مواقف تربويّة من حياة والدي
يؤدي الوالدان أعمال عدّة أجهزة حكوميّة، فعليهم واجبات تربويّة وتعليميّة، ومسؤوليات تموينيّة واقتصاديّة، وضرورات أمنيّة، ولوازم المسكن وخدماته، ومهام صحيّة في جانبيها الوقائي والعلاجي، إضافة إلى التّرفيه واللّهو الحلال، والله يعظم أجرهما، ويعينهما على أداء الأمانة، وإنّهم لمسؤولون عنها في الآخرة، فضلًا عن توابعها الدّنيويّة.
وبعد أن كتبت عن آثار والدي الثّقافيّة على أبنائه، كان من الوفاء إكمال هذه السّلسلة بالحديث عن مواقفه التّربويّة التي أوصل فيها المفاهيم والقيم لنا بطريقة الاقتداء، أو بالبيان لوجود الحاجة المستوجبة له، ولا يحسن تأخيره عنها.
فمن أعظم مواقفه، صلته الوثيقة بربّه سبحانه وتعالى، فهو من أوّل الدّاخلين للمسجد، وقد ينافسه في ذلك مؤذّن أو حارس، بيد أنّه ينفرد في البقاء إلى ما بعد انصراف النّاس بزمن، وينشغل خلال مكوثه بالقرآن، والدّعاء والنّوافل.
وأتذكر أنّه خرج من المسجد بعد انصراف الإمام من التّسليم مباشرة، ذات عصر من أوائل شهر شعبان عام 1400 للهجرة النّبويّة الشّريفة، حتى أنّ جماعة المسجد تبعوه بأبصارهم مندهشين من هذا الخروج السّريع خلافًا للمعتاد، وفي الغد نعى إليهم والده؛ فعرفوا سبب استعجاله.
وقد صحبته في المسجد قريبًا من عام، أدخل معه، وأنتظره، ثمّ أخرج مرافقًا له، لأنّه أصيب بجلطة قلبيّة عام (1404)، وأصرّ الطّبيب على أن يصلي في البيت، أو يكون معه مرافق إن ذهب للمسجد؛ فكنت صاحب الحظّ والحمدلله. وممّا شاهدته كثرة صلاته متنفّلًا، وحين سألته أجابني أنّ بعضها شفع لوتر آخر اللّيل، وبعضها صلاة استخارة حسب السّنّة.
وأخبرتني والدتي حفظها الله أنّ والدي ترك السّهر ليلًا، وهجر لعبة البلوت التي كان يجيدها ويجندل أبطالها، وتوجّه بكلّيته نحو قيام اللّيل، والخلوة بربه، ابتداء من سنة ميلادي، وظلّ مستمرًا على ذلك إلى أن توفاه الله. والشيء بالشيء يذكر إذ سمع أخي سليمان دعواته ليلًا وهو لا يشعر بمن حوله، فإذا به يبتهل لنا، ويدعو لعينه بالشّفاء ولم يكن أحد يعلم عمّا بها من بأس.
وروى لي أخي د.عبدالله أنّه سمع والدي يدعو قبيل فطره برمضان للملك بالتّوفيق، والصّلاح، والعون، فسأله عن حكمة هذا الدّعاء، فأجابه: بصلاح الرّأس، وتوفيقه خير للبلاد والعباد، وأمن ورخاء، ثمّ أضاف بأنّه عاصر طرفًا من حياة الشّظف، وسمع من أهله والقدماء قصص الخوف، والجوع، وضنك العيش، وختم بما يعتقده من أنّ الدّعاء الفرديّ حقٌّ لولي الأمر علينا.
كذلك لسيدي الوالد رحمة الله عليه شغف كبير بالبّر والصّلة، فقد كان مطيعًا لوالده، وبارًا بأمّه، خافضًا لهما جناح الذّل من الرّحمة، مجيبًا لطلباتهما الدّينية والدّنيوية، واقفًا بحكمة بينهما، فيرافق والده للعلاج تاركًا مصالحه، ويذهب بأمه للحج معرضًا عن تجارته.
وحين مضيا إلى الله والدّار الآخرة، تعاهدهما بزيارة قبورهما، والصّدقة عنهما، وبادر لتنفيذ الوصيّة، وقضاء الدّين، مع الدّعاء لهما دون انقطاع حتى لحق بهما، وقد سمعته يومًا يلقّن أخي حمد أدعية لوالديه، والله يجمعهم في مستقر رحمته، ومن يقرأ، ويؤمّن.
كما واظب على صلة شقيقتيه وأقاربه، وهو يجتهد في ذلك دون أن يرجو مقابلًا في حال أو مآل، وإذا أحضر أصناف الأطعمة، ينتقي أطيبها لحمًا، وأنضجها فاكهة وخضارًا، وألذّها من حلوى أو مشروب، ويرسلها لمنزل أخته قبل أن يتذّوق أحد من بنيه شيئًا منها.
ويحرص والدي حين يخرج زكواته وصدقاته أن نشاركه، ليكون لنا أجر، ونتعلم، فيحوز هو أجر كلّ إحسان نفعله مستقبلًا. وكان خيره يذهب للأقارب والجيران أوّلًا، ثمّ للأكثر حاجة، ومن خبره تعاهده لأهل وداد أبويه، إذ اجتهد في البحث عن رجل لقرابته من والده حتى عرف مكانه في المدينة، ونبش الأرض عن قريب من ناحية والدته حتى وجده في بريدة.
ومن صنيع والدي محبّة الدلالة على الخير في أوجهه المتنوعة، والتّحذير من الشّر الذي يعرفه، فكم من زيجة مباركة كان سببًا فيها أو معينًا عليها، وكم من فقير أو عاطل أفاد من رأيه. وهو يطرب كثيرًا لإصلاح ذات البين بجاهه وحكمته، ووقفت على ذلك بنفسي إبّان صحبتي له في المسجد. وكان يقرض المحتاجين حتى وإن كان طالب القرض تاجرًا، وينظر المعسرين، ويقيل من طلب إلغاء صفقة لأمر طرأ له.
ومما سمعته منه مباشرة أنه أشار على رجل سأله عن أخوين خطبا ابنتيه عام 1407 بقوله: لا أرى أن تزوّجهما؛ وعلّل جرحه لهما بندرة صلاتهما، وكثرة سفرهما إلى بلاد ذات بلاء؛ وسمّاها أو وصفها، ولغرارتي تعجّبت كيف عرف! ونصح تاجرًا منافسًا له ألّا يتعاقد مع رجل مماطل؛ فخالفه ثمّ عضّ التاجر أصابع النّدم.
ثمّ إن والدي يحب التّفاؤل، وعلى لسانه يكرّر دومًا: النّاس ينذرون بالحرج، والله يعد بالفرج. ويؤكد على ضرورة ستر أخطاء الآخرين ومعايبهم، خاصّة القريب منهم والصّديق، ويقول: من يفضح رفيقه يكون كمن يكشف عورته علانيّة! وينصحنا دومًا بالحفاظ على النّعمة وإكرامها، ويخوّفنا من زوالها بالإسراف والبطر.
وهو عظيم الثّقة بربه ومولاه، ومن ثقته السّامية هذه استمد ثقته بنفسه، ثمّ ثقته بأهل بيته وعقبه، وكثيرًا ما يستثمر المواقف لإبداء فخره بنا، ووثوقه بفهمنا، وأمانتنا، وجسّد ذلك عمليًا بتسليمنا مفاتيح متجره وخزانته، واطلاعنا على أوراقه، وحساباته، وأوضاعه الماليّة.
ومن لفتاته التّربويّة، معرفة معلمي مدارسنا ومديريها، والتّواصل معهم. وكان يوصي موضع ثقته من الجيران بمتابعتنا في الصّلاة إن غاب عن المسجد. ويعرف أصحابنا وأسرهم، ويشترط علينا ألّا نتأخر عن العودة للمنزل إلّا بمعرفته، والأصل أن تكون العودة باكرة، والنّوم باكرًا. وكان عادلًا معنا خاصّة في الشّؤون الماليّة.
ويعرف الوالد أبناءه وما يميزهم، ومن يحتاج منهم إلى تطوير أو إصلاح، ولذلك كان يقسّم المهام فيما بيننا وفقًا لمعاييره التي يعرفها، وآماله التي ينشدها فينا. ومن تمام معرفته بنا أنّه كان يفرّق بين من تزجره النّظرة، وتكفيه الكلمة، وبين من لا يرتدع إلّا إن رأى السّوط، رحمة الله عليه، وعلى سوطه المربي.
أما في البيع والشراء، والانتقاء والاختيار، والمفاوضات والمساومات، فيفضّل اصطحابنا معه لنستمع، ونشاهد، ونتعلّم، ثم يمنحنا الفرصة لنمارس أدواره بأنفسنا، وهو يوجّه ويصحّح، أو يشجع ويحفّز، وكثيرًا ما أنبأنا عن تجاربه التّجاريّة مع العقيلات أو غيرهم، وفيها عبر ونوادر.
كما حرص على بناء الجوانب الاجتماعيّة لدينا، فأخذنا معه لغشيان المجالس، والمشاركة في الولائم والأعراس، وفوّضنا لتمثيله بعد ذلك في حضور المناسبات، فأثمرت هذه التّربيّة العمليّة بزوال كثير من رهبة الدّخول على المجتمعين، والحضور الإيجابي الخالي من هيبة الارتجال، مع قدرة على امتصاص دهشة المواقف.
ولا يكفّ الوالد عن فتح بابه للضّيوف بغداء أو عشاء، أو ما دونهما، وكان يفعل ذلك حتى وهو مريض في المستشفى، ولا يتنازل عن حقّه في إقامة حفلة العيد، واستضافة الزّوار وإكرامهم، وله في متجره جلسة أنيسة تتجاوز البيع والشراء؛ ولذا نشأنا على أهمية وجود مجلس مفتوح، وباب عامر بالزوار.
وشاهدته وهو يحجز بإلحاح دوره للاحتفاء بالقادمين لزواج أو بعد غيبة، ومن الطّريف أنّه اتّصل هاتفيًا بامرأة كبيرة؛ ليضمن تمكينه من دعوة أضيافهم بعدهم مباشرة، ويسبق غيره في ذلك، فقلنا له: لم لا تهاتف زوجها؟ فقال: هي رجل البيت! وفعلًا فكلمتها أصبحت حاسمة لصالح رغبة والدي. وسمعت هذه المرأة الكبيرة تقول لوالدي: أنت متفوق مضيفًا، ولست كذلك ضيفًا!
وبعد؛ فهذه مقتطفات من الجوانب التّربوية لوالدي غفر الله له، وما أجدر كلّ أب وأم أن يهيئ نفسه لحمل هذا الواجب الثّقيل، خصوصًا مع ازدحام المؤثّرات على الأجيال محاولة تفريغها من ثقافتها، أو تشتيتها، أو نهب قلوب الشّباب من الجنسين، واختطاف عقولهم إلى مكان قصي يمينًا أو شمالًا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرِّياض
الثّلاثاء 20 من شهرِ رمضان المبارك عام 1439
05 من شهر يونيو عام 2018م
6 Comments
قرانا سيرة الوالد العطرة. رحمة الله الواسعة علي روحه وعلى روح والديه . اللهم اسكنه في جنة الفردوس الاعلى . لقد ادى الامانة باخلاص . وكثر الله من امثاله.
آمين، ووالديكم وكل مسلم ومسلمة.
رحم الله والدك واسكنه فسيح جناته . قراتها لااكثر من مرة . تذكرني وتطيب خاطري و نفسي المجروحة مما يحدث ونسمع الان من عقوق للام ونكران الجميل . من الابناء الذكور بعد الزواج. لنا قدوة لنبي الله يعقوب ومعاناته بابنائه . وابتلاء نوح ولوط بزوجاتهم . نصبرالنفس . ونسال الله ان لايضيع تعبنا وياجرنا على تاديبهم وتعليمهم على طاعة الله وتجنبهم معاصي الله . رحم الله والدك . وحفظ لك والدتك وبارك الله لك في اهلك واولادك
آمين آمين