معاهدات تحت حكم الشّريعة!
للشّريعة الإسلاميّة عناية فائقة بالعهود والمواثيق، أيّاً كان أطرافها وطبيعتها، وسواء ارتبطت بأفراد أم بدول ومنظّمات، وجاءت في ذلك آيات كثيرة، ورويت عنها أحاديث شريفة بمعاني مخصوصة، أو بإطلاقات عامّة، تؤكد على وجوب حفظ العهد، والالتزام بالميثاق، وحرمة الغدر، وتؤسّس لفقه إسلامي في العلاقات الدّوليّة.
ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى في مستهلّ سورة المائدة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 34]، وأثنى الله عزّ وجلّ على من يحافظ على الأمانة والعهد بقوله سبحانه: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ [المؤمنون:8]، وكرّر النّبي عليه الصّلاة والسّلام في سنّته القوليّة هذه المعاني القرآنيّة الثّابتة، ومن أشدّها قوله المروي في صحيح البخاري: “لكلّ غادر لواء يوم القيامة”، كما جعل الغدر بالعهد من صفات المنافقين.
وامتثل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم لأوامر إلهه في جميع أحواله التّعاقدية إبّان معاهداته وتحالفاته، وكتب وثيقة المدينة مع من فيها من مشركين ويهود، ثمّ وقع صلح الحديبيّة، وتحالف مع بعض مشركي العرب، وتصالح مع يهود خيبر، واتّفق مع نصارى دومة الجندل، وأيلة، وكانت تصرفاته على اختلافها مرهونة بالنّص الشّرعي، ومرتبطة بمصالح المسلمين، ومحافظة على حقّهم في تبليغ دينهم.
وإنّ من توقير الشّريعة، ونشدان البصيرة في أحكامها، أن ينظر من يرجو الله والدّار الآخرة في السّياسة الشّرعيّة، وفقهها ومسائلها، ففيها السّبيل المشروع، والمخرج الآمن، لمن رام أن تكون أفعاله السّياسيّة منطلقة من أساس متين، ومرتكزة إلى ركن ركين، وتراعي مع ذلك المصالح المعتبرة، وتتفاعل مع الأحداث بواقعيّة شرعيّة، وليس بمثاليّة منقطعة عن مجريات الأمور، أو بانهزاميّة واستسلام مقيت، وكم في الشّريعة من حكم تنكبّها النّاكصون عن هديها وأنوارها.
وما أجدر زعماء المسلمين وقادتهم، والسّاكنين في مطابخ السّياسة بتجديد الصّلة مع المصادر السّامية، في القرآن الكريم، والسّنّة المطهرّة، ثمّ من السّيرة العطرة، وتطبيقات الخلافة الرّاشدة، لما لها من تأثير إيجابي واضح؛ بعيداً عن منتجات أزمنة التّأويل والتبّديل، وفقه الضّعف والضّرورة فقط، التي أخرج بعضها النّصوص عن منطوقها، ومفهومها، ومآلاتها، إلى تقريرات ومحترزات لم تكن صائبة، أو مقبولة دومًا.
وما أصدق قول ابن القيم في بدائع الفوائد: “من له ذوق في الشّريعة، واطّلاع على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها، وأنّ الخلق لا صلاح لهم بدونها البتّة: علِم أنَّ السّياسة العادلة، جزءٌ من أجزائها، وفرع من فروعها، وأنّ من أحاط علمًا بمقاصدها، ووضعها مواضعها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتّة”.
ومن الأصول الشّرعية المتينة في المعاهدات، أنّ أحكام الإسلام تقيّد أيّ اتّفاقية من أساسها بضابط واضح، وهو أن تكون لأجل علاقة مشروعة في موضوعها، وهذا القيد يعني بوضوح بطـلان أيّ تعاقد على علاقـة ممنوعـة ليس لها مستند شرعي صحيح؛ وأنّ العلاقة الممنوعة تنافي شرعيّة التّعاقد والتّعاهد من البداية بغضّ النّظر عن التّفاصيل.
ومن الأصول المحكمة، الامتناع عن توقيع اتفاقيّة تحول دون تبليغ دعوة التّوحيد، لأنّ ذلك يناقض دين الإسلام، وهذا الحظر مستمر في جميع الأحوال والأطوار، والملاحظ أنّه مع اشتمال مواثيق النّبي عليه السّلام على شروط كثيرة، إلّا أنّها خلت كليّة من أيّ شرط يمسّ الدّعوة، أو يعثرها، فضلًا عن أن يحظرها.
ويجب في نظرية العقود حسب الفقه الإسلامي: أن تخلو هذه العقود من الشّروط الباطلة؛ فلا تتضمن محظوراً شرعًا، وإن وجد فهو شرط باطل غير ملزم، ومن أمثلته إقصاء الشّريعة، أو إجبار المسلمين على مخالفة أمر الله الصّريح الثّابت، أو إلزامهم بفعل منهي عنه، أو خذلان المسلمين من الضّعفة والأسارى، أو إفساد مناهج التّعليم، ومنابر التّوجيه الثّقافي والفكري، أو إتاحة تسويق المحرّمات وترويجها، أو تيسير سبل الفاحشة والمنكر، أو هدم الأسرة، وتخريب فئات المجتمع.
وتلزم الشريعةُ الإسلامية الدولةَ المسلمة ألّا ترتبط في أيّ معاهدة، أو ميثاق، أو إعلان، إلّا بما يتوافق مع نصوص الشّريعة وقواعدها العامّة ويتطامن لها؛ مع وجوب التّحفظ الواضح على شروط المعاهدات المتعارضة مع أحكام الإسلام، وإعلان هذا الموقف الرّافض للمخالفات الشّرعيّة عند توقيع المعاهدة، سواء كانت المخالفة صريحة أو بالدّلالة؛ وإذا لم تقبل الأطراف الأخرى هذا التّحفظ، فإمَّا أن تؤذن بإبطال المعاهدة من أصلها، أو تظلّ سارية مع بقاء رفض الدّول المسلمة لأيّ مخالفة ضمنها، ويكون الموقف معلنًا وواضحًا.
ومن الضّرورة ألّا تتضمن المعاهدة الجديدة أيّ تناقض مع التزامات الدّولة المسلمة تجاه دولة أو دول ارتبطت معها بمعاهدة شرعيّة سابقة؛ لأنَّ المعاهدة الأولى المتقدّمة، يجب الوفاء بها، وإنجازها دون إخلال أو قصور أو نكث، وأيّ عهد يناقضها ممنوع من البداية، ولا يجوز إلّا عند وجود مسوّغ شرعي، ويكون النّقض بوسائل مشروعة، وما أكمل شريعة ربّ الأرض والسّماء.
ويعدّ مضمون المعاهدات، وشروطها، واحترازاتها، من المسائل المتغيّرة لتعلّقها بأحوال، وأزمنة، وأماكن، وضرورات، وغيرها من أمور تتولى الدّولة المسلمة تقديرها ثمّ تدبيرها بناء على مقتضيات المصلحة الشّرعية المعتبرة، التي تستهدف جلب المصالح وتعظيمها، ودفع المفاسد أو تصغيرها، وتحفل المكتبة العربيّة والإسلاميّة بدراسات متينة مفردة حول هذا الموضوع الحيوي.
وتتعامل الشّريعة الإسلاميّة بواقعيّة مع التّعاطي السّياسي، وتمنح لأتباعها قدرًا من المرونة في التّفاعل مع الآخرين على أرض الواقع، حتى لو كان الآخرون من أعاديها أو خصومها، وذلك من خلال نصوص تراعي الأحوال، وقواعد كليّة، ورخص للمواقف الطارئة، وحركة متاحة بناء على الموقع والموضع وما يكتنفه من قوّة وضعف، وقدرة تفاوضيّة، وتجلّى ذلك في اتّفاقيّة صلح الحديبيّة التي أبرمها النّبي صلّى الله عليه وسلم مع كفّار قريش.
ومن سعة الشّريعة، وحكمتها، أنّها أوكلت أمر إبرام هذه المعاهدات، والتّوقيع على الاتّفاقيات والمواثيق، لما يراه الحاكم المسلم الملتزم بأحكام الفقه الإسلامي، والمتبع للوازم فقه السّياسة الشّرعيّة، حتى لو لم تكن الدّولة في حال ضعف حين عقدها، ولو لم يكن بها ضـرورة أو حـاجـة ملّحة لها، بيد أنّها تؤدي لمصلحة شرعيّة عامّة راجحة.
وتقرّرت في صلح الحديبيّة مبادئ التّفاوض، والمصالحة، والهدنة، والتّحالف، عبر المواثيق والاتّفاقيات، وهي نتيجة طبيعيّة للحوار والّلقاءات المشتركة، التي حلّت مكان السّلاح والمواجهة الحربيّة، وفي هذا الحدث الضّخم تقرير لهذه المبادئ مع أيّ خصم أو عدو، سواء ابتدأ الطّلب من جانبه، أو بادر المسلمون به، شريطة حفظ الدّين، وتحصيل خير الخيرين، ودفع شرّ الشّرين، واحتمال يسير المفسدة رجاء الخلاص من كبير المفاسد.
وتعتمد مشروعيّة الصّلح بين الدّولة المسلمة وغيرها، ومشروعيّة التّهادن، والسّلم، على مقدار تحقيق المصلحـة الشّرعيـة في إمضاء هذه العقود، وما تعود به من فائدة على المسلمين، ومن نافلة القول أنّ أيّ اتّفاقيّة جانبت هذا السّبيل، وركنت لحسابات فرديّة أو فئويّة لا تنفع المسلمين وبلادهم، فهي باطلة عند الله ثمّ عند صالح المؤمنين.
ويجوز عقد الصّلح لأحد هذه الأسباب:
- ضعف المسلمين، وهو حال ضرورة يجب العمل على إزالته دون تراخ.
- وجود مصلحة راجحة للمسلمين ماديّة أو معنويّة، كنشر الدّعوة، أو تنشيط الاقتصاد.
- المحافظة على حسن الجوار.
- حماية المستضعفين من المسلمين، وتأمين نشر الدّين.
وفي القرآن الكريم آيات آمرة بالسّلام حسب المفهوم الشّرعي، من مثل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة:208]، وقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [لأنفال:61]، فليست الحرب مقصودة لذاتها، والتّعاون على الخير، وإشاعة الأمن، مقصد شرعي ثابت.
ولا تعني شرعيّة التّحالف التّنازل عن عقيدة الولاء والبراء، كما لا يمكن أن يكون في أيّ صلح تضييع لديار المسلمين، أو استهانة بمقدّساتهم، أو إباحة لدمائهم، وهذه من الأمور المستقرة التي ينبغي بيانها حتى لا يُصرف المعنى الشّرعي إلى معاني دنيويّة يختلط فيها الخور مع الجهل والشّهوة، وياله من مركب سوء وبلاء وتحريف.
والسّياق يقتضي التّأكيد على حرمة معاملة الغادر الخائن بالمثل، فجميع نصوص الوفاء بالعهد تشمل المؤمن والكافر، ويا له من دين قيمٍ حنيف يكمل مكارم الأخلاق، فالاتّفاقيّة ليست مجرّد ورقة يمكن أن تمزق في أيّ لحظة كما عند غير أهل الإسلام حسب تاريخهم وتصريحاتهم، بل هي ميثاق واجب الرّعاية والإتمام، ولم يستثن الفقهاء المسلمون من مبدأ الوفاء بالعهد إلّا عقود الهدنة الحربيّة مع العدو عند توافر القرائن القطعيّة على نواياه المريبة، واستعداده لشّن حرب جديدة، أو في حال المعاملة بالمثل بسبب نقض العدو للمعاهدة من جانب واحد، والفرق أنّه يجب علينا إعلامه، وذلك لقول الله تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال 58]، وقوله تعالى: ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة:7].
ومع أنّ حسن الجوار مطلب، والتّعاون مع الآخرين لتحقيق مصالح العالم من الحكمة والألفة، إلّا أنّه يجب على بلاد المسلمين التّيقظ لتصرفات الحكومات الكافرة والمنظّمات الدّوليّة، والحذر من أيّ قيد أو شرط يعرقل تبليغ دين الله، أو يصدّ عنه، أو يتيح التّمرد عليه وإشاعة الفتنة والفساد والفوضى، ولا يكون ذلك إلّا بالتّمسك بحبل الله المتين، مع السّعي الحثيث لامتلاك القوّة، ومعرفة مكامن التّأثير لدى أمّتنا وما أكثرها سواء في الإنسان أو المكان، كي نكون أمّة مصانة موقرّة، وفي حال خرق أيّ اتفاقية نستطيع الدّفاع عنها وعن ضروراتنا.
ولا مناص من الإشارة إلى أنّ هذه المعاهدات والمواثيق توجب على الدّولة المسلمة السّعي الحثيث الصّادق لامتلاك القوّة بأنواعها، كي تحمي نفسها وما أبرمته، وتحول دون الجرأة على نقضها من قبل الكفار، الذين أخبرنا الله أنّهم لا يراعون فينا إلّاً ولا عهدًا، ويسرعون إلى الاعتداء متى ما سنحت لهم الفرصة، فلا يردعهم إلّا القوّة التي ترهب أعداء الله وتخيفهم.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الاثنين 07 من شهرِ الله المحرّم عام 1440
17 من شهر سبتمبر عام 2018م