سير وأعلام عرض كتاب مواسم ومجتمع

رَواء من مكة

رَواء من مكة

أيّ شيء فعله المفكر المغربي أبو زيد المقرئ الإدريسي حينما أثنى لبضع دقائق على كتاب ضمن البرنامج الشّهير سواعد الإخاء الذي يشرف عليه بإبداع د.محمّد السّيد، وعُرضت نسخته الأخيرة خلال رمضان المنصرم، فطار ذلكم المقطع المرئي القصير، وجاب المنصّات بل اكتسح رسائل الواتساب، وأحدث سجالًا فكريّاً، وطلبًا لا يتوقف على الكتاب الذي نفدت نسخه من ناشره المغربي، والحمدلله أن هيّأ لي صديقًا كريمًا آثرني بنسخة ورقيّة منه.

عنوان الكتاب: رَواء مكة: سيرة روائيّة، تأليف: حسن أوريد، صدرت الطّبعة الثّانية منه عام (2019م) عن المركز الثّقافي العربي بالدّار البيضاء، ويتكوّن من ومضات وذبذبات وهمزات فإشراقات ثمّ البشائر فتداعيات وأخيرًا الحنين إلى مكة، ويقع في (223) صفحة من القطع المتوسط.

ونلاحظ من عناوين الكتاب أنّها مزيج من حسيّة وروحيّة، يختلط فيها السّمع والبصر مع العقل والقلب، ويتداخل الواقع مع الخيال وأحاديث الذّات، وفي تضاعيفها تتفاعل التّربية الأسريّة مع عوادي الزّمن، ويتصارع الإيمان مع الشّكوك، ويتجادل العقل مع التّدين، وتهجم الهمزات من الدّاخل والخارج، فتقاومها دفاعات اليقين ومدارك المعاني الكبرى، واستحضار مصابرة شخصيّات تاريخيّة ملهمة.

أمّا الكتاب فهو رحلة حج مسبوكة بقالب روائي ثمين لم تقتصر على وصف المظاهر الخارجيّة بل لم تلتفت إليها كثيرًا إلّا فيما يحقّق غرضها الأساسي النّافذ إلى الأعماق، وهو سيرة عقل ومسيرة إيمان منذ الطّفولة مرورًا باليفاعة والشّباب وصولًا لسنّ الرّشد والأشدّ التي شاء الله أن تكون في ربوع مكّة الطّاهرة، بعد أن جال المؤلف في أرض الأندلس، وتصالح قليلًا مع حضارته التي هجرها عقودًا في حال صدود يتكئ على ثقافة عقليّة عميقة بيد أنّها غربيّة المنزع، وإن كانت الأصول المتوارية إسلاميّة أصيلة، والله يثبتنا وإيّاه على الحق.

لأجل ذلك استهلّ الكاتب الفصيح روايته بآيات قرآنية من سورة الزّمر تحثّ على التّوبة وتحذّر من القنوط، ثمّ جعل الإهداء لوالديه الكريمين وروح جدّته الصّالحة لما لهم من فضل في نشأته على الإسلام بادئ الأمر، ثمّ عودته إلى نبعه بعد ابتعاد دام ثلاثة عقود عجاف كأعجاز نخل خاوية وإن تشبّعت بثقافة عالميّة واسعة، وهذه منقبة للتّربية التي تثمر ولو بعد حين ومناكفة. واختار حسن أوريد للعنوان مع مكة كلمة رواء بفتح الرّاء التي تعني العذْب، وما أعذب جوار الكعبة فهي ذات دلائل تقوّي البصيرة، وتسدّد الفكرة.

يحكي المؤلّف قصّة سفره لأداء فريضة الحج من مكناس بالمغرب في مصادفة حملها القدر إليه دونما سعي منه أو رغبة، فكانت رحلته الفريدة نسيجًا من إيمان وعقل، وعبادة واستكشاف، وفي ختامها وقع على سرّ الحج ووعى فلسفة الإسلام، وفهم معاني أذكار وأدعية ولوازمهما؛ فالله أكبر من أيّ شيء، ولبيّك الّلهم لبيك لا شريك لك البتة، وكلّ شيء يُترك طلبًا لمرضاتك وقربك.

وكانت تلك فرصة طوى معها صفحة من حياته، وانتصر على متع وشهوات ومكانة تشدّه إلى حياته السّالفة، ويالها من هجرة، وياله من موقف شجاعة صُرع فيه الشّيطان وتهافت هوى النّفس، وغدت رحلته بداية تحوّل من طريق إلى آخر سبق أن ولجه بالوراثة، ثمّ عاد إليه مدفوعًا بقوّة الإيمان وصدق الاقتناع.

كما وقع للكاتب لقاء مع ذاته في مكة، وفهم الإسلام على أنّه فلسفة حياة فاعلة مقدامة، وكان موزعًا بين شخصين أحدهما يؤدي الشّعائر، والآخر يرمقه ويرصد ذبذبات التّحوّل، حتى أصبح لحياته معنى أدرك بعدها مدلولات دقيقة لشهادة أن لا إله إلّا الله محمّد رسول الله، وعرف أنّه كان مقمحًا كالبعير يرفع رأسه إباء، ويرفض شرب الماء مع أنّ فيه حياته ونجاته، فلمّا انحنى ارتوى ولأسرار القرآن العزيز اهتدى، ونزع نفسه من كلّ هوى صادحًا بالتّلبية، جاعلًا العقل صاحبًا لا سيّدًا.

وكي لا نكون من المخلّفين على هامش التّاريخ يرى الباحث ألّا مناص من إحياء قيم عربيّة كالجود والإباء، التي أتى الإسلام بالإيمان ليكملها ويسيّرها على منهاج قويم، وينبغي الارتواء من نعمة القرآن، والاهتداء بنور الرّسول الذي يستضاء به، واسترجاع الوظيفة الاجتماعيّة للمسجد، وإحياء أخوّة الدّيانة ورفع الوعي بالانتماء وتحطيم صنم الأعراق، واستخلاص روح العبادات حتى لا تصبح طقوسًا جامدة، فالحج لقيا وتآصر وتعارف، وهو محرّك للعالم الإسلامي ورابط بين شعوبه ليتفاعلوا مع بعضهم لا أن يكونوا أشتاتًا متناثرة، وليتعاملوا مع حضارتهم باعتزاز واعتداد متسلّحين بالعلم والذّكاء لإعادة الاعتبار لذواتنا أمام الغرب، ومن تخلّى أصابه عار الفرار يوم الزّحف.

ونلمح من السّيرة حياة عقليّة بين الكتابة والقراءة والتّأمل، وفيها أصابه النّدم من موقف واحد شابه فيه مرتزقة الكتّاب والإعلاميين الذين يخدعون النّاس ويضلّلونهم ويصنعون وعيًا زائفًا ليل نهار دون ندم أو محاسبة نفس، وحمل بوفاء دينًا لزوجه وآخر للصّحافة، وثالثًا للحركة الأمازيغيّة. ولم يعد الإسلام في حياته إلّا ذكرى وحنينًا يستدر التّوقير لأنّه دين الآباء والمجتمع، وحسب أنّه بعقله يلتمس السّبيل، وبنتاج الغرب يقارع الأكوان، وهو في الحقيقة يجري وراء سراب، وكانت تقديراته واهمة مثل طواحين هواء اكتشف عقبها أنّ من لا يرتبطون بجذور تعصف بهم الرّياح في مهاوي سحيقة، واستيقن أنّ العمق الفكري والالتزام السّياسي لا ينفصلان عن الرّسوخ الثّقافي، وأنّ لكلّ لغة مؤشرات أعمق، والعربيّة تحديدًا تجاوزت كونها لغة إلى عبقريّة نترّسم آثارها.

لذلك يتساءل الكاتب المثقف: هل كنت أعرف الغرب حقّ المعرفة وهو الذي أجاد لغتهم وعاش بين ظهرانيهم، وقرأ كتب الفلسفة والرّواية محيطًا نفسه بأغلال ثقافة تزدريه وتزري بإرثه الرّوحي والفكري، ولا تراه مهما صدف عن ماضيه إلّا جزءًا منه! وليت من افتتن بالغرب أن يسأل نفسه: هل فهم الغرب؟ وكيف يراه الغرب حتى وإن نزع علائقه مع حضارته؟ وسيكون الجواب الحقيقي صادمًا؛ فالغرب يدعو لحقوق الإنسان ويغتالها، ويطالب بالحرية لكنّه يساند الاستبداد، وأوجاعه مترفة مقرفة ما بين شفقة على حيوان، أو انتصار لشوّاذ، بينما يتعامى عن ملايين البشر من جياع ولاجئين ومظلومين ومقتولين.

وفي الكتاب لمحات طريفة، مثل باحث انغمس في انتقاد حركة إسلاميّة مغربيّة دون أن يقرأ عنها شيئًا من تصنيف رموزها وعلمائها؛ فجاء بمضحكات وعجائب مختلقة، وهو بلاء يصيب من يتصدى لتفكيك أمر معتمدًا على كتابات خصومه ومناوئيه، وهذا عيب علمي وخلقي يأنف منه العاقل والحيي، وفيها خبر خطب مملة في مؤتمر إسلامي بكوالالمبور يلقي بعضها عرب أقحاح يلحنون ويخطئون حتى في تلاوة القرآن، ومنها تفضيل الإنجليز باستثناء التّجار شكسبير على الهند، ليطرح المؤلّف سؤاله: هل يختار العرب المتنبي أم ثرواتهم؟

ومن لفتات الكتاب اجتهاد المحتل الغادر لإعداد أجيال من أبناء أمّتنا ومسخهم ليكونوا درءًا له وردءًا وبئس القوم هم، واتّهام النّفاق بتعطيل مقدرات الأمّة، والثّناء على فهم المسلمين الأعاجم لمعاني النّصوص وروحها بقدر أعمق من العرب أهل الّلسان، فشريعتي يرى الطّواف مثل السّيل والطّائف كالقطرة قوّته من قوّة المجموع، بينما يجزم الأفغاني أنّ الشّعوب المسلمة لا يحرّكها سوى الإسلام، وللحسن اليوسي مواقف شامخة في مناصحة طغاة زمانه والتّعاطي الاضطراري معهم، وعلى فراش الموت شكر محمّد أسد مولاه أن منحه الفرصة لملاقاة عرب أسلم على أيديهم قبل أن يتغيّر العرب!

وبعد أن استقرّت معالم فكره الأصيل الذي آب إليه بعد طول غيبة، لم يقبل الازدواجيّة بين واقعه ومسلّماته؛ فتخلّى عن وظيفته الحكوميّة المرموقة، وهجر رونقها ومشتهياتها فهو قد نهل من رواء مكة، واستنشق أريج سيرة النّبي الكريم عليه الصّلاة والسّلام، فنفض الأغلال، ولم يعد موثقًا بمنصب يلجمه، وتابع التّحوّلات الإقليميّة ليشاهد جموعًا من غرس الحريّة وقربان الكرامة وسقي الإباء، يكتبون تاريخًا جديدًا بعد أن تخلّصوا من جميع أسباب الشّرك وضروب الأوثان، ثمّ دفع كاتبنا بروايته للنّور لتكون شاهدًا ومنارًا، ولا يسلم عمل من مآخذ وثغرات إذ الكمال عزيز، وعسى أن يراجعها المؤلّف في طبعته القادمة.

كم نحن بحاجة إلى كتب من هذا القبيل، تنفذ إلى العمق، تذيب الرّواسب، تعيد إثارة السّؤال، وتفتح مجالًا رحبًا للقول بعد تفكير، وللتّعبير بعد معايشة وتأمّل، وتضع النّص الشّرعي في مكان سامق، وتجتهد في استلال معانيه ومقاصده، وتجعل المصلحة العامّة المعتبرة غايتها متجافية عن الأطماع والأحقاد، فلحضارة أمّتنا من المتانة بفضل الله ما يحميها ويميز الحقّ من الباطل، والجفاء مصير الزّبد، وما ينفع النّاس تحتضنه الأرض، وتحتفظ به ليرويها، ويورق ويثمر ولو بعد أزمان وأحقاب.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الخميس 10 من شهرِ شوال عام 1440

13 من شهر يونيو عام 2019م 

Please follow and like us:

4 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)