سير وأعلام عرض كتاب

هل في النّاس مثل إياس؟

هل في النّاس مثل إياس؟

القضاء عرض الأمّة، وواجهة البلد، وعنوان أيّ حضارة، وربّما يصبر المجتمع على أخطاء كثيرة إذا ضمن أن المآل إلى قضاء نزيه، عادل، ناجز، مستقل، فما أعظم بركات هذا القضاء السّامق، حين يقضي بحضوره القوّي النّقي على المشكلات، ويقيم عمود الحقّ، ويكسر عنفوان الباطل، ويكون موئلًا للنّاس، ومأرزاً لحفظ مقاصد الإسلام، وحماية حقوق الخلق، وهذه مسؤوليّة مشتركة بين جميع أطراف الرّواق العدلي.

وفي تاريخ أمتنا، برز القضاء وتشامخ أمره، وكيف لا يكون شأنه كذلك وهو مرتبط بوحي السّماء، ويستمدّ قواعده من شريعة خاتم الأنبياء، ثمّ أصبحت تطبيقاته وإجراءاته مقتبسة من اجتهادات المحدَّث الملهم القاضي، والوزير، والخليفة الراشد، أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضوان الله عليه ورأيه وتوجيهه؟!

ومن المشهورين بالقضاء إياس بن معاوية، ومع كثرة ما روي عنه فلربّما يعجب القارئ حين يعلم أنّه ما ولي القضاء إلّا سنة واحدة فقط، بعد أن رفض القضاء زمنًا ثمّ أجبر عليه، فمنع الأمراء من العبث بالأحكام، ووقف حاجزًا صلبًا أمام عدوانهم. ولم يترك القاضي مخالطة مجتمعه أو يهجر مجالسهم، وقضى فيهم بعلم وحكمة وفهم وفراسة عجيبة، هذه الفراسة التي جعلت الباحث محمّد بن علي بن سنان يدرسها في رسالة دكتوراه بعنوان: القاضي إياس بن معاوية والقضاء بالفراسة.

وحين أغضب أمير البصرة برفض الانصياع لرغباته، أقاله من القضاء ولم يجد بديلًا يرضي به عمر بن عبدالعزيز سوى الحسن البصري. وخلال ممارسته القصيرة للقضاء، اختصّ إياس كما يقول ابن القيم بالفهم في الواقع، والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال. وكان خبيرًا بمن تقبل شهادته، وبمن ترد، حتى لو كان من أصفياء الحاكم، فإياس القاضي ذكي زكي، حكيم لا يخدع وإن تخادع، ويجيد الكيد الحلال، والمكر المباح.

كما كان إياس بارّا بوالديه، ويرى أنّ في بر الأبناء أجر عظيم؛ فصنيع الوالد مع ولده جبلّي، وعمل الابن لأبيه فيه انتصار على النّفس، ومن إحسانه قول أبيه عنه: إياس نعم الابن: كفاني أمر دنياي، وفرّغني لآخرتي، وقد علّمت إياسًا تسع سنين ثمّ لم يزل يعلمني بعد، وإنّ النّاس يلدون أبناء وولدت أبًا! وهو بار بأمّه كذلك، ولا يخرج قبل أن يسترضيها، ونقل عنه أنّه كفّر ألف يمين عنها.

وإياس رجل دولة وصاحب رأي، ومن وجهة نظره أنّ أخطاء السّلطان وأثرته تحتمل إذا حفظ الأمن، وأقام العدل في الحكم، وحمى الثّغور، ويجزم بأنّ كلّ ما بني على غير أساس فهو هباء، ويعيب على المشتغلين بإيذاء المسلمين ونهش أعراضهم قائلًا: يسلم منك الدّيلم، والسّند، والهند، والرّوم، وليس يسلم منك أخوك المسلم!

وحين شاوره عدي بن أرطأة فيمن يولّي من القرّاء، والقرّاء تعبير عن أهل الصّلاح والتّدين، أجابه إياس: القرّاء ضربان، ضرب يعمل للآخرة فلن يعمل لك، وضرب يعمل للدّنيا فما ظنّك بهم إذا ولّيتهم ومكنّتهم منها؟! فسأله الأمير: فما أصنع؟ فقال: عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم؛ فولّهم، وهو يقصد القوي الأمين منهم، فليس المعيار شرف بيوتهم فقط وإن جلب الحياء من فعل بغيض، وقول نشاز، ورأي ساقط.

ومن خلاصاته مقولته: امتحنت خصال الرّجال، فوجدت أشرفها صدق الّلسان، ومن عدمها فقد فجع بأكرم أخلاقه، ويرى أن يكون في فعال الرّجل فضل عن قوله، أجمل من أن يكون في قوله فضل عن فعاله، ويوصي بالتّثبت قبل المؤاخاة؛ فإنّ التّحوّل عن الإخاء شديد، ويمحض سامعه النّصح بمؤاخاة أهل المحاسن، والابتعاد عن أهل المقابح.

لذلك حظي إياس القاضي بالتعّظيم من مختلف فئات مجتمعه،مع أنه لم يكن جميل الصّورة، ويلبس الزّي الخشن؛ وفلسفته أنّه يلبس ثوبًا يقي به نفسه، ولا يلبس ثوبًا يقيه بنفسه، وليس له دابّة يركبها؛ ويعلّل ذلك بقوله: ما أصنع بمال يأكل المال؟ وإذا جلس مجلسًا غلب عليه، وما إن يفرغ من حديث حتى يأخذ في غيره؛ بيد أنّه لا يلفظ إلّا جميلًا من القول والحكم.

ومن تأمّلاته أنّه ما بُعد عهد قوم عن نبيهم إلّا كان أحسن لقولهم وأسوأ لفعلهم، ويرى بأنّ الثّناء على الإنسان من عاجل الجزاء، وأنّ النّفقة داعية الرّزق؛ فمن أنفق فُتح عليه بالمزيد، وينصح بالمتاجرة مع أهل السّعة واليسار؛ لأنّهم يؤخرون ويحتملون، ويوصي بأكل الحلوى؛ حيث يغلب على ظنّه أنّها تزيد في العقل، ومن عرف عقل صاحبنا أيقن بقوّة مصداقيّة هذا الاحتمال.

وينقل عن شيخ كبير نهيه عن العتاب؛ فالمعاتبة تبعث على التّجني، والتّجني يبعث على المخاصمة، والمخاصمة تبعث على العداوة، ولا خير في شيء ثمرته العداوة، وحين أعجب إياس بعقل هذا الشّيخ وخبرته سأله عن أحمد ما خرج به من معرفة الدّهر، فأجابه بأن يُبقي المرء أحدوثة حسنة بعده.

كانت هذه إطلالة خاطفة على كتاب عنوانه: ذكاء إياس: ذكاء خارق.. وفراسة عجيبة! تأليف الباحث والكاتب السّوري الأستاذ الشّيخ محمّد خير رمضان يوسف، الذي أصدرت دار ابن حزم الطّبعة الأولى منه عام 1421-2000م، ويقع في (139) صفحة من القطع المتوسط، ويتكوّن من مقدّمة وخمسة فصول، وفهرسان للمراجع والموضوعات، ومع صغر حجمه فهو عظيم النّفع، وهي خصيصة ظاهرة في مؤلفات الأديب محمّد خير.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الاثنين 20 من شهرِ صفر عام 1440

29 من شهر أكتوبر عام 2018م 

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)