إطلالة على تاريخ القاضي!
أعظم خدمة نقدّمها لتاريخنا أن نتولى كتابته، وشرح غوامضه، وحلّ مشتبهاته، وتحليل أحداثه؛ كي لا يحمل هذا العبء أقوام نيتهم حسنة؛ لكن تعوزهم المعرفة الكاملة بثقافتنا ولغتنا وديننا، وحتى نمنع أصحاب الأغراض السّيئة من العبث بتاريخنا.
وليت أنّ أقسام التّاريخ في الجامعات، والمراكز التّاريخيّة كالدّارة وما يتبعها، ومؤسّسة الملك فيصل، ومركز السّديري، والبابطين، والجمعيّة التّاريخيّة، تنهض لحماية الإرث التّاريخي، وتنشره كما هو، مع بيان ما يحتاج إلى توضيح، فالتّاريخ مثل تعاود الّليل والنّهار؛ لا يمكن أن يمحى أو يزول أو يغفل النّاس عنه، وإن اختلفت أحوالهم فيهما.
وبين يدي جهد كريم من هذا القبيل، انصرف العمل فيه لتحقيق كتاب تاريخ القاضي، تأليف إبراهيم بن محمّد بن عبدالله القاضي (1284-1346)، والمحقّقان عالما تاريخ، وباحثان وأستاذان جامعيان من أصحاب التّآليف المعروفة، وهما د.فائز بن موسى البدراني الحربي و د.مريم بنت خلف بن شديّد العتيبي.
يقع الكتاب في (367) صفحة، وصدرت طبعته الأولى عام 1437=2016م، عن مركز عبدالرّحمن السّديري الثّقافي، ويتكون من مقدّمة، وقسمين أوّلهما للتّعريف بالمؤرخ ومخطوطته، والثّاني يحوي النّص بعد تحقيقه المتقن، ثمّ أربعة ملاحق عن شرح الألفاظ المحليّة، وكشّاف أعلام، وكشّاف مواضع، ثمّ قائمة بالمصادر والمراجع.
ويبدأ الكتاب من عام 1290 تقريبًا إلى قبيل وفاة المؤلف، ومن الطّبيعي أن يتوسع المؤلف في رواية أخبار بلدته عنيزة وباقي مناطق القصيم، وأن يكون لحروب القصمان مع ابن رشيد حضور لافت، ومع ذلك أورد المؤلف أخبارًا عالميّة وإقليميّة، وهذا ممّا يميز كتابه.
كتب المؤلف نصّه بلهجة عاميّة يصعب فهمها على غير القارئ النّجدي، وكنت أتمنى لو أعيد كتابة المضمون بلغة فصيحة سهلة، مع إبقاء نص المؤلف، وبالتّالي سوف يستغنى الكتاب عن كثير من هوامشه وأحد ملحقاته، وهي عمليّة أشبه بالتّرجمة، وتتيح قراءة الكتاب في بيئات أبعد من النّطاق المحلي الضّيق.
كما حذف المحقّقان بعض العبارات والكلمات اليسيرة التي لا تؤثر في مضمون المخطوطة، ومع تفهمي لأغراضهما النّبيلة، إلّا أنّ إبقاءها والتّعليق عليها أولى فيما أحسب؛ فهذه المحذوفات مثبتة في نسخ أخرى، وتخفيف حدّتها بالشّرح أفضل من حذفها، فضلًا عن المحافظة على محتوى المخطوطة كما تركه المؤلف.
وتتميز هوامش المحققين بقربها المكاني من النّص، وفي ترقيم هوامش أربع صفحات تتابع غير معهود في غيرها؛ إذ لكلّ صفحة أرقامها المنفصلة عمّا قبلها وبعدها. والكتاب ماتع جدّاً، ويستعرض فترة حرجة من تاريخ الدّولة السّعوديّة الثّانية وبقيّة الجزيرة العربيّة، وقد أضاف المحققان تعليقات نفيسة في مواضعها، وكلّ الصّيد في جوف الفرا.
من عبر الكتاب الواردة فيه عظم رزيّة استصغار المقابل، فابن رشيد لم يأبه باسترداد الرّياض من قبل عبدالعزيز؛ وتوّهم أنّه قادر على استرجاعها متى شاء! وفي أحد حروبه مع القصيم سأله جنده عن فترة الحرب المتوقعة، فأجاب: يوم واحد لبريدة وعنيزة، وساعة واحدة لأيّ بلدة أخرى، ومع ذلك ظلّ يحاصر الخبراء أحد عشر يومًا دون أن يظفر بها، حتى قال له سائله: أين السّاعة التي تقول؟! وخلال معركة تربة الشّهيرة، ظنّ الشّريف بأنّه سيحسمها عاجلًا، وينساح في نجد حتى يصلّي العيد في الأحساء، وكانت النّهاية فراره بجلده إلى أبيه في مكة عام 1337، وهي واقعة لم ينسها عبدالله بن الحسين أبدًا.
ومن دروس الكتاب أنّ عاقبة الخلاف والتّنازع تؤول إلى شر في الغالب، فاحتراب أبناء الإمام فيصل بن تركي جعلهم في أضعف الأحوال أمام مناوئيهم، واختلاف الشّريف مع قريبه خالد بن لؤي، وإيذائه، جعل الأخير يتحوّل إلى معسكر السّلطان عبدالعزيز، ويكون على رأس جيوشه التي دخلت الحجاز، ودهمت بعض بلداته بعنف تكدّر منه السّلطان، وعوّض الأهالي عمّا قاسوا من شدائد لم يسلم منها بيت طائفي.
ومن فوائد الكتاب، كثرة الدّسائس بين الزّعماء على هيئة نصائح أو إغراء، ومن ذلك أنّ ابن سبهان أو غيره أوحوا للشّريف بأنّ أهل القصيم معه ضدّ ابن سعود، فسار الرّجل بجحافله، ولما بلغ القصيم استبان له أنّ القوم على عهدهم مع عبدالعزيز، وألّا رغبة لهم به؛ بل إنّهم على استعداد لقتاله، والأعجب رفضهم استضافته أو بيع الطّعام له، فاضطر للعودة بعد أن اكتشف خديعة “حليفه” الذي ربّما أراد الخلاص منه أو من أهل القصيم، أو منهما معًا!
ويحفظ لنا تاريخ القاضي أخبار لقاءات الملك عبدالعزيز مع ممثلي حكومة الإنجليز، ومفاوضات عسكر التّرك مع أهل القصيم، وما جرى لعوائل عنيزة خاصّة البسّام، والسّليم الزّامل، وآل المهنا من بريدة، والهزازنة من الحريق، وبعض أخبار العقيلات، ومواقف شيوخ القبائل المشهورة، وسير رجال دولة كبار، ومعارك القصيم وابن رشيد. كما يرد في النّص، أخبار عن القائد التّركي المفترى عليه فخري باشا، وأنباء الخلاف داخل أسرة آل رشيد، والعلاقة السّعوديّة مع آل صباح ما بين تحالف وتخالف.
ومن الملامح المهمّة المرويّة، أنّ بعض كبار حائل حين استسلموا للملك عبدالعزيز؛ قالو بأنّ ابن سعود لا يقوى أحد على حربه لأنّ الله معه! فاللهم أكرمنا بمعيتك، واعذنا من التّعلق بحبال البشر؛ فإنّها مقطوعة، وإنّ وفاءهم لمرتبط بالمصالح وليس بالقيم في الأعمّ الأغلب.
ومن أخبار القاضي، تسمية الرّوس قديمًا بالمسقوفي، ولعلّه منسوب إلى موسكو، ومجريات سنة الطّبعة الرّهيبة ذات الأمواج العاتية والرّياح الحاصبة، وأحداث سنة الرّحمة، وأنّ تعداد حجّاج عام 1345 بلغ ربع مليون حاج، إلى غير ذلك من تسميات طريفة للسّيارات، والأجهزة الحكوميّة.
وقد لا يختلف أحد على لذاذة التّاريخ، وجمال أحاديثه، لكنّ الشّأن كلّه في أخذ العظة منه والعبر، وتحليل ما كان، وكيف كان، كي لا يأتي يوم تكون حكمة الحكيم فينا أن يقول إنّ هذا التّاريخ يعيد نفسه! فالموّفق من وعى، ثمّ سعى لصناعة ما ينفعه، أو استثمار ما يحدث لصالحه، وأخيرًا فياليت أن يدرس المتصدرون للإعلام تاريخنا وتاريخ منطقتنا، قبل أن يخرجوا للعلن؛ كي لا يكونوا وبالًا براقشيّاً علينا.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض
الاثنين 30 من شهرِ ذي الحجّة الحرام عام 1439
10 من شهر سبتمبر عام 2018م