الثاني يقول بجواز التعدد مطلقاً، وبعد أن ذكر المؤلف أدلة الفريقين؛ قرر أن الحق مع أصحاب المذهب الأول.
وإذا وقعت بيعتان في زمن واحد، فللعلماء ثلاثة أقوال فيها، حيث ذهبت طائفة إلى صحة بيعة المعقود له في البلد الذي مات فيه الإمام السابق، وقالت طائفة أخرى بأن الاختيار بينهما منوط بأهل الحل والعقد، ومالت الطائفة الثالثة إلى مبايعة الأسبق منهما إذا عُلم السابق، وإذا لم يعلم السابق أو بويع لهما في لحظة واحدة، فللفقهاء أقوال ثلاثة هي: القرعة بينهما، أو إبطال العقدين واستئناف عقد جديد لأحدهما أو لغيرهما، أو مبايعة من اجتمع عليه الأكثرية، واختار المؤلف إبطال العقد، واستئناف الخيار من جديد من قبل أهل الحل والعقد، ثم لخص الشيخ بحثه السمين في خاتمة من أربع صفحات.
وها قد مضى ثلث قرن على مناقشة هذه الرسالة، واستجدت بعدها أحوال وأحداث، وجدير بفضيلة المؤلف الشيخ أ.د. عبد الله الدميجي أن يعيد نشر كتابه للناس، ويضيف له ما يناسب من مباحث أشار إليها في مقدمته، وحال دونها الوقت والالتزام بمدة معينة للبحث العلمي، وعسى أن يجده المهتمون قريباً منشوراً في كتاب، بطبعة أنيقة، متاحة في المكتبات التجارية والعامة، حتى لا يطلبه أحد في دهاليز مكتبة أبهاوية، أو يبحث عنه مهتم بين ركام الكتب في مكتبة جداوية.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الاثنين 28 من شهرِ ربيع الأول عام 1436
19 يناير 2015