القديح.. والجمعة الجامعة!
بعد ستة عشر عاماً من مأساة حريق خيمة العرس بالقديح، يصاب “عيال مضر” بفاجعة أخرى، هزت البلاد وما جاورها، حين فجر انتحاري نفسه في مسجد الصحابي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-بالقديح، يوم الجمعة الرابع من شعبان عام 1436، موقعاً العشرات ما بين قتيل وجريح، والله يتولى الجميع بفضله؛ وهو علام الغيوب، ولطيف لما يشاء، وهو العزيز الحكيم.
وكان الألم عاماً، وإن أصيبت به القديح، فقد شرقت به الشرقية كلها، وحزنت له جميع أنحاء المملكة، لأنه مسَّ قوماً لا يستحقون ما جرى لهم، وفي مسجد وأثناء أداء الصلاة، وفوق ذلك سرَّ هذا الجرم الآثم الأعداء والمتربصين، ولم يفد منه إلا دعاة الشقاق، ونادي النفاق، والمنتفعون من انشغال الأضداد، والأعادي خارج الحدود، ومن يواليهم.
وعندما نعلن البراءة الحقيقية من هذا العمل، وممن وراءه، وممن يؤيده، أو يدعو إلى مثله أيّاً كان المستهدف، فنحن نفعل ذلك ديانة، وعن اعتقاد باطن كما الظاهر، دون أن نتخلى عن الموقف من عقيدة المغدورين، ولو جاورنا أناس من غير أهل الملة؛ لرأينا لهم حقاً ورعيناه، فكيف بمن ينطق الشهادتين، ويصلي إلى قبلتنا؟ نسأل الله لنا ولهم الأمن في الدارين.
ولذا تتابع استنكار رموز أهل السنة في المملكة، لأعمال العنف التي ترتكبها الجماعات العنيفة؛ أيّاً كانت مرجعيتها، مع تعرضهم لخطر التصفية الجسدية، فضلاً عن قبيح القول من الغلاة والجفاة. ولم نر من رموز الشيعة استنكاراً مماثلاً لإرهاب الحوثي، وأحزاب الله، وفيالق بدر والقدس، وعصائب أهل الحق، ونصيرية سوريا، وحشد العراق؛ مع أن الشيعة لديهم مخرج أوسع من عرض المحيطات يتمثل بالتقية، فهل سكوتهم عن النكير يشير إلى موافقة ضمنية، ورضا بما تفعله هذه الجماعات الواغلة في دماء المسلمين؟
ومن العجيب توافق مقولات الشيعة وأدعياء الليبرالية، في وصم أهل السنة، والسعودية ومنهجها، بالتكفير والدموية، إن تصريحاً أو تلميحاً، ولست في موقف دفاع أو محاجة، ولكني أقول لمن شاء منهم الإنصاف: ارجعوا إلى كتب علماء الشيعة الأقدمين والمعاصرين، وانظروا إلى حكمهم ليس على مليار مسلم فقط، ولكن على صحابة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقولهم في أزواج النبي وأمهات المؤمنين الطاهرات رضوان الله عليهن! فمادام هؤلاء الخيرة من الناس لم ينجوا من تكفير الشيعة وقذفهم فما بالكم بمن دونهم؟ ثم دعونا من السلفية، وسلوا عجوزاً في كابل، أو شيخاً في جاوة، عن رأيه فيمن يعتقد تحريف القرآن، أو يشتم الشيخين؟
وأعجب منه مقالة مسن شيعي انتشرت عبر وسائل التواصل، وملخصها أن السنة لديهم نص معناه: من قتل شيعياً دخل الجنة! وقد يكون الأمر مختلطاً على هذا المسن الذي قرأ فتوى شبيهة بقوله مع عكس القاتل والمقتول في الأنوار النعمانية! وربما أنه لا يتابع ما يقترفه شركاؤه في المذهب، في بغداد وحمص وصنعاء وبيروت والأحواز!
والتاريخ مع الواقع يثبتان بما يدمغ أي ادعاء، من الذي يسلم ويأمن في حكم الآخر؟ ومن الذي يفنى ويشرد إذا حكم غيره؟ ونظرة عجلى على واقع الشيعة في دول الخليج، وأخرى على وضع أهل السنة في إيران والعراق وسورية تكفي عن كثير من القول، فبراميل باطنية الشام، ورشاشات حشد العراق، ومقذوفات الحوثي، وأسلحة حزب الله، كلها دليل على ما يكنه القوم لأهل السنة، وأما داعش والقاعدة فبلاؤهما عام على الجميع، فضلاً عن تصريح علماء أهل السنة بموقفهم الرافض للغلو، والمنكر على الغلاة.
وبعض أصحابنا ممن يتلطفون في الخطاب مع الشيعة، ويغلظون لأهل السنة، يظنون أنهم في مأمن، وما عرفوا أن القوم لو تمكنوا-لا قدر الله-فسيكون مصير رؤوسهم الارتطام بجهاز حفر-درل-من الصناعة الألمانية المبدعة في خرق الرؤوس! ولن ينفعهم خورهم وخطابهم المائع، وإن كان الأصل الرفق في الخطاب مع الكافة، وليس مع فئة يستمتعون بالهدوء معها؛ في مقابل تعامل خشن صلف مع الأكثرية.
وأما تناول بعض وسائل الإعلام لكارثة القديح، وتعاطيهم معها، فيشعرنا أنهم فرحوا بهذا المصاب الكبير للتشفي من أهل البلد، وتحريك أجنداتهم التي ركدت لمدة أربعة أشهر من الترقب، وإشعال فتيل الفرقة، ولست بمغرب إذا قلت إن ما فاهت به الكاتبة العجوز، من الجرأة على معارضة حكم الله بعدَّة المرأة، والتعليق على تفجير القديح، إنما خرجا من غرفة عمليات وتحكم واحدة!
وكم هو جدير بمن يهمه أمن المجتمع، وسلامة الكيان، أن يلتفت لهذا القطاع، وينقله من أدعياء الليبرالية، إلى الوطنيين الصادقين الذين ليس لهم من همٍّ سوى خدمة البلد، وتوقير دين الناس، وحماية موروثهم الشرعي، وحفظ مصالحهم، وهذا من خير ما يصبو إليه العاقل المحب لبلاده.
وليس أنفع للأقلية الشيعية، من الانضواء في سياق الأكثرية، فما يصلح للغالبية، وينفع أكثر الناس، سيعود على الأقلية بالخير والبركة، فنحن جيران، وعرب وأعراب، وننتسب لدين واحد، ونؤمن برسول واحد، وتسوسنا دولة واحدة، وبيننا تاريخ طويل من التعايش والتعامل، ولو كانت الأكثرية دموية في نظرتها لجيرانها من الأقلية، لما ظلوا في منازلهم مئات السنين دون إبادة أو اعتداء يتكرر، بينما في سنين قليلة أجلت المليشيات أهل بغداد، ولم يفعل المسلمون في جزيرة العرب شيئاً تجاه جيرانهم من الشيعة؛ بل إن أعظم خطر حل بشيعة البحرين، وهجر والقطيف، كان من إخوانهم في التشيع إبَّان دولة القرامطة، حسبما يذكره الكتاب الشيعة.
ومع أننا نجزم بأن المجتمع الشيعي ليس كتلة واحدة موالية لإيران، والميليشيات المجرمة، ففي الشيعة عقلاء، وذووا مصالح تجارية وغيرها، ومسالمون، وهذا يستلزم منهم براءة حقيقية من إيران والميليشيات المتطرفة، وتجافياً عن تسليم مصيرهم وقيادهم لأصحاب المصالح الخاصة، ومن كان يحب آل البيت حقاً فليبحث بتجرد عن معتقدهم رضوان الله عليهم، ويتبعه، وأثق أن عوام الشيعة يحبون آل البيت، ولا يتاجرون بمحبتهم، وما تجلبه من أخماس ومزايا كما يفعل الخاصة.
ويندرج تحت هذا المطلب، الإعراض عن الدعوات المشبوهة لنقل تجارب الحشد المجرم في العراق، أو حزب الله في خلدة، أو أنصار الله في صعدة، والابتعاد عن مظاهر التجييش والمحادة في الأعلام والشعارات والهتافات، أو اتهام الحكومة بالتقصير أو المداراة، والتهديد بأخذ زمام المبادرة؛ فالحكومة بحمد الله قوية، والدولة منيعة، والشعب المحيط كله من أهل السنة، وهم عرب أشاوس أهل بأس وحمية، وطاعة شرعية، ولا يرضون بالدنية.
وإن مصلحة الشيعي الخليجي، وثيقة الصلة بأمن حكومات بلاده، التي تختلف مع إيران حفاظاً على مصالحها؛ وليس لأسباب مذهبية، كما أن إيران وإن كانت إثنا عشرية، إلا أنها عرقية فارسية بامتياز، تحتقر العربي ولو كان شيعياً، وصنيعها بالأحواز فاضح، وما دونه عادل اللباد-وهو أديب شيعي انتمى قديماً لمنظمة الثورة الإسلامية-يجلي هذه الحقيقة.
وأكرر ما أشرت إليه كثيراً من أن المظلومية التي يجيد الشيعة النواح عليها متوهمة في غالبها، فالمناصب الدينية لن يجدي تسمية شيعي فيها؛ لأن العامي الشيعي لن يستمع لها؛ فلديه المراجع والوكلاء هنا وهناك، ولن يلتفت لرأي هيئات علمية جلها من “النواصب”.
وأما المناصب العليا المدنية، أو الأعمال العسكرية، فللحكومة فيها رأي سياسي وليس مبنياً على فتوى، وهو رأي متبع في كثير من الدول إن عرفاً أو نظاماً، فضلاً عن أنه لا يخص الشيعة وحدهم، بل يشترك معهم ألدُّ خصومهم من المتدينين والبادية! وتبقى الخدمات العامة وهي مشكلة تشمل كثيراً من المناطق؛ بل إن قرى الشيعة ومدنهم أحسن من كثير من مناطق الأطراف، ومن دواخل نجد، المنطقة البغيضة عند الشيعة، والمتهمة زوراً بالاستحواذ.
ولو شئنا تذكير الشيعة بالدلال الحكومي لهم، وهو ما لا يجد أهل السنة منه ولو نزراً يسيراً، فسنخبرهم أن أخماسهم تعبر الحدود دون منع أو مساءلة، وأوقافهم بعيدة عن العين، ومناشطهم الدعوية والثقافية لا تحتاج لختم وزارة الدعوة، وعملهم الاجتماعي في نهوض مؤسساتي مستمر، دون تعقيدات حكومية، ولهم محاكم خاصة بأحوالهم الشخصية حسب مذهبهم، وهو ما لا يجده المواطن الشافعي في الأحساء مثلاً.
وفوق هذا لم يتعرض مذهبهم لهجوم وسخرية عبر الصحافة، والبرامج المرئية من حوارات ودراما ومسرحيات؛ خلافاً للأكثرية الشركاء في الوطن، الذين تنتهك وسائل الإعلام دينهم، بل وتنخر أحياناً في المنهج السلفي والدعوة “الوهابية” التي قامت الدولة على أساسها، فأي “بحبوحة” من العيش ينعم بها الشيعة في ظل الدولة السنية السلفية الوهابية؟!
ونتمنى أن تسعى حكومتنا الكريمة إلى فك الاحتقان، ففي وضع الاحتقان ليس أنفع من نسيم العدل، ونفحات الفضل، وتنفيس الكرب، ويمكن للحكومة أن تفرج عن معتقلي الشيعة الذين لم يتورطوا في جريمة، أو يسع العفو عنهم، وإذا قلت هذا للشيعة-وأنا المتهم بالنصب عندهم-فهو لمعتقلي الأكثرية ومشايخهم من باب أولى.
وعسى أن تبدأ البلديات بالتعاون مع جهاز الأمن، في تركيب كاميرات مراقبة في كل مكان، وتكون البداية بمدن الشرقية التي يقطنها بعض الشيعة، ليعلموا أن أمنهم جزء مهم من أمننا، على أن تمتد هذه الكاميرات، لتشمل الطرق المؤدية إلى المزارع، والاستراحات، والمقابر.
ونأمل تكوين غرفة عمل مشتركة؛ لعلاج الانحرافات (سواء كانت غلواً بالتدين السني أو الشيعي أو الصوفي، أو غلواً في الإرجاء، وتهوكاً في الفساد، أو الإلحاد)، وإشغال الشباب بالعمل، وإلزام المشاريع الضخمة بالتوظيف، والتوسع في القبول بالكليات العسكرية، ومساعدة القطاع الخاص على توظيف المواطنين، وكم نصرف من موازنات على معالجات الغلو؛ ولو صرفت في التأهيل، والتزويج، والسكن، والنوادي الاجتماعية؛ لعالجت جذر المشكلة، فالشاب المتأهل العامل، ذو البيت والعيال، قلما يلتفت لخزعبلات المرجفين.
وليت أن موضوع المعتقلين يحال بسرعة إلى لجان عدلية مستقلة؛ للفصل الناجز فيها، وقبل ذلك يطلب إلى متخصصين في علم الاجتماع والنفس والتربية، من ذوي العلم والنزاهة، وقول الحق دون مجاملة أو ارتباط بفكر معين، أن يدرسوا ظواهر مجتمعية، كالانضمام للجماعات العنيفة، والتعصب، ويقدموا حلولاً مقترحة للتعامل معها، والتخفيف من وطأتها؛ لأن القضاء عليها كلية أمر بعيد المنال.
وإن الحكمة، وهي وضع الشيء في موضعه، وليست اللين كما يعتقد البعض، لهي خير ما ندعو الله أن يوفق الجميع إليه، وهي حكمة مطلوبة من الأكثرية السنية بالتعامل الشرعي مع الأقليات المحيطة، وحكمة ضرورية للأقليات كي تعيش آمنة في كنف الأكثرية، والحكمة أساس في الحكومة التي تحكم بعدل وتعمل بحكمة، والله يجعلنا مجتمعاً متماسكاً متآلفاً، متعاوناً على الحق والخير، والفضيلة.
أحمد بن عبد المحسن العسَّاف -الرِّياض
ahmalassaf@
الأربعاء 09 من شهر شعبان عام 1436
27 من مايو 2015 م