يحرص كبار الأمم الحيّة العريقة على معايشة الحاضر بما فيه، دون تشامخ على الماضي مهما كان فيه، مع خدمة المستقبل وإن لم يكونوا من بنيه، ومن مفردات إرادة الخير للأجيال القادمة أن يتفرّغ أصحاب المهام العظيمة لكتابة أجزاء من سيرتهم عذبة كانت أو عذابًا، وهما خياران لا يسلم منهما أحد البتة، وكم في إيضاح السّبيل من أجر لمن صدق ونصح.
لأجل ذلك أستعرض قصّة علم وعمل وأدب ومعاناة، عنوانها: مسيرتي مع الحياة، تأليف معالي أ.د.محمّد بن أحمد الرّشيد، صدرت الطّبعة الثّانية منها عام (1435=2014م)، وتقع في (334) صفحة مكوّنة من إهداء، وتعريف بالكتاب، فمقدّمة الطّبعة الثّانية، ثمّ مقدّمة الطّبعة الأولى بعنوان لماذا هذا الكتاب؟ وبعد ذلك أربعة فصول عن النّشأة، والدّراسة الجامعيّة والعليا، فمحطّات علميّة ومهنيّة، وصولًا إلى آخرها عن عشر سنوات وزيرًا للمعارف(التّربية والتّعليم)، ثمّ ملحق بالصّور.
أهدى الوزير كتابه لمن يشارك في العمل والأمل، ويسمو برسالة التّربية والتّعليم، وإلى الأجيال المتعاقبة، وبيّن أنّ هذا الكتاب يسرد خبر سبعين عامًا منها أربعون سنة في حقل التّعليم والتّربية، ونعم المهمّة والهم، فالتّعليم مفتاح الارتقاء والحضارة، وهو استثمار وليس خدمة، وأساس للتّنميّة. وسعى المؤلّف لإبراء ذمته، وتسطير شهادة للتّاريخ عن أكبر تجاربه ومواقفه وخبراته، مسهبًا الحديث عن فلسفته في مجاله، آملًا أن يكون كتابه مصدرًا للتّوثيق، ومنجاة من بلاء الجحود والنّكران.
ولد الكاتب في غرّة شهر ذي القعدة عام (1363) تقريبًا في المجمعة، ودرس وعمل في متجر والده أو في مجلسه فصبغته بواكير المسؤوليّة بسيما الرّجال متجاوزة مرح الطّفولة وعبث الشّباب، ثمّ حمل مسؤوليّة الأسرة كاملة بعد وفاة والده عام (1382)، وكان والده يهيئه لهذا الموقف إذ فرق العمر بينهما نصف قرن.
وعاش شظف الحياة كأقرانه حتى أنّه لم يعرف البرتقال والتّفاح إلّا في عام (1374) على هامش زيارة الملك سعود لبلدته، وأما الموز فمعدود ضمن معلومات السنوات الجامعيّة أسوة بالآيسكريم والسّيارات والشّوارع المسفلتة وأشياء كثيرة شاهدها في الرّياض عام (1380) فبهرته.
بعد التخرج في كلّية الّلغة العربيّة عمل سنة في المعاهد العلميّة مع أشياخ كبار، ثمّ أصبح معيدًا في كلّية الّلغة العربيّة بمكة، ومنها ابتعث إلى أمريكا ودرس الماجستير والدّكتوراه في جامعتين، وأشرف عليه أساتذة مشاهير أضحوا أصدقاء له فيما بعد، وحين عاد إلى المملكة تبادل مع د.عبدالله نصيف الوظيفة، وكان الانتقال سلسًا، إذ أصبح الرّشيد في جامعة الرّياض -الملك سعود-، ونصيف في جامعة الملك عبدالعزيز بجدّة.
ومن أخبار بعثته أنّه قضى ستّ سنوات لم يسمع صوت أحد من أهله، واضطّر للعمل فرّاشًا في الجامعة لتحصيل دخل إضافي، وعاشت زوجه الفاضلة سلوى بنت عبدالله العبدالمحسن التّويجري معه في غرفة واحدة، وأكملت دراستها وتعلّمت الإنجليزيّة، وولد في أمريكا نجله الأوّل أحمد، وبنته أريج فيما بعد، ولم تعلم أسرته في الرّياض إلّا بعد أيّام لصعوبة التّواصل آنذاك.
وبمرارة حكى هزيمة عام (1967م) وما هو أنكى من الهزيمة استهزاء الأمريكان بهم؛ لأنّ الإعلام العربي أظهر زعماءه منتصرين واليهود في تراجع، بينما كانت الحقيقة خلاف ذلك تمامًا، ويعرضها الإعلام الأمريكي مستمتعًا بهزيمتنا، ومتفنّنًا بالسّخرية من تعامل بعض الحكومات العربيّة مع شعوبها، وواجب المبتعثين أن يكونوا من أسباب رفع الوعي، وإحداث انتقال نوعي في الفكر المجتمعي.
كما تحفظ السّيرة موقفين لرجلي دولة من الكبار، أحدهما معالي الشّيخ حسن آل الشّيخ -وزير المعارف ثمّ التّعليم العالي- الذي لاحظ نشاط الرّشيد وتفاعله في أحد المؤتمرات، واستشعاره الواجب أكثر من حقوقه، فكتب له رسالة رقيقة أشاد به، واستذكر أيّامًا كانت الحكومة تبحث عن كفاءة سعودية لليسير من المهمّات ولا تجدها، وهذا النّبل من الوزير الكبير الذي لم يستطع مقاومة التّعبير عن مشاعره نادر فما أكثر ما نكتم مشاعرنا عجزًا عن البوح أو استكثارًا للثّناء على من يستأهل.
أمّا الأخرى فرسالة من معالي الشّيخ عبدالعزيز التّويجري -نائب رئيس الحرس الوطني- وهو صديق والد الرّشيد، وعم زوجته، وتوقيتها قبيل تسمية المؤلف وزيرًا للمعارف، قال فيها إنّه متفائل للرّشيد ومشفق عليه، ثمّ سرد جملة نصائح ثمينة على رأسها الحثّ على التّواضع، واجتناب الانفعال، والتّأكيد على أنّ الخدمة العامّة هي الغاية.
وأمره بقوله: لا تتعجّل ولا تتوسّع في علاقاتك، وعليك بالوقار والاتّزان فهما ضرورة لأنّ أيّ كلمة محسوبة عليك، وأنبأه من خبرة سبعة عقود أنّ الحسّاد سيضعون العثرات في طريقه إذ الطّبيعة البشريّة واحدة، ومع ذلك فما في الدّنيا أشجع من برئ، وأفشى شيخ اليمامة للكاتب أنّه لم يسترح يومًا واحدًا من الحسد، وعاد ليوصيه بتقليل الكلام، وكثرة الاستماع، وتحاشي مالا يناسب ولو ببتره إن لم ينفع إلّا البتر!
في السيّرة مواقف منها أنّ والده حين سمع خبر وفاة الملك عبدالعزيز هرع إلى بندقيته خشية من اضطراب الأمر وعودة سنوات الخوف، وفي طفولته كان الشّاي مشروب المترفين، وعلاج رمد العين بقطرات من حليب المرضع، ونقل لنا كيفيّة ختن الأطفال، وذكريات سمنته التي انتصر عليها المشي اليومي حتى قال أمريكي هذا ظلّ محمّد الرّشيد!
أمّا في أمريكا فرأى التّلفاز والهاتف ووجوه النّساء والحليب البني، واضطّر للاستحمام إذا نام الجميع حتى يستتر عن عيونهم في مجتمع يعاني من قلّة الحياء، وشارك في المنظمّات الطّلابيّة العربيّة والإسلاميّة متجاوزين كثرة الخلافات البينيّة ومجتمعين حول نصرة فلسطين، وبعد تكوين مجتمع طلابي دولي يحاكي منظمّة الأمم المتحدة، ألقى أمينها العام كلمة فيهم وقال: ليت انتظام الأمم المتحدة الحقيقية مثلكم.
من طرائف الكتاب واقعة الجامعة الأمريكيّة ذات الكوخ الصّغير التي تمنح الشّهادات العليا في أيّ تخصّص حسب الطّلب وبأقلّ من ثلاثة الآف دولار، وجامعة العين التي كافأت أيّ طالب يقتل عقربًا في مبناها الفخم شريطة إحضار القتيلة، وأجرى هو ود.حمود البدر مقابلات شخصيّة لمرشحي الإعادة في كلّية التّربيّة، فسأل البدر شابًا من جنوب غرب المملكة هل تعرف الزّلفي- بلدة البدر-؟ فقال من فوره: قرية تابعة للمجمعة! فكان الجواب غير مناسب للبدر، ومبهجًا للرّشيد.
ومنها قصّة الشّافع الثّري لابن شقيقة زوجته الأثيرة، والطّبيب الشّهير الذي حادث الوزير ربع ساعة في موضوع مبهم ثمّ استبان أنّ الطّبيب كان يريد وزارة الصّحة ووزيرها معالي أ.د. شبكشي، ومن ألطفها خبر مسنّ يناهز المئة، أحدب الظّهر، حلو المنطق، تستأجره القرى للحديث أمام الوزراء الزّائرين عن مطالبهم؛ استثمارًا لتوقير شيبته، والعطف على صحته، واستعذاب منطقه.
أمّا أعجبها فتجشّم رجل عناء السّفر ليعترض على متر واحد من الأرض أخذته مدرسة لمبناها بالخطأ وقيمته عشر ريالات فقط، وحكواتي أخبر الوزير عن جولاته العمليّة في أرجاء المملكة ثمّ طلب نقل ابنه للرّياض فأجابه الوزير: ليكن ابنك مثلك، وهو جواب مفحم جعل الرّجل الحكّاء يقول: ليتني ما علّمتك عن قصصي!
بينما تشمل قائمة أعماله قبل الوزارة دراسات عميقة لم يستفد منها أحد كما قال آسفًا، ومشاركته في وفد من علماء ومفكرين لوقف الحرب بين العراق وإيران، ونَصَبه من أجل إنشاء جامعة الخليج في البحرين، وسعيه لإنقاذها بدعم مالي من الملك فهد الذي اشترط لتأييد فكرتها ألّا يكون في ممارساتها ما يخرج عن أعراف مواطني دول الخليج وقيمهم، ونشاطه العلمي في الموسوعات العالميّة وفي الموسوعة العربيّة العالميّة التي رعاها الأمير سلطان وهي درّة ثقافيّة ومعرفيّة.
أيضًا تحفل مسيرته بأعمال تربويّة وتعليميّة محليّة وإقليميّة ودوليّة، مع عضويّة قصيرة في مجلس الشّورى انتقل بعدها إلى مجلس الوزراء؛ ليكون أوّل عضو يصبح وزيرًا مع زميليه د.الجهني و د.الجارالله، وله جهد في ترشيح القصيبي لليونسكو، مع حرص كبير على إصدار الأحاديث الصّحيحة الواردة في كتب السّنن الأربعة؛ علمًا أنّه لم يذكر شيئًا مما بذله في هذا الموضوع وإنّما قرأته في موضع آخر نسيته الآن، وهو شريك في تحوّل الجامعة إلى نظام السّاعات، ويقف خلف عودة مجلة المعرفة، وقفزات تطويريّة في وزارته الثّقيلة.
وخرج من خبرته العمليّة بنتائج لذي المنصب منها ضرورة مصارحة الملك والأمراء وبقيّة المسؤولين وألّا يكتمهم ما يعتقده طلبًا لرضاهم أو موافقة لما يقولون، وتمنى لو أنّ الوزارات في خططها ومطالبها تكاملت ولم تتنافس، ويؤكد أنّ المحادثة المباشرة خير من المراسلات الكثيرة، ومن خلال زيارته لبلدان إسلاميّة اكتشف المكانة الكبيرة لبلادنا التي شرّفها الله بخدمة الحرمين، وجزم بأنّ أكثرنا لا يدري عن هذه المكانة ولا يؤدي حقّها كما يجب!
من أفكاره الأساسيّة أنّ وراء كلّ أمّة عظيمة تربية عظيمة، وحاجة فكرنا العام إلى إصلاح، مع أهمية المحافظة على قيمنا حتى لا تذبل، ويعلي من شأن العلاقات الإنسانيّة والإحسان للخلق، ويرى بأنّ الصّداقة أمتع ما في الحياة التي لا يسلم فيها أحد من ألسنة النّاس، ومن قواعده أنّ النّجاح مرتهن بوضع المناسب في المكان المناسب، وكرّر معارضته لاختلاط الجنسين في التّعليم والعمل.
وله علاقة وثيقة بالعلماء لكثرتهم في بلدته المجمعة، وفي مجال دراسته وعمله، ثمّ استوثقت صلته بالشّيخ عبدالعزيز بن باز وكانت آخر رسالة أملاها الشّيخ قبل رحيله موجهّة للرّشيد، وأما عشقه للقراءة والكتابة فأمر ظاهر بسمو حرفه ونصاعة فكره، ولأسرته مع المشي نصيب من وقته وحياته؛ فضلًا عن أعمال مجتمعية ومشاركة في مجالس استشاريّة خليجيّة.
كما أنّ للموت فجأة حضور في المسيرة، ففي معمل اللّغة بأمريكا، لاحظ أنّ رأس زميله السّعودي المجاور مال على جسده إذ أسلم الرّوح وهو في أوج القوّة، وافتقد وزير التّربية والتّعليم البحريني من أحد المؤتمرات الخارجيّة، وعندما دخل مع مدير الفندق إلى غرفته رآه قد قضى نحبه على كرسيّه ومعه بعض طعام، ومن عجب أن يودّع الرّشيد زوّاره في مجلسه الأسبوعي مغرب السّبت العشرين من شهر محرّم عام(1435)؛ ثمّ يأتيه الموت فجأة وهو في بيته عقب العشاء بعد سنوات قليلة من رحيل والدته-وكان بها برّاً- نورة بنت أحمد العثمان الرّكبان، والله يرحمهم وأموات المسلمين.
والحقيقة أن الوزارات المعنيّة بالتّعليم في بلادنا حظيت بإسنادها إلى أسماء كبيرة من مسؤولين أصحاب قلم، وثقافة، وفكر، وتأليف، وخبرة عميقة في الإدارة والسّياسة، ونأمل أن تستقر سفينة التّعليم لدينا بما يجعل المخرجات قوّية في علمها وإيمانها وثقتها واعتزازها ووعيها، ومن كانت هذه صفته فثماره كريمة كبيرة باقية.
الرياض- الجمعة 19 من شهرِ رمضان المبارك عام 1440
24 من شهر مايو عام 2019م
3 Comments