توفيق وغنى مع أبرار!
ذهبت إلى مكّة أوائل شهر رمضان قبل سنوات مضت، في رحلة جمعت عددًا من الزّملاء الذين أبعدت بينهم مشاغل الدّنيا، وزحمات الرّياض، وقضينا أقلّ من أسبوع في الرّحاب الطّاهرة، ويالها من أيّام سقى الله ذكرياتها، وأفرادها، بفيوض كرمه، وكراماته، وبركاته.
وخلال مكوثنا هناك، كان لنا سفرة إفطار مختصرة، فيها تمر وماء وقهوة، تجمعنا، وتستوعب من أكرمنا بالانضمام إلينا، ويتغيّر المشاركون بين يوم وآخر، باستثناء شخص واحد أسعدنا بالمصاحبة اليوميّة، واستمع إلى أحاديثنا كلّ ليلة، وتحلّق معنا في قراءة تفسير الآيات إذا وفقنا الله لذلك.
وكان صاحبنا صامتًا طوال المدة التي تفضّل بقضائها معنا، وفي آخر يوم لنا، وقبل أن يودّعنا، قال ما مختصره: لقد أحببتكم! ثمّ دعانا لزيارته في بلدته شمال حائل، وكانت مفاجأة لنا؛ فقد ظننّاه من اليمن العزيز؛ لأنه نحيل جدًا، ويربط شماغه على وسطه، فإذا به شمّري شمالي!
استخبرنا من الرّجلَ عن شأنه، فأنبانا بحكايته التي رويتها في مجالسنا كثيرًا، وراقت لمن سمعها، فرغبت أن أدوّنها لعلّها أن تفيد، وتكون أجرًا لي وله، ولمن شاركنا القصّة أو النّشر، فما أجمل الرّوايات التي ترسّخ الخير، والإحسان، والبّر.
يقول صاحبنا: كنت أعمل جنديّاً بقطاع عسكري في العاصمة، ولي إخوة ضبّاط في الرّياض وغيرها. وذات يوم تأمّلت في حال والديّ الباقيين في بلدتنا ولم يرتحلا عنها، وقد ارتفعت سنّهما، وضعفا، ولم يعد أحد من أولادهما معهما -باستثناء الإجازات- سوى بنت ذات زوج وأولاد يستهلكون وقتها وجهدها، على أنّها لم تدّخر وسعها مع والديها قدر استطاعتها، ويضيف قائلًا: فلمت نفسي على هذا التّقصير في حقّهما.
ثمّ يكمل بأنّه عزم على التّقاعد المبكر، وكان راتبه التّقاعدي منخفضًا جدًا، لا يكفي لزوجين فقط، فما بالكم برجل وزوجتين وأولاد وبنات؟ ولم تمنعه هذه العوائق الماديّة من المضي في قراره لخدمة والديه، ولزومهما، وقضاء حوائجهما، فتوكل على الله، وأكمل إجراءاته، وقفل إلى بلدته الوادعة المليئة بالجمال، والكرم، والشّيم، ولم ينتظر أن يفعل ذلك أحد غيره من إخوته الأكبر سنًّا، والأرفع رتبة، والأكثر راتبًا.
وبعد أن استقر مقامه في بلدته، أصلح من شأنه، ونظّم حياته وفق ما ينفع أبويه ويخدمهما. ثمّ لاحظ أنّ أهل البلد يرهقهم طول الطّريق لإيصال بناتهم إلى جامعة حائل، فبدأ بمشروع نقل الطالبات من بعد الفجر، إلى بعيد الظّهر، فارتاح الأهالي، وأمنوا؛ لوجود بناتهم مع ابن بلدتهم الشّهم النّبيل.
ثمّ تطوّر مشروعه، فأصبح قافلة من عدّة سيّارات يقودها ذهابًا وإيابًا، واستثمر هذه الموارد البشريّة والمركبات في تسيير رحلات عمرة وحج من بلدته الرّائعة إلى مكّة شرّفها الله، وتدفقت الأموال إليه؛ حتى أنّ حسابه المصرفي لم يعرف من قبل هذه الأرقام التي باتت تستقر فيه بين آونة وأختها.
وذات صباح، وبينما كان ينتظر عند الجامعة مع زملائه، يشربون القهوة والشاي، ويمضون الوقت في الأحاديث الضّحويّة، إذ أقبل رجل أشيب، وقبض على لحية صاحبنا الرّقيقة، وقال له: اذهب معي لتشفع لي في إدارة التّعليم! فسأل صاحبنا الرجلَ الأشيب: ما شأنك؟ فقال: لي ولد واحد بين بضع بنات، وحين تخرّج عُين معلّمًا في بلدة قصية، وأنا الذي كنت أعدّ الأيام ليكون سندًا لي ولأخواته، فطوّحت به القرارات بعيدًا، وعصفت بآمالي!
يقول صاحبنا، أخبرت الرجل أنّي لا أعرف أحدًا في إدارة التّعليم؛ لكنّي سأذهب معه سعيًا في حاجته، واتفقت معه على ترتيب يقتضي أن أتحدّث، وحين أصل إلى موضع معيّن من الكلام؛ يشرع الرّجل المسن في البكاء؛ لعلّ المسؤول أن يرق له، ويجيب طلبه، وهذه البكائيّة ليست احتيالًا وإنّما تصف الحزن الكامن في قلب الأب الهرم.
وبعد أن عبرا من بوابة الإدارة، صادفا رجلًا يعرفانه، فاستفهم منهما عن سبب مجيئهما، وأفادهما بأنّ مسألتهما عند مدير إدارة بعينها، وليست لدى المدير العام، فتوجها إلى الرّجل المسؤول في مكتبه، ودخلا عليه، وسلّم صاحبنا على هذا المدير، وأخبره عن اسمه وبلدته التي جاء منها!
وحين سمع المدير اسم البلدة، قطع حديث صاحبنا، وسأله ما موقع فلان منكم؟ يقول صاحبنا: أدركتني الحيرة في الجواب؛ لأنّه سؤال مصيري، لكنّي في ثوان معدودة، قدّرت أنّ فلان المسؤول عنه -وأنا أعرفه تمامًا- كريم كثير الفضل، وبالتّالي لن يأتي منه إلّا كلّ خير، ولذا أجبت المدير من فوري بقولي: فلان في مقام عمّي، وهو كبيرنا، ويأمر علينا جميعًا!
فتهلّلت أسارير المدير، وقال: لقد أتتني الفرصة كي أردّ لفلان جمائله، وإنّ حاجتكم لمقضيّة بإذن الله! فنظر صاحبنا إلى الأشيب، وإذا البسمة تملأ محيّاه بدلًا من النّحيب الذي خطّطا له، وسبحان من أمره يكون بعد كاف ونون! وخلال أسبوع نُقل الفتى من مكانه البعيد إلى حائل بجوار والديه وشقيقاته، والحمدلله.
لم تنته الحكاية هنا؛ إذ يردف صاحبنا مخبرًا: وبعد زمن قصير، كنت مع سائقي الحافلات ننتظر في المكان ذاته، إذ أقبل الأشيب، وخاطبني قائلًا: معروفك لن أنساه، ولا أجد جزاءً لك إلّا تزويجك إحدى بناتي بعد موافقتها! فقال له صاحبنا: لعلّك أن تعذرني فعندي زوجتان! لكنّ الرجل الكبير جزاه الله خيرًا أبى، وقال: لابدّ أن أنكحك فاختر إحدى بناتي، وستجد لدينا بإذن الله الخُلق الكريم، والخَلق الجميل، فاختار صاحبنا أكبرهنّ، وكانت حديثة التّخرج في الجامعة، وهذا من حكمته وحسن تقديره.
وما أن عقد عليها حتى انهالت عليه المعونات الماديّة والمعنويّة، من كبراء البلدة الذين هبّوا للوقوف معه، فضلًا عن إخوانه وأقاربه الأدنين كالمعتاد، وتكفل آخرون بتجهيزات عقد القران أو الزواج، وما أعظم التيسير والتسخير الرباني. وختم صاحبنا بالقول: زوجتي الثّالثة حامل الآن، وخلال الطّريق للعمرة كانت تتابعني لحظة بلحظة؛ للتّأكد من وصولي سالمًا مرتاحًا.
ثم عقب شهور من هذه القصة، وخلال شتاء جميل، زرنا هذا الّرجل الموفّق استجابة لدعوته، وغمرنا هو وجماعته بكرمهم وحفاوتهم، وحسن أحاديثهم، وجميل أخبارهم، وقضينا معهم يومًا من أسعد أيام العمر، وليلة من آنس الّليالي، وشاهدنا جماعته ومنهم الرجل المبارك الذي كان سببًا لنجاح الوساطة في إدارة التعليم. وإن هذه الحكاية والزّيارة لمن بركة برّ الوالدين، وطلب ما يرضيهما، وترك الدّنيا لله.
فما أحرانا بإشاعة قصص الفضيلة، والإحسان، ونشرها، ليعلم النّاس حقيقة مجتمعنا الطيّب الأصيل، فهذا من التّعاون على البّر والتّقوى، ومنه برّ الوالدين الذي كان ثاني أمر إلهي بعد التّوحيد، كما أنّ العقوق تلا الإشراك بالله في المناهي، ولأجل هذه العبادة، وخوفًا من تلك المعصية، نشأت أخيرًا جمعيّة برّ الوالدين “أبرار”؛ لتعزيز عبادة البّر، والعون عليها، ولمنع العقوق، أو علاجه إذا وقع لا قدّر الله، مع تهيئة المجتمع والأجيال معرفيّاً ومهاريًّا؛ كي نكون أبرارًا في بلد الأبرار، ولا يضيع العرف بين الله والنّاس.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الأحد 17 من شهر شوال عام 1439
01 من شهر يوليو عام 2018م