سياسة واقتصاد عرض كتاب

الثورة ليست ربيعاً!

الثورة ليست ربيعاً!

السنن الكونية لا تحابي أحداً، فالبشر يشتركون في الغرائز والطبائع وإن تباعدت أجناسهم وديارهم، وما جرى على الآخرين قد يجري على غيرهم، وما حل بأرض لا يمتنع من الانتقال إلى موضع آخر؛ وهكذا في مشاهد قد تختلف في السياق والوجوه واللغات؛ ولكنها تتشابه في المآلات والطرائق.

وتاريخ الثورات والانتفاضات الشعبية مليء بالعبر تماماً كامتلائه بالدماء والأشلاء والدمار، فطبيعة الحراك تستلزم هذا حتى وإن كانت المبادئ الدينية، والطبيعة البشرية تأباه وتأنف منه؛ بيد أنه قدر لا مناص منه في أي ثورة عادلة كانت أم ظالمة -والله يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من الشرور كافة-.

ولابد أن تحمل الثورات قضية عادلة كمقاومة احتلال، أو التخلص من طغيان أو فساد، أو لملمة شتات أمة فرقتها المحن والفتن؛ فتكون الثورة رفضاً عملياً لواقع سيء؛ بغية تحقيق مستقبل أحسن، والانتقال من حال إلى أخرى أفضل منها، وهذه القضية عامل للنجاح يحتاج للتضافر مع غيره، ولا يستقل بنفسه أبداً؛ فكم من ثورة سامية سحقت هي وجماجم من قاموا بها.

وإذا وسعنا دائرة النظر فسوف يشمل مفهوم الثورات عدة أساليب، ومنها:

  1. الثورة الشعبية السلمية العامة، مثل ثورة الأزهر التي جاءت بمحمد علي.
  2. الانتفاضة الشعبية المسلحة قصيرة المدى كالثورة الفرنسية، والثورة البلشفية.
  3. الثورة الشعبية المسلحة طويلة المدى مثل الثورة الكوبية.
  4. حركة مقاومة الاحتلال كما في فييتنام.
  5. الحرب الأهلية الطويلة كالثورة الصينية التي بدأت بمقاومة الأجنبي.
  6. ثورات انبثقت من البرلمان كثورة كرومويل في إنكلترا.
  7. ثورات جاءت بها صناديق الانتخاب مثل ثورة شافيز في فنزويلا.
  8. ثورة منبثقة من رأس الهرم ومن أبرز أمثلتها الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله.

وقد تفشل الثورة ومع ذلك تكتسب الصفة الثورية، مثل ثورة خرداد التي قادها الخميني في إيران عام 1963م ولم يحالفها النجاح خلافاً لثورته في فبراير عام 1979م التي أقصت الشاه وحكمه. علماً أن الثورات الفاشلة أكثر عدداً من الناجحة عبر التاريخ.

وتنتهي الثورات المنتصرة إلى مآلات مشتركة، وسمات عامة من أبرزها:

  1. عبور مدة انتقالية صعبة وحرجة تكاد أن تكون غارقة في الفوضى، والحروب الأهلية، وربما الثورة المضادة. وغالباً يكون الأمن والمستوى المعيشي أقل من مستواهما قبل الثورة.
  2. تواجه أغلب الثورات عللاً ومنغصات من داخلها وخارجها، ويجب ألا تقود هذه المحن والنتائج المؤقتة للحكم السريع على الثورة.
  3. قد تضطر قيادة المرحلة الانتقالية إلى إجراءات تغضب الجماهير وهي ضرورية للتغلب على نتائج ما بعد الثورة.
  4. الثورة شكل من أشكال الحرب ينجم عنه صراع يتولد عنه كوارث ومحن؛ ولذا فمن الخطأ تسمية الثورات ربيعاً، وإنما الربيع ما يفترض مجيئه بعد الاستقرار والهدوء.
  5. تتنوع الأشكال والأطر القيادية للثورات، فبعضها مرتبط بزعيم، وبعضها مكون من مجلس قيادي، وبعضها مقتصر على فئة كالعسكر أو الفلاحين أو العبيد.

ومع وجود مشتركات بين هذه الظاهرة الإنسانية الاجتماعية، إلا أنه ما من ثورة إلا ولها خصوصيتها وفرادتها، والواجب معاملة كل حالة ثورية وحدها من حيث الدراسة والتحليل، فما يكون صواباً وفق معطيات وفي بيئة ما، قد يحكم عليه بالخطأ في بيئة أخرى.

ومنذ عام 1432 (2010-2011م) تفاجأ الوعي العربي بثورات متتابعة في عدة بلدان عربية متجاورة أو متباعدة، وكان من الخير تجنيب الوعي عن إصدار أحكام متعجلة خاطئة خلال المدة الانتقالية التي تكثر فيها الخلافات والانقسامات بأوجهها المختلفة، مع بروز طاغ للعصبيات المتكئة على حزب أو جهة أو طائفة أو قبيلة، والله يشمل البلاد كلها بالسلم والأمن والعدل، ويعيذنا من الثورات وشرورها.

وهذه السمة البارزة في أي مرحلة انتقالية قد تؤدي إلى التشاؤم والانقلاب ضد هذه الثورات من قبل البعض؛ حتى يصل بهم الأمر إلى تفضيل أيام الطغيان بأمنها النسبي على ما أحدثته الثورات في عمرها الانتقالي ومراحلها الانتخابية.

وهذا التصارع بين مكونات الداخل عقب الثورة أمر طبيعي، فقد كانت مكبلة ومكبوتة، وحين توجهت الثورة الشعبية نحو النجاح، حطمت هذه المكونات أغلالها، وأطلقت العنان لما كان مكبوتاً من مصالح وتطلعات، وغدا الصراع-السلمي أو العنيف- سبيلها لحيازة النصيب الأكبر من ملامح المرحلة الجديدة، ولذا كان من سمات المرحلة الانتقالية أنها تعج بألوان من الانقسامات والصراعات.

ومن الضرورة بمكان ألا يرتبط تقويم الثورة بمعيار المرحلة الانتقالية التي تشهد غالباً انتقال بعض مؤيدي الثورة إلى مواقع التشاؤم أو الندم على تأييدها، مع أن بعض الثورات حققت انتقالاً ثورياً هائلاً تمثل في التخلص من رأس النظام، ودخول المرحلة الانتقالية بسرعة، وأزاحت هذه التغييرات صخرات صلبة كانت تجثم على صدور الشعوب العربية.

وتزامنت هذه الثورات مع ضعف الهيمنة الأمريكية والغربية على موازين القوى العالمية خاصة بعد الانهيارات الاقتصادية، وبروز تكتلات دولية أخرى، ونتج عن هذا الضعف بالتبع تدهور وضع إسرائيل التي يعد أمنها واستقرارها ركيزة أساسية في السياسة الخارجية لأمريكا وكثير من دول أوروبا، وهذه المتغيرات توجب على قادة الثورات بناء خط سياسي وفكري صحيح لمواجهة المشكلات والتعامل معها.

وبمراجعة ست ثورات عالمية في اليونان والفلبين والملايو وقبرص، وفييتنام وكمبوديا، يتبين أن مرجعية الثورة وسمو أصولها ليست كل شيء، بل تتداخل عدة عوامل مهمة فتقرر بمحصلتها مصير الثورة، ومن هذه العوامل:

  1. صحة تقدير الموقف العام ويشمل وضع الداخل والجوار والوضع العالمي.
  2. اتباع خط عسكري وسياسي صحيح ومراع لموازين القوى.
  3. ألا يختلط تشخيص الوضع بالموقف من أطرافه.
  4. سرعة التعامل مع المتغيرات التي ستقع حتماً.
  5. في الصراع الداخلي يكون اللجوء إلى السلاح للانتصار وليس للدفاع عن النفس.
  6. مقاومة المحتل تمنح قادة المقاومة منعة وقوة أكثر مما يحوزه قادة التغيير الداخلي.

ومن خلال مراجعة التجارب الثورية الستة المشار إليها آنفاً؛ نخلص إلى هذه الدروس والعبر:

  1. خرافة كبرى أن يقال عن قوة بأنها لا تقهر، أو أن الكفاح المسلح عقيم.
  2. أهمية تحصين الخلايا السرية كي لا تنكشف ويقضى عليها.
  3. حتمية المواءمة بين العمل السري والنشاطات الجماهيرية والعلنية.
  4. يعد النضال العلني من الشعب نقطة قوة.
  5. الجماهير تتجاوب مع من وما يلبي مطامحها ويحقق طلباتها.
  6. النظرة الضيقة والذاتية تسبب فشل الثورات.
  7. بناء وحدة شعبية عريضة، والاعتماد على الذات يسهمان في صمود الثورة.
  8. تقديم أي تنازلات على مبادئ الثورة ينهيها، والتفريط بحقوق الشعب الأساسية جريمة كبرى.
  9. قد يكون من الحكمة الابتعاد عن المساومة والصلح في مرحلة ما.
  10. من المهم التنسيق بين العمل السياسي والعمل العسكري.
  11. حساب موازين القوى الدقيق في كل مرة، والتقويم الصحيح للوضع، يعين قادة الثورة على اتخاذ القرار الصحيح ومعرفة متى يحاربون؟ ومتى يفاوضون؟ وبذلك تنتصر الثورة في الميدان وعلى مائدة المفاوضات.
  12. من الأهمية المحافظة على المبدأ مع المرونة في التكتيكات.
  13. من الضرورة تجنب الصدام مع بعض الأطراف وتحييدها قدر المستطاع.
  14. سيحقق الثوار نجاحاً كبيراً إذا عمقوا التناقضات بين الأطراف التي يثورون عليها.
  15. عامل الحسم في كل ثورة هو الداخل وليس الخارج.
  16. تحرك الثورة باستقلالية ودون وصاية خارجية يمنحها شرعية وقوة.
  17. أي حل عن طريق التقسيم ينتج عنه خيبة أمل مريرة، فلا مناص من وحدة البلد.
  18. إذا كان ميزان القوى لا يسمح للثورة بفرض مصالحها فلا فائدة من المفاوضات.
  19. يستطيع الشعب الصغير أن يهزم الدولة الكبرى إذا أحسن التصور والتصرف.
  20. حرب الشعب طويلة المدى تنهك القوى المحتلة الكبرى وتهزمها.
  21. من المهم عزل العدو الأساسي المباشر بالتحالف مع كل القوى التي يمكن التحالف معها.
  22. التمسك بالنصر والاعتماد على النفس شرط حاسم لانتصار الشعب.
  23. القضية العادلة ستنتصر ولو بعد حين.
  24. كسب الرأي العام العالمي مطلب لكل ثورة، وتحقيقه سهل مع التطورات التقنية المذهلة.
  25. حتى لا يمنى الثوار بضربات موجعة فلا مناص لهم من الحيطة واليقظة الثورية.
  26. اختراق قوى الثورة من قبل المحتل أو الطاغية يوهن الثورة ويشتتها.
  27. إذا اضطر الثوار لحضور اجتماع فعليهم أخذ زمام المبادرة بإعلان مقترحاتهم، وتحديد موقفهم المسبق، والمشاركة بلجنة قوية.
  28. تحين اللحظة الثورية الحاسمة واهتبال فرصتها سبب كبير للنصر.
  29. من البدهي ألا تتخذ قيادة الثورة قرارات ارتجالية.
  30. يجب أن تبتعد الثورة عن معارضة المشاعر العامة.
  31. الانتقال إلى الحرب المتحركة يعد لحظة حاسمة في تاريخ الثورة لا يصار إليها إلا بعد التأكد من ضعف موقف الخصم واستعداده.
  32. من الكياسة أن يتحدث قادة الثورة إلى الشعب متحسسين نبض الجماهير، ومستخدمين اللغة التي يفهمها من خلال همومه وآماله؛ ولكن بمحتوى ثوري.
  33. وقوع الأخطاء في بداية كل ثورة مسألة لا مفر منها.
  34. توسيع النشاط بين الجماهير، وتوضيح حقيقة الأعداء، وتحضير الشعب لاحتمالات المستقبل، أمور تعين على نجاح الثورة.
  35. على قيادات الثورة أن تحسن قراءة التاريخ وتحليله.
  36. يجب ألا يجتمع قادة الثورة في مكان واحد، وألا تحفظ وثائقها في موضع واحد.
  37. تهيئة الطليعة الثورية سياسياً وأمنياً وعسكرياً ركن مهم في أي عمل ثوري.
  38. لا ينبغي إهمال سبل النضال السلمي حتى مع قيام الكفاح المسلح.
  39. من الحكمة ألا ينعزل أي قطاع شعبي عن الثورة كي لا يكون منفذاً للعدو.
  40. الاغتيالات والأعمال الفردية تفقد الثوار تأييد الشعب.

وماورد أعلاه خلاصة كتاب عنوانه: تجارب ست ثورات عالمية مع مقدمة حول الثورات عموماً، تأليف منير شفيق، صدرت طبعته الأولى عن دار بيسان للنشر والتوزيع عام (2014م)، ويقع في (263) صفحة من القطع المتوسط، ويتكون الكتاب من ست دراسات لتجارب ثورات مختلفة، نشرت أربع منها عام 1971م، ونشرت اثنتان عام 1976 م، والمؤلف مفكر ومحلل سياسي فلسطيني، ولد  في القدس عام (1934م)، واعتنق الإسلام أواخر السبعينات بعد أن كان يسارياً.

والغرض من استعراض مثل هذا الكتاب ليس تأييد جميع ما فيه أو الموافقة عليه، وإنما التأكيد على أهمية القراءة التحليلية للتاريخ، فحين تفاجأ المواطن العربي بثورة إخوانه في بلدان مهمة، وقف حائراً تجاه هذه الهزات وارتداداتها الطبيعية، ولو أن الوعي العربي الذي يحفظ تواريخ الثورة الفرنسية والأمريكية والبلشفية وغيرها، تجاوز الحفظ إلى الفهم والتفكيك والاستخلاص، لما ارتفع لديه مستوى الصدمة من الثورات العربية، ومما كان خلالها، أو حدث بعدها، ولتوقع المستقبل أو شطراً منه، وربما أن بعض هذا الوعي كان سيحول دون الدمار وسفك الدماء وأعمال التخريب، وسوف يخفف من سطوة الأوهام، ويزيل الغشاوة، ويقلل من الابتهاج بما كان؛ حتى لا يقع الناس والمجتمعات في متاهة مظلمة خانقة، ونأمل أن يسطر الأحرار في فلسطين، وغيرها من ديار المسلمين المبتلاة باحتلال غاشم، أو باضطراب عام، أكمل التجارب وأنجعها في التاريخ المعاصر والإنساني عموماً.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 24 من شهرِ ذي الحجة عام 1437

26 من شهر سبتمبر عام 2016م 

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)