رحلة إلى آخر العمر!
سمعت وقرأت عن الطّائرة التي احترقت في مطار الرّياض القديم عام 1400، حيث هبطت ثمّ اشتعلت بها النّيران، ومات كلّ من فيها-رحمهم الله- اختناقًا بالغازات السّامّة، بيد أنّ ما كنت أسمعه وأقرأه ليس إلّا نتفًا متفرقة، وأشتاتًا لا تعطي صورة كاملة أو واضحة عن هذا الحادث الجلل.
وعلى هامش عزاء محافظ الرّس الأستاذ محمّد العبدالله العسّاف -رحمه الله-، عرفت عن صدور كتاب حول هذه الواقعة، عنوانه: الرحلة 163: قصة عودة طائرة السعودية (HK) إلى مطار الرياض القديم ووفاة جميع ركابها، تأليف الكاتب والباحث منصور بن محمّد العسّاف، وصدرت طبعته الثّانية في ديسمبر عام 2017م بعد عشرة شهور من ظهور طبعته الأولى عن دار مدارك للنّشر، ويقع الكتاب في (331) صفحة، وريعه لصالح جمعيّة الأيتام، والمؤلف على وشك إصدار طبعة ثالثة مزيدة؛ وذلك من حرصه ونصحه ودأبه.
يتكوّن هذا العمل الاستقصائي المتقن من إهداء، فشكر وتقدير، ثمّ مقدمة يتبعها تمهيد، ويعقبها ثمانية فصول عناوينها: صالة المغادرة، عودة طارئة، ضحايا الرّحلة، مصير الطّائرة، على جناح الحدث، مالم يقله الصّندوق، قراءة ختامية، الصّورة والحدث، وأخيرًا المراجع.
وقد صرم العسّاف سبعة أعوام من الجهد والمتابعة، وجمع الشّهادات وفحص الوثائق، ومقابلة أصحاب الشّأن، والمقارنة مع حوادث شبيهة، ثمّ دفع بكتابه إلى المطبعة؛ ليطلع القرّاء على حادثة عاصرها أناس هم الآن أشياخ، وربّما يذكرها أو سمع خبرها مكتهلون حاليًا، وأمّا شبابنا ومن دونهم فلم يعلموا عنها من قبل غالبًا، وإنّ هذا الجهد لحقيق بالاحتفاء، مع الشّكر للمؤلف، ولجميع الشّهود خاصّة الإعلامي والتّربوي خالد الحسيني، وأهالي الضّحايا، والمهندس أحمد الرّويلي.
وصف الكاتب المشهد المفزع بداية من اكتشاف الخلل، والتّواصل مع برج المراقبة، ثمّ عودة الطّائرة، وهلع الرّكاب، وانتشار الدّخان، فاتساع رقعة الّلهب، إلى حين الهبوط، وفتح الأبواب بعد مغامرات وصعوبات، وصولًا إلى منظر الجثث، والموت الجماعي على هيئة آخر حركة، واحتضان الأمهات لصغارهنّ، انتهاء بثلاجّات الموتى التي كادت أن تودي بضحيّة جديدة أثناء محاولات التّعرف على الأموات، وهي محاولات أعان عليها ساعات، وأقلام، ومجوهرات، وأسنان ذهبيّة.
ورصد المؤلف الأحداث بعد الفراغ من الموتى سواء من عُرف منهم فأكملت إجراءاتهم، أو الذين كانوا من المجهولين وعددهم (131) متوفى، حيث جهزوا للصّلاة الجماعيّة والدّفن الفردي لاحقًا، في يوم أعاد للحادثة حضورها وألمها، وروى الأستاذ منصور أحزان موسم العزاء، والتّفاعل الرّسمي والشّعبي مع هذا المصاب، الذي عبّرت عنه الحكومة بعزاء وتعويض مالي، وكذلك صنع النّاقل الجوي، وجادت قرائح الشّعراء بالرّثاء والبكاء، ومنهم الشّاعر والوزير عبد الله بلخير، الذي وصف محنة الفقد التي حلّت ببعض أقاربه وبآخرين حتى غدا المأتم عامّاً، فقال:
فنحن جميعًا في المصاب قبيلة ****** إذا ضاق باكيها ببلواه حوقلا
والحقيقة أنّي حين قرأت الكتاب لم أستطع تركه؛ وفرغت منه خلال ساعات، وكنت حينها أعيش المشهد بأنينه وضجيجه وبكائه وارتباكه، وأسأل نفسي عن شعور ركاب الطّائرة، وبماذا كانوا يفكرون خلال هذه الّلحظات العصيبة، وأيّ أمنية كانت الأقرب لنفوسهم، وإنّ مجرّد الخيال لمروّع؛ فكيف بمن ابتلي به، والله يجعل ذلك لهم تكفيرًا وأجرًا.
ثمّ استعرض المؤلف بتتبع بارع، وقلم رشيق، قصص المسافرين، سواء منهم من ساقه القدر إلى رحلة الموت، أو صرفه عنها، ويالها من عبرة؛ فكم من لاهث خلف أمنية الصّعود، مجتهد في بلوغها، دون أن يعلم أنّه إقبال على الآخرة! وكم من ساخط من تغيير رحلته أو فواتها؛ وما علم أنّ الحياة قد كتبت له من جديد! فسبحان مقدّر الأقدار والعالم بها، وبما تخفي وراءها، وما أعجل الإنسان، وأهلعه، وأجهله.
ومن أعاجيب هذه الرّحلة، أنّها ضمّت ركّاب ثلاث رحلات مختلفة، وبعض من كان فيها أخرج منها إلى غيرها، وسيق إليها آخرون لم يكونوا على متنها أصلًا، وبعض من سافروا على رحلات سابقة أو لاحقة، ذهبت أمتعتهم مع الطّائرة المنكوبة التي سلموا منها.
ومن قصص النّاجين، أنّ موظفًا في الخطوط السّعوديّة انسحب من الرّحلة في آخر لحظة، وسافر على طائرة خاصّة، وبقي اسمه مسجّلًا، فهو ميّت حسب الأوراق؛ لكنّه حي يرزق في الواقع؛ ممّا أدهش مسؤولي الشّركة. واستغرق آخران في النّوم؛ ففات عليهم الدّخول من البّوابة، وكانت غفوتهما خيرة لهما، وظلّ أحدهما ثلاثين عامًا بعد هذه الحادثة، وهو صائم عن ركوب الطّائرات لهول ما شاهده.
واستسلم شاب للمروءة، فتنازل عن بطاقات صعوده هو وعائلته الصّغيرة لثلاثة من كبار السّن، وأخذ مكانهم في رحلة متأخرة، فكتبت له السّلامة، بينما مات الأشياخ الثّلاثة، وكاد أربعة من موظفي الخطوط السّعودية أن يكونوا آخر ركاب الرّحلة بسبب تأخر عائلة سودانية مكوّنة من أربعة أشخاص ورضيعين؛ وفي الثّواني الأخيرة أتى بأهل السّودان أجلهم، وسلم الشّبان الأربعة.
ومن المفارقات أنّ شيخًا مسنّاً أغضبه التّأخير فأعطى بطاقة صعوده لراكب آخر، ويالها من غضبة مباركة، إذ أصبح هذا الشّيخ آخر ناج من مصير الطّائرة، علمًا أنّه نفسه كان آخر ناج من العدوان على الحرم في مطلع المحرّم 1400، فسبحان من جعله آخر النّاجين في مستهل العام، وآخر النّاجين في خواتيمه.
من مفارقاتها أيضًا أنّ إعلاميًا أعدّ حلقات عن حوادث الطّائرات؛ فجاء به يومه المحتوم ليكون من ضمن ركاب الطّائرة المحترقة، مع أنّه دخل للمطار دون حجز مسبق، واعتمد على علاقاته. ومن الصّدف أنّ بعض الركاب غادر الدّنيا، وأزواجهم تحمل في أحشائها جنينًا خرج إلى الحياة يتيمًا يحمل نفس اسمه أبيه الرّاحل وذكراه.
أما موافقات الرّحلة فمنها أنّ أبناء عدد ممن كانوا فيها قد التقوا بعد عقود في عمل مشترك، أو زمالة، أو دراسة، وحين تقاربوا أكثر استبان لهم أنّهم أبناء رجال ونساء احترقوا معًا ذات ليلة في طائرة رابضة في مطار قديم، ومن ضمن هؤلاء أنجال قائد الطّائرة وآخرين، وبعضهم درس علم الطّيران وأصبح طيّارًا، وكم في بقيّة السّيف من بركة ونمو!
ووقعت هذه الحادثة في يوم ثلاثاء وهو يوم حوادث سابقة ولاحقة، محليّة ودوليّة، وكانت في تواريخ يظهر فيها كثيرًا الرّقم (8)، والرّقم (19)، ووافق يومها الميلادي أيامًا عالمية خاصة بالتّصوير، والعمل الإنساني، والطّيران، وذكرى ميلاد أحد علماء الطّيران.
وعلى إثر هذه الفاجعة أقامت بعض الأسر عزاء عاجلًا لبنيها، بيد أنّ العزاء انقلب إلى فرح حين عاد هذا المتوفى افتراضيًا؛ لأنّه لم يكن على الرّحلة لسبب أو آخر. ومن آثارها تأخير عدد من مناسبات الزّواج التي كانت ستقام في موسم الأعراس المعتاد، كما اجتمع لدى بعض البيوت مهنئون بزواج ومعزون في ذات الوقت، وألغيت ثلاث مناسبات زواج لأنّ الطّبيب الزّوج كان من الرّاحلين إلى الدّار الاخرة، كما رحلت عروسان كانتا بصحبة أخواتهما وأخيهما.
كذلك من أخبار الرّحلة التي تحمل عبرًا كثيرة، أنّ رجلًا صالحًا من أهل اليمن فقد زوجه وستّاً من بنيه، وحين علم استرجع وإن غمرت نفسه الأحزان، وبعد إصرار ذويه تزوج، وأنجب ستة أولاد وبنات، بنفس ترتيب الرّاحلين، وأسماهم بذات الأسماء، وعاش معهم ثلاثين عامًا.
ومن فواجع الرّحلة أنّ أسرة رزئت ببعض رجالها من عدّة أجيال، وكانت عادة كبيرهم تفريق أبنائه على رحلات متتابعة كفعل يعقوب عليه السّلام مع بنيه، لكنّ ترتيبه وتخطيطه انهار أمام القدر، حين جمعت ثلاث رحلات في طائرة واحدة، وجاء الموت يسعى إلى بيته في لحظة واحدة، والنتيجة خمس أرامل، واثنان وعشرون يتيمًا.
بينما قضى في الطّائرة رجل وزوجتاه وسبعة من أطفاله، وكان قد أرسل ابنه اليافع إلى جدّة برًا، وهو خائف على مصير هذا المراهق من صعوبة طريق الحجاز البري، لكنّ الله قدّر له أن يسلم ويعيش، بينما غادر الحياة جلّ أهله في لحظة واحدة، كما غادرها أربعة شباب كانوا أصدقاء وجيران في حي جرول بمكة شرفها الله، وسافروا للرّياض لذات الغرض؛ وانتهت حياتهم معًا.
وانتصر المؤلف لقائد الطّائرة الماهر، ولمساعده المخلص، بعد بحث مضن، وسؤال المختصين وأهل الخبرة، ووقوف مع التّحقيقات وإجراءات السّلامة، ومراجعة لمحتوى الصّندوق الأسود، وروايات الّلحظات الأخيرة. وأضاف الكاتب بعض المقترحات للسّلامة وإدارة الأزمات، وآمل أن يكون قد أخذ بها وبغيرها، وألمح الكاتب العسّاف وصرّح غير مرّة، بأنّ التّحقيقات والبيانات تحاشت توجيه أيّ اتّهام للشّركة المصنّعة بالقصور؛ مع تكرار حوادث طائراتها، وكم من تحقيق كان إلى التّضليل أقرب، وكم يحجب المال والجاه من حقائق إلى أن يشاء الله بيانها وتجليتها.
ومع ذكرى (301) راكب، هم ضحايا الرّحلة رقم 163، وهم جميع من كان فيها من مسافرين وملّاحين، الذين كتب عليهم الموت بعد عشاء يوم الثّلاثاء التّاسع من شهر شوال عام 1400 حسب رؤية الهلال، الموافق للتّاسع عشر من شهر أغسطس عام 1980م، لنسأل الله لهم الرّحمة، وأن يطرح البركة في ذويهم كي يكونوا من آثارهم الصّالحة، وأعمالهم الباقية.
كما نتمنّى أن تتاح الفرصة للباحثين والدّارسين من أهل البلد، ويمنحوا من الفرصة للاطلاع، والسّؤال، والتّنقيب، كي يخرجوا لنا بما يرونه من مقترحات نافعة للمستقبل، منطلقة من أحداث الماضي، فهم أصدق وأخلص من الأجانب الذين يكرمون أحيانًا بتسهيلات يحلم بجزء منها كثير من الباحثين الجادين.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
السّبت 08 من شهرِ ذي القعدة الحرام عام 1439
21 من شهر يوليو عام 2018م
2 Comments