سير وأعلام عرض كتاب

محمد العقيل: وجه قوم في الزُّبير ينيرُ!

محمد العقيل: وجه قوم في الزُّبير ينيرُ!

حفظ المآثر والمحامد فرع عن عراقة الأسر والمجتمعات والثقافات، وهي سنّة ماضية باقية، وربما يدرك الحرج الإنسان حين يكتب عن نفسه أو قريبه، بيد أن الواجب للأجيال والتاريخ يرفع الحرج بل يوجب التدوين، فرواية مكارم الناس، وإحياء فضائلهم، صنيع يترتب عليه بقاء المروءات والخيرات وتوارثها، فما أعظم الأجر، وما أحسن الأحدوثة.

لأجل ذلك سررت بقراءة كتاب ضخم عنوانه: محمد السليمان العقيل: رجل الجود والشهامة (1305-1395=1888-1975م)، سيرة ذاتية ولمحات من حياة محمد العقيل وإخوانه، تأليف نجل شقيقه المحامي د.خالد بن عقيل بن سليمان العقيل، صدرت الطبعة الثانية منه عام ( 1440-2019م)، ويقع في (590) صفحة، ويتكون من مقدمة وفصل تمهيدي، يتبعه بابان في أولهما ثمانية فصول، واختص الثاني بإخوة المترجم، وأخيرًا فصل ختامي فملاحق للقصائد والوثائق، ثم قائمة بالمصادر فالفهرس.

هاجر والده سليمان من “حرمة” إلى “الزبير” عام (1289)، وعمل بنّاء إلى أن صار أستاذًا ومرجعًا في العمارة، بينما كانت والدته لولوة بنت فهد أباحسين تعلّم الفتيات القراءة والكتابة احتسابًا. ختم محمد القرآن الكريم في كتّاب، وأتقن القراءة والكتابة والحساب ثمّ درس على يد فقيه الزبير الشيخ محمد بن عبدالله ابن عوجان الذي تخرج على يديه أعلام منهم: عبدالله الخلف الدحيان عالم الكويت، ومحمد بن مانع رائد التعليم في قطر، وإبراهيم بن عيسى مؤرخ نجد، وعبدالمحسن أبابطين قاضي الكويت.

ثمّ تزوج المترجم ثلاث مرات وأنجب خمس بنات وابن واحد هو قاسم، واقترنت بنات محمد بالأفاضل يوسف  بن عبدالله الشنيفي، وعبدالرحمن بن محمد الرشود، والمحامي والأديب سعود بن عبدالعزيز العقيل، والأمين العام المساعد لرابطة العالم الإسلامي المستشار عبدالله بن عقيل العقيل، ومعالي عضو هيئة كبار العلماء الشيخ الدكتور يعقوب بن عبدالوهاب أباحسين، فيما رحل ابنه قاسم عن بنت واحدة تزوجها الأستاذ عبدالسلام  بن عبدالرحمن العقيل.

من صفات الوجيه العقيل المبادرة واستثمار الفرص بحس تجاري، ورؤية استشرافية باصرة، فما إن افتتحت مطاحن للدقيق في البصرة حتى أسرع بجلب الطحين وبيعه؛ فوجدت بضاعته رواجًا لدى أهل الزبير الذين ارتاحوا من عناء الطحن بالرحى؛ ووثقوا من نصحه وتغيير الطحين الذي لا يعجب المشتري، والتجارة فن، والنجاة من حسراتها الأخروية بالأمانة وحسن المعاملة.

ولبراعته ونشاطه وحضوره اللامع صار مؤسسًا أو عضوًا منتخبًا في غرف التجارة وجمعيات التمور، وحضر عددًا من المؤتمرات داخل العراق وخارجها، وبنى الأسواق المسقوفة التي تحمل اسمه حتى يومنا، وله تجارة واسعة في تصدير التمور والشعير، واستيراد الشاي والقهوة والسكر، وبعد أن صبّ الله عليه الرزق اجتهد لإقناع والده بترك العمل في البناء كي يرتاح من عناء الإشراف والمتابعة، وهذا من البر وردّ شيء من جميل الأب، فأنت ومالك لأبيك.

كما أصبح عضوًا في لجان تحكيم ومجالس إدارة لمدينتي البصرة والزبير، وشارك في مفاوضة الإنجليز عن أهل البصرة إبان محاولة انقلاب الكيلاني الفاشلة، وعمل بحكمة على حماية الزبير من شراسة الشيوعيين بعد انقلابهم، وصدق الشيخ مسعود الندوي حين وصف الوجيه محمد العقيل في مذكراته بأنه ذكي يعرف بواطن الأمور، فالشؤون العظيمة لا يصلح لمعالجتها من لا يبصر غير الظواهر، أو يغرق فيما طفح منها.

ولأن الرجل واجهة للزبير النجدية وأهلها، بنى علاقات سياسية واسعة مع زعماء البلد الذي يعيش فيه ويتاجر به، واستضاف عددًا منهم في منزله، سواء من رجالات العهد الملكي مثل الملك فيصل الثاني والأمير عبدالإله ورئيس الوزارات نوري السعيد، أو رجال العهد الجمهوري كقاسم والأخوان عارف، وله روابط وثيقة مع رموز جواره الكويتي مثل الشيخ عبدالله السالم ونجله الشيخ سعد العبدالله وعذبي المحمد الصباح وبعض أعيانها وتجارها.

أما تواصله مع بلده الأصلي فلم ينقطع، وكان متين الصلة بالملك سعود والملك فيصل والأسر التجارية وأهل حرمة، ويزور الرياض سنويًا لمدة شهر في ضيافة آل القصيبي الأفاضل أواخر الخمسينات وأوائل الستينات الميلادية، ويقضي ساعات متواصلة في اجتماعات يومية بالإمارة، وجعلته هذه المكانة واحدًا ممن دعي لحضور تنصيب الملكة اليزابيث في لندن.

أصلح الثري محمد السليمان العقيل دنياه ولم يغفل عن آخرته، بل بنى عددًا من المساجد ورممها، واشترى الأراضي ووقفها للمساجد، وسعى في الحصول على هبات وتبرعات لها من الأثرياء والمحسنين، وبعد العمارة الحسية عمرها معنويًا بالصلاة والمكوث بها والاعتكاف، وإنما قرة العين في الصلاة، وسكينة النفس بالمسجد، وما أسعد من وجد في صحيفته تشييد مسجد ولو كمفحص قطاة، وما أعظم أجر انتظار الصلاة فذلكم الرباط.

وأفاض الرجل من خيراته على إخوته الذين أوصاهم والدهم بطاعة كبيرهم والالتفاف حوله، فأشركهم معه في عالم التجارة الموحش لمن لم يجد دليلًا ناصحًا قبله، وساندهم وأبناءهم في التعليم وابتداء العلاقات، وفتح مجلسه معهم كل يوم بين العشاءين، وبعد عشاء ليلة الجمعة، وهو مجلس علم، وسمر، وإطعام، وقضاء حاجات، وتفريج كربات، وبه عبر عدد من قامات العالم الإسلامي من مشرق شمسه إلى مغربها.

ولم يكتف أبو قاسم بحسناته الأسرية أو ينكفئ على خاصة نفسه، بل وهب شيئًا غير قليل من وقته وجاهه ورأيه وماله للناس البعيد منهم والقريب، الحبيب فمن دونه، والفقير قبل الغني، فكم من إنسان ولج على يديه إلى السوق وغدا مأمونًا عند التجار بتزكية العقيل له، وكم من ضعيف أعطاه من البضائع ما يفتح له باب رزق يصارع قسوة الحياة وكوة نور تطرد ظلمة الفقر، وكم من منكسر بصفقة أو شروط مجحفة وجد فيه الكفيل والمعين، وكم حث أهل بلدته حرمة على الالتحاق بمدرسة النجاة وساعدهم في ذلك، وباب الجنة مفتوح لأهل الإحسان.

أيضًا من أعماله بناء المدارس والمكتبات، فهو في صدارة المتبرعين لبناء مدرسة النجاة الأهلية الشهيرة، وفي طليعة المتبرعين لشراء أرض للمرحلة المتوسطة، ولمحورية التعليم في نفسه صرف من جيبه رواتب معلمي مدرسة النجاة الأهلية بعد أن شحت مواردها إبان الحرب العالمية الثانية، كما ابتاع دكانًا كبيرًا في أحسن مناطق السوق ليكون مقرًا مؤقتًا للمكتبة العامة حتى انتقلت لمقرها الجديد الفخم الذي احتضن حفلات في مناسبات مختلفة، ومسرحيات وانتخابات، ومراسم استقبال الزعماء الزائرين، وبعد أن احتلته القوات البريطانية سعى لاسترجاعه دون هيبة من بطش الإنجليز، أو ملل من طول سنوات المتابعة حتى استردوه، ولا يضيع حق وراءه من يطلبه، والمكتبة قائمة حتى يومنا.

كما دعم جمعيات الإصلاح والعمل الاجتماعي والرياضي سواء في الزبير أو حرمة، وصرف أربعين ألف لتنفيذ أول مبنى مسلح في حرمة استعمل مدرسة ثم بإذنه صار مقرًا للنادي الفيصلي، وهو متحف جميل الآن. وحمل على عاتقه وحده مسؤولية إقامة أول مستشفى للأمومة والأطفال والولادة فأحيا بذلك نفوسًا وآمالًا، وأبهج أفئدة تخشى على حملها الغالي من عسر الولادة، ولكم أن تتخيلوا أنه شريك في أجور الأعمال الصالحة من مواليد ذلك المستشفى وفضل الله كبير واسع.

بينما أنهى كثيرًا من المنازعات الشخصية ولو بدفع مبالغ من ماله الخاص، وباع أراضيه لأصحاب الدخل المحدود بأسعار معقولة ليبنوا عليها مساكنهم، وبنى سور مصلى العيد، وأما المقبرة فتكفل بصرف مبالغ ضخمة لإقامة سورين عليها وليس سورًا واحدًا رعاية لحرمة الأموات، وشارك في مشروع شركة كهرباء الكويت مع أنه استثمار بتجارة غير مضمونة الربح ولا مأمونة العواقب.

من صفاته أنه لا يعرف الغش في تجارته كما سلف في بيعه الطحين، وتبديل أي كمية بعد البيع، ولا ينكث عقوده مهما كانت الفرصة مواتية له حتى انبهرت الشركات الأجنبية من محافظته على شروط التعاقد معهم، ورفضه اهتبال فرصة ارتفاع الأسعار للضغط عليهم، وذات مرة باع أحد إخوانه بضاعة لتاجر فتأخر في سداد قيمتها؛ فما كان منهم إلّا أن تاجروا له فيها، وأخذوا ما وجب عليه، ومنحوه أرباح بيع لم يتعب فيه ولم يكد يصدق هذا الفعل النادر!

وحين احترقت مخازنه سرى الخبر في العراق أشد من انتشار النيران في المخازن؛ فهرع الموردون للمطالبة بأموالهم استباقًا لإفلاسه وانكساره كما أشيع، فأمر أن يُعطى من يطلب أمواله نقدًا دونما تأخير، فلما رأى التجار ذلك أيقنوا بقدراته وخافوا عاقبة انقطاع تعاملهم معه فلم يطالبوه بشيء، وعوضه الله خيرًا؛ فخسائر الحريق كثيرًا ما يبدلها الله أرباحًا مضاعفة، فضلًا عمّا أضافه إلى رصيد سمعته الحسنة.

وللشيخ صلات بعلماء في أقطار العالم الإسلامي، وشارك في جهاد أهل العراق ضد الإنجليز، وساند حركات الجهاد والمقاومة في الجزائر وفلسطين، وكان خير معين للشيخ الشنقيطي في مشاريعه العلمية بالزبير، وأسهم في جمع التبرعات لمن يستحقها، وبعد أن خرج من زيارة الشيخ محمد بن إبراهيم قال لمن معه بفراسة صادقة: إذا مات ها الشيخ فسوف يترك فراغًا يعجز عنه عشرة رجال بعده، بينما أعجب به الأديب والشاعر عبدالله بن خميس وقال بأن الوجيه العقيل من كملة الرجال، ووصفه الشيخ د.تقي الدين الهلالي شعرًا بأنه وجه قوم في الزبير ينير.

ولم يقف الشيخ بعد الجهاد بالمال والنفس، بل سعى مع الغيورين لإنكار منكرات المجال العام في الزبير، ورفض أي مظاهر تخل بثقافة المجتمع الزبيري النجدي المحافظ، وبعد أن باع أحد قصوره استثنى بئرًا مجاورة للقصر من صفقة البيع، وصيرها سبيلًا للسالكين ولمن شاء، وأيّ أجر أعظم من سقيا الماء خاصة مع شحه أو في صيف لاهب كصيف الزبير والبصرة، ولم تنقطع شفاعاته لصغار التجار ومن دونهم حتى لو ضمن بنفسه معالجة أي خلل ينجم عن شفاعته من حر ماله، وما إن علم بحاجة عالم كبير لشراء منزل حتى بادر بذلك وفاء لوعد قديم، وحماية لمقام العالم من أن يبتذل أو يُهان العلم السامي الذي يحمله.

من لطائفه أنه كان يزور الأحساء الجميلة دوريًا وينزل لدى آل الغنيم الكرام، وبعد أن أثرى وصار تاجرًا أضحى يحل في الأحساء عند آل المبارك الميامين، فلما سُأل عن غايته من تغيير مكان إقامته قال: أفدنا من الغنيم التجربة الاستثمارية والخبرة التجارية، ونريد اكتساب العلم والثقافة من المبارك. ولا عجب أن امتلك الرجل تجارة عريضة، واسمًا رصينًا في دنيا المال، ومكتبة حافلة مزجت ثقافته ما بين مقروء ومسموع خلافًا للأثرياء والوجهاء الذين لا يجدون وقتًا لغير المسموع.

إن هذه المكرمات في حياة الشيخ الوجيه محمد السليمان العقيل تمثل مرآة عاكسة لغالب الوجهاء والأثرياء في مجتمعنا من ذوي الأصالة والارتباط العميق مع بلادهم وأهلها وثقافتها ومصالحها، ولم يمنعهم هذا الترابط من سلوك شتى السبل للعلم والعمل والاكتساب والتجربة الرشيدة؛ بيد أنهم خاضوا في لجج هذه الدروب بقيم نبيلة، ومثل راقية، وبانجذاب نحو المعروف والإحسان وفعلهما متى سنحت الفرصة، أو كانت الحاجة بادية، ولهم أجر أصل العمل، وأجر من اقتدى ولو بعد حين، وأجر بقاء الخبر الجميل نتوارثه ونرويه، وآمل أن نرى الكتاب متاحًا على رفوف المكتبات ليصل إليه الراغبون.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

ليلة الجمعة 08 من شهرِ ذي الحجة الحرام عام 1440

09 من شهر أغسطس عام 2019م 

Please follow and like us:

5 Comments

  1. الشيخ الوجيه محمد السليمان العقيل يذكره التأريخ مدينة الزبير بكل تقدير واحترام على مر السنين ولا يزال اسمه مرفوعا على علم من نور …فمآثىه لا تزال تصدح بإسمه كمستشفى الولادة والاطفال و الأسواق التي انشأها لا تزال تحمل اسمه مع اختلاف الحكومات العراقية وهجرة النجادة من مدينة الزبير .
    ابو عبدالقادر محمدالحميدان
    ٢٠١٩/٠٨/٠٩ الدمام
    instagrsm#humaidan50
    #مصور_الزبير

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)