سير وأعلام

غالية البقمي: غالية من هذه الأرض!

غالية البقمي: غالية من هذه الأرض!

في تاريخنا روايات، وشخصيّات، وأحداث، جديرة بنفخ الرّوح فيها، وإبرازها، ووضعها في مكانها بعيدًا عن التّفسيرات الملتوية التي تفسد جمال الحكاية، وتنقص من كمالاتها، وكم يجر التّحيز الأعمى من ظلم وبغي وجناية على العلم، والوعي، والحقيقة.

وفي مقابل التّجني بالتّحيز، يأتي التّجني بالإهمال أو ترك المجال للأباعد، بينما أهل الدّار والعارفين بثقافة المكان أولى بالكتابة والبحث، وهم بحمد الله كثر مباركون، وإنّما يتوقون إلى منحهم الثّقة، والعون المعنوي والمادي، ورفدهم بحسن الظّن، والتّعاطي مع أبحاثهم بعلميّة وميزان مستقيم.

ولمدينة تربة التي تعد صلة بين الحجاز الشّريف ونجد الشّامخة تاريخ فاخر، ولها حضور كبير عبر معارك فاصلة أو مهمّة، وتقطنها قبيلة البقوم العربيّة الكريمة المشهورة بفرسانها، وتعاونها الوثيق مع الدّعوة الإصلاحيّة، والدّولة السّعوديّة خاصّة الأولى والثّالثة، ولرجالها الأماجد مواقف مشهودة، ولعقائلها العفيفات حضور سامي، فمن نسائها والدة عقاب نجد الشّيخ محمد بن هندي بن حميد، ومنهنّ الأميرة غالية البقميّة التي تناقل الرّواة من عرب وعجم سيرتها، وأصبحت موضع إعجابهم ومقارناتهم.

وتعود حكاية هذه الأميرة التي نشأت على مكارم أخلاق النّساء ومكارم أخلاق الرّجال، إلى اليوم الذي وجدت نفسها في مقام زوجها الأمير حمد بن عبدالله بن محمّد بن محي المعين من الدّولة السّعوديّة الأولى على تربة البقوم، حيث أدركته الوفاة والجيوش العثمانيّة القادمة من مصر بقيادة طوسون بن محمّد علي باشا وغيره من القادة تقاتل حول تربة في الأعوام بين 1228-1230 حتى إذا فشلت وعادت خائبة؛ اضطّر الباشا إلى المجيء بنفسه من القاهرة للحرب.

وفي أثناء هذه المعارك، شاركت الأميرة غالية ببراعة في التّخطيط لمواجهة الجيش الغازي، وفتحت مخازن الطّعام والسّلاح لرجالات القبيلة، وكانت مائدتها عامرة للأضياف، ومجلسها مفتوحًا لذوي الرّأي، مع إسهامها بالرّأي، والشّد من أزر المقاتلين، ونقل توجيهات زوجها لهم إبّان مرضه، وخوض المعركة دفاعًا عن الدّين والعرض والدّيار، حتى أذهلت الجنود الغزاة؛ فاعتبروها ساحرة أو صاحبة قوى خارقة، وذات أمر مطاع بين جنودها.

وحازت الأميرة الفارسة الثّرية غالية ابنة الشّيخ عبدالرّحمن بن سلطان البدري البقمي على اهتمام مؤرخين عرب وأجانب، وصنّفت عنها كتب ومقالات، وأدرجت في معاجم ورحلات وتواريخ، وممن ألّف أو كتب عنها مع حفظ الألقاب والمقامات: دلال الحربي، وسعد العفنان، وفهد السّماري، ومحمّد القشعمي، وحنان السّيف، وعمر كحالة، والزّركلي، والعجلاني، وبوركهارت، وابن خميس، والجبرتي، والموسوعة العربيّة، فضلًا عن مقاطع مرئيّة عبر وسائل التّواصل الاجتماعي، والله يجعل ذلك من عاجل بشراها، ولسان صدق لها في الآخرين.

وحين غزا الباشا ديارها وانتصر بما معه من عدد وعتاد لا يجارى في معركة بسل، حاول استدراجها وأعطاها الوعود كي يظفر بها، ويتقرب بإرسالها إلى الباب العالي تذكارًا للنّصر، بيد أنّها كانت مع الذّكاء حكيمة، فلم تصدّق وعدًا يصدر من سفّاح أثيم ذي سوابق بالغدر مشهورة، فملأت قلب الباشا حسرة برفضها، حتى قال حين عبر من أراضيها: أمست ديار غالية خالية، وهي ليست كلمة ابتهاج بالنّصر بقدر ماهي خيبة أمل مريرة في العثور عليها، ولم يتفق الإخباريون بعد ذلك على مآلها رحمها الله وأعلى منازلها.

إنّ غالية كما يقول الشّاعر المبدع فهد عافت في قصيدة باذخة عن معدن غالية: فعلها ماله مثيل، وزينها زين بقميّة، وهذا هو معدن المرأة العربيّة المسلمة، ابنة الجزيرة العربيّة بقبائلها، وديارها، وأسرها، وساكنيها، وهذه هي المرأة التي تحمي مجتمعها سواء في حال السّلم، أو زمن الحرب-أبعدها الله-.

وليس صحيحًا أنّ المرأة غارقة في توافه الأمور، فهي جزء من مجتمعها، وقطعة من نسيجه، وصورة عنه، فإذا كان رجالها من الفوارس أصحاب الشّيم والمروءة والمكارم؛ فلن تكون الأبيّة الحرّة إلّا كذلك، تمامًا مثل غالية، فهي بدوية باسلة، ظهرت من ذات البيئة التي تعلي من الفضيلة، والحميّة، والأنفة، وكانت متمردة على الضّيم مستمسكة بالقيم، فالغالية دومًا عالية!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

الخميس 02 من شهرِ صفر عام 1440

11 من شهر أكتوبر عام 2018م 

Please follow and like us:

5 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)