حروب إيران..!
قرأت كتابًا عنوانه: حروب إيران: ألعاب الجاسوسية، والمعارك المصرفية، والصفقات السرية التي أعادت تشكيل الشرق الأوسط، تأليف: الصحفي جاي سولومون، ترجمة: د.فؤاد زعرور، وصدرت الطبعة العربية الأولى منه عن دار الكتاب العربي في بيروت عام (2017م)، ويقع في (358) صفحة، ويتكون من تمهيد وأحد عشر فصلًا فخاتمة ثم شكر وتقدير، ولم تسلم الترجمة من أخطاء نحوية ومجاراة أسلوب الكلام بالإنجليزية.
يمتاز الكتاب بسلاسة تشبه الروايات المثيرة، ويقترب أسلوبه من كتاب البروج المشيدة لمواطنه لورانس رايت، علمًا أن المؤلف كان مراسلًا للشؤون الخارجية في صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، وقاده تأليف هذا الكتاب إلى بحث عميق ونبش مستفيض في المفاوضات مع إيران والعقوبات المضروبة عليها، وصرم عقدًا من المغامرات والسفر والمقابلات الخاصة لمحاولة فك ألغاز أربعة عقود من العداء بين الثورة الإيرانية والبيت الأبيض.
وقد تعمدت إطالة أمد قراءة الكتاب؛ بيد أن احتدام التصريحات المتبادلة، وتعاقب التغريدات الرئاسية، وإسقاط الطائرات الأمريكية المسيرة، وتفجير ناقلات النفط في مياه الخليج، عجلت من وتيرة القراءة، وهو كتاب جدير بأن يشار إليه لمحاولة سبر شيء من سلوك البلدين، وتوقع بعض ما قد يحدث خفية أو خلسة، والله يحمينا، ويجيرنا من الحروب والقلاقل، فنحن بعد انتهاء مسلسل الشد والجذب بين البلدين أمام خيارين متناقضين: فإما أن نفجع بزيارة نيكسون لبيجين، أو نفزع من تدمير ترومان لهيروشيما!
فالعلاقات الرسمية مقطوعة بين أمريكا وإيران، ويقع النظامان على طرفي نقيض في كثير من المواقف المعلنة، وتلتزم أمريكا بحماية أمن إسرائيل وحلفائها من العرب، بينما لا تكف إيران عن إطلاق الصيحات للقدس، والوعود ضد تل أبيب والشيطان الأكبر، مع تقوية أذرعتها في الخليج سواء كانت عبر فصائل أو خلايا نائمة أو شركات، وصولًا إلى السيطرة أخيرًا على القرار في أربع عواصم عربية وتهديد غيرها.
وصاحب ذلك مناكفات إيرانية أمريكية أو إسرائيلية إيرانية في مجال الجاسوسية، والاغتيالات، والتفجيرات، وما تلاها من ملاحقات أمريكية أدت إلى خنق الاقتصاد الإيراني والدفع بنظامها المالي خارج الدائرة العالمية لتغدو منبوذة يتحاشى كثير من اقتصاديات العالم ومصارفها وشركاتها التعامل معها خوفًا من العقوبات الأمريكية، وسطوة وزارة خزانتها التي اشتهرت بسيطرة اليهود على مفاصلها، وأسماء النافذين فيها فضلًا عن أفعالهم تؤكد ذلك، وكان لهذه الإجراءات أثر سلبي على تصوير أمريكا بأنها ملاذ آمن للأموال والاستثمارات والودائع.
ومع ذلك كله فقد تحالف الخصمان في مواقف استراتيجية كثيرة، منها الحرب على طالبان والقاعدة، ثم الإطاحة بصدام حسين والبعث، وسبق ذلك التنسيق الإيراني الإسرائيلي الأمريكي في صفقات أسلحة وتبادل أسرى، وإقامة العلاقات الوثيقة مع الأكراد في العراق فيما مضى، وفي غيرها فيما بعد، ومسلسل الفضائح لا يغلق إذا فتح.
أيضًا لهذا الثلاثي شبه توافق مصالح على الموقف في سوريا؛ فإسرائيل وأمريكا لا تثق ببديل سني عن نظام الأسد أهم حليف عربي لطهران، ولذلك صمد بشار الأسد خلافًا لغيره من زعماء العرب الأقدم منه الذين تهاووا تحت طرق شعوبهم المتكرر مع أن بعضهم كان قريبًا من أمريكا وفلكها؛ لكن إيران لم تكن حاضرة لتناور!
وفي سياق الخلاف بين البلدين حظيت إيران بتنازلات متوالية من المفاوض الأمريكي فيما يخص برنامجها النووي، وأسراها، والعقوبات المفروضة عليها، ولذلك انتعشت عقب إبرام الاتفاق مباشرة، واهتبلت الفرصة لمعالجة آثار عقود من الضنك والضيق، ويبدو أن الفرس قد أعدوا العدة لمثل تلك اللحظة التاريخية التي قدروا أن نعيمها لن يطول، وأن نذر الحرب ستعود من جديد؛ ليطل شبحها على المنطقة المضطربة أصلًا، ولا أدري هل يخشون الحرب حقيقة، أم أنهم موقنون سلفًا أن العويل المستقبلي مآله إلى التعقل والترتيب خلف الكواليس؟!
ونلاحظ في دهاليز هذه القصة الطويلة تشابه إيران وأمريكا في أشياء كثيرة، ففيهما منهجان يتنافسان على الحكم، ومجالس جاء أعضاؤها بالانتخاب، وبينما يمسك الخامنئي والحرس الثوري بمفاصل الأمر النهائي بطهران، تتحكم جماعات الضغط الاقتصادية واليهودية في كثير من وسائل صنع القرار الأمريكي. ولهما باع مذهل بالعمل الاستخباراتي وتجييش الجماعات العنيفة والفئات الانفصالية، وما أكثر ما يبرع زعماء البلدين بالتصريحات المجلجلة المخيفة؛ بينما تحتضن الفنادق التاريخية وفود المفاوضين عنهما سرًا!
كما امتازت مسيرة العناد والعراك والعويل والعناق بين البلدين بوجود رجال دولة يعرف كل منهم ثقافة الآخر وربما لغته، وبينهما قواسم مشتركة في الدراسة والاهتمام وممارسة الرياضة، ولا يخلو الأمر من اختلافات طريفة أحيانًا في المظهر والصوت والحركة، ومع ذلك ساد اللطف بين أعضاء الوفود التفاوضية العلنية والسرية، وتبادلوا هدايا الأطفال، ومشاعر الفرح أو الحزن بمناسبات شخصية وقومية ودينية.
وظهر لي من سرد الكتاب أهمية تحريك مصالح الأطراف التي تؤثر في المشهد؛ فأمريكا تباطأت في فرض العقوبات الاقتصادية مراعاة لكسب مواقف روسيا والصين والاتحاد الأوروبي، ومع أن فرنسا رفعت عقيرتها بمعارضة تفاصيل الاتفاق النووي إلا أنها كانت أول المسارعين لإبرام صفقات تجارية مع إيران الجديدة، والسياسي الحاذق لا ينشغل بالجدار وإنما يبحث عن شقوقه حتى ينفذ منها.
وربما يغضب البعض من وجود دول تظهر الحياد بينما حيادها مفيد لأطراف الأزمة والمتضررين منها؛ كي تصبح جسرًا بينهما كما فعلت عُمان بين طهران وواشنطن بغض النظر عن تقييم تصرفها وإنما الفكرة بحد ذاتها جديرة بالثناء؛ فلو لم يجد المتنازعون من يقف بينهم، وينزع الفتيل بمجرد قربه من النّار، لبقي سعار الحروب والخلافات أمدًا بعيدًا، والخسائر مشتركة متفاقمة.
من طريف ما في الكتاب وهو سلوك أمريكي مستمر طوال أزمة إيران النووية، أن البيت الأبيض يبعث رسله لرؤساء إسرائيل لمنع أي ضربة فردية ضد مفاعلات طهران، والطرافة في الموضوع من وجوه، أولها أن أمريكا تجتهد في حماية إسرائيل ودعمها وإخضاع جوارها وغيرهم لها، ومع ذلك فحين تريد من حكومتها شيئًا تطلبه بتودد ولا تأمر به، والثاني أن حكومة إسرائيل لا تجيب على الوفد الأمريكي مباشرة بل تناقش الموضوع داخليًا؛ ثم تلبي الرغبة الأمريكية بعد أن تحصد مكاسب شتى، وثالثها أن إسرائيل لم تتوان عن ضرب مفاعل العراق، ولم يُشفع له من واشنطن خلافًا لما هو أقوى وأكثر تقدمًا في إيران، فهل الأمر محض صدفة؟
بينما يبرز في الكتاب البراعة الفارسية في المفاوضة، وإطالة أمدها، والتوسع على الأرض حتى تفرض الحقائق نفسها فما كان متوقعًا أصبح موجودًا وبالتالي فمنعه محال ولا مناص من التعامل مع حقيقة وجوده، وكان المفاوض الإيراني يعرف ماذا يريد، وما هي حدوده، ومدى قدرة المقابل على التحمل، ويراعي عامل الزمن وضغطه، وأخشى أن تخرج إيران من هذه الحلبة بقوة وتفويض يزيدها إيغالًا في جنون العظمة.
ويظهر جليًا حرص الطرفين على تجنب المواجهة الكبرى مباشرة أو بوسطاء، فتعامل الغرب مع داعش والقاعدة يختلف كثيرًا عن تعاطيها مع حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وجيش المهدي وفيلق بدر وعصائب الحق في العراق، واستخدام سجل إيران في حقوق الإنسان لا يحظى بمثل قوة استعمال سجل دول أخرى، وكان موقف الغرب عند سقوط زعماء عرب سنة حلفاء له ولحلفائه دون المأمول، ولم يفعل الغرب شيئًا للأسد الذي لم يترك محظورًا إلا وارتكبه، ولا يلام من تسرب إليه اعتقاد مفاده أن أمريكا وإيران مثل لاعبين صديقين جمعتها الصدفة في ملعب واحد، ولا مناص من احتكاك وتشابك بينهما مع بقاء أساس الصلات الاستراتيجية!
وبعد رسائل علنية من أوباما للشعب الإيراني ولمرشده الأعلى، وعقب مفاوضات سرية ومعلنة، ظهرت الوفود التي تمثل سبع دول لتسعد العالم أو تغيظه بإعلان الاتفاق النووي بين ست دول كبرى من طرف وإيران من طرف آخر، ووافق يوم الإعلان السابع والعشرين من شهر رمضان بقداسته المعروفة، والرابع عشر من يوليو المصادف لذكرى تحطيم سجن الباستيل في باريس، وكان لمشاركة ألمانيا وهي ليست دولة فيتو أسباب تعود لتبادلاتها التجارية مع إيران، ومعلوماتها الاستخبارية الضخمة عن مشروعها النووي، ولاشتراكهما في العرق الآري ربما.
ثم إني عقب فراغي من قراءة الكتاب تأملت فوجدت أن آخر حرب مدوية بين فارس والروم كانت قبل الهجرة النبوية الشريفة، وانتهت الحروب فعليًا بين الأمتين بظهور الأمة الإسلامية وتوسع جيوشها في العراق والشام وما خلفهما، كما أن التعاون الوثيق بين اليهود والفرس قديم يعود إلى أيام قورش وحرب بابل، ويعيش في إيران نسبة من اليهود ينعمون بحرية وطلاقة في عهدي الشاه والثورة لا يجد معشار عشرها المسلمون السنة أو العرب الشيعة، والله يحمي ديار المسلمين، وشعوبهم، وأراضي العرب، من أي غدر أو تحالف غادر خفي أو جلي، قريب أو بعيد.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الجمعة 02 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1440
05 من شهر يوليو عام 2019م