عرض كتاب قراءة وكتابة

لياقة الكاتب سرُّ الخلود!

لياقة الكاتب سرُّ الخلود!

يحتاج أصحاب المهارات والمواهب والقدرات إلى ما يزيد من إبداعهم، ويجعل أداءهم للعمل يسيرًا، يتناغم فيه الوعي مع اللاوعي، ولا يصرف الواحد منهم جهدًا مضنيًا في سبيل تحقيق مراده، وهذه مرتبة لا تُبلغ بيسر، ولا تُنال راحتها الكبرى إلَا على جسر طويل من التّعب، وطريق ممتد من النّصب، وأما التّراخي والكسل فمآلهما إلى خمول، ثمّ ذبول؛ فأفول.

وحرفة الكتابة تحوطها المشقة حتى آخر رمق في نفس الكاتب، فقد ينتج عملًا دونما عناء كبير، بيد أنّ الذي يليه يكون كولادة متعسّرة أليمة، ولذا فالكاتب من أكثر أصحاب المهارات حاجة إلى زيادة لياقته، وجعل نفسه على أهبة الاستعداد؛ لخوض غمار تجربة مقدّسة، يتظافر فيها خياله مع فكره، وتتآزر لغته مع مشاعره، وتلك ساعة عظيمة يولد فيها أدب خالد.

ولا مناص للكاتب من صرامة عالية مع نفسه، وتمارين ذاتية متواصلة، على أن يخلطهما بشيء كبير من الإيمان، والفضول، والجديّة، فالكتابة مهنة قابلة للتّعلم، وتحقيق العبقريّة فيها درجة عالية يبلغها الكاتب بالمران، والمحاولة، والعزيمة، ومقاومة اليأس، والتّكرار.

وتكمن أهمية اللياقة للكاتب، من حاجته التي لا تنقطع لانسياب غزير من الأفكار، والكلمات، والتّعابير، والتّشبيهات؛ فبقاؤه في عالم الكتّاب يستلزم أن تكون منتجاته مؤثرة ويصعب نسيانها، وهذا فن يتطلّب قدرة على إبداع نصوص جميلة المبنى، واضحة المعنى، عميقة التّأثير، ولا يحقّق ذلك إلا من أحسن التّعبير عن مشاعره التي بين جنبيه، وكان صادقًا في إرسال نفسه على سجيّتها، فالعمل العظيم ينبع من قناعات راسخة، والقضايا الكبرى لا يكفي في بيانها التّرميز.

ولطريقة تجاوب الكاتب مع محيطه قيمة حيويّة، فقد تكون سببًا لنضارته حين يبحث عن العلائق بين الأشياء، ويبتكرها أحيانًا، ولا يهمل ما يراه الآخرون تافهًا، ويرى مزايا الأشياء المعتادة؛ كأنّها تخلق للمرة الأولى أمامه، مع محافظته على العفوية، والعاطفة الجيّاشة، والعين البريئة، والأذن الواعية.

ومن واجب الكاتب على نفسه تقديرها، وشحنها، ومعاملتها وعلى أنّها ذات عبقريّة حاليّة أو آتية، ويحسن التّعامل مع حالات الإحباط والفتور، ويدير بنجاح شخصياته المتنوعة، الواعية وغير الواعية، ويقبس من جميع أدواره في الحياة، ما يكون له زادًا في صنعته الرّاقية.

وكما أنّ الكاتب هو أصدق ناقد لنفسه، وأخلص معلم لها، فهو أعرف النّاس بما يحفّزها، ويرتقي بنشاطها عاليًا، وما يصيبها بالرّهق والفتور، وبناء عليه فالمعوّل عليه هو في تحفيز ذاته، وتجنيبها ما يؤثر عليها، بعيدًا عن التّقليعات التي جلبتها مواقع التّواصل الاجتماعي، وربطت الكتابة أو القراءة بمشروبات أو أماكن، أو أمزجة.

ومن المحفزات المهمّة في حياة الكاتب – والمثبّطات أيضًا- من يحيطون به من أقارب، وجيران، وأصدقاء، وزملاء، وجدير بالكاتب أن يلاحظ أثرهم عليه، فيقترب من الملهم منهم، ويبتعد عن المبتلى بالوأد فيهم، وإذا اضطر إلى مشاركة قتلة الإبداع، ومغتالي المواهب، في لقاء أو غيره؛ فعليه أن يحترس، ويجعل بينه وبينهم سدًا منيعًا.

وفي مقابل البشر، يبرز الكتاب وهو خير الأصدقاء، وأنبل الجلساء، وأكمل السّمار، وعلى الكاتب أن يقرأ ما يفيده، ويطربه، وينّشط موهبته، وينفعه في مادته التي يكتبها، وقديمًا قرأت ما معناه بأنّ القراءة الحرّة ترف قلّما يتأتى للكاتب؛ فهو يطارد موضوعاته، وقد يؤخر لأجلها قراءة ما يحب.

وحتى يزيد الكاتب من لياقته، يجب عليه التخلّص من بعض العادات، والعادات القديمة قويّة وغيورة، وسيكون لمواجهتها المباشرة ردّة فعل عنيفة، ومن الحكمة أن ينجح الكاتب في إخراجها من مخيلته، أو تقليل حضورها، ثمّ يستدعي الإرادة المتزنة لإزاحتها بإحلال عادات جديدة مثمرة، ولكن دون إجهاد أعصابه؛ فالتّدرج والهدوء، وطول النّفس تصنع الأعاجيب.

ومما يؤثر سلبًا على رفع لياقة الكاتب أن ينقد عمله أولًا بأول؛ فيعيق دفق الكلمات والأفكار، والنّصيحة الذّهبية لكلّ كاتب هي أن يغلق ناقده الدّاخلي، ويكتب، ويستمر؛ فلن يرى أحد مسوّداته، ولن ينشرها قبل مراجعتها، ونقدها، وتنقيحها، بيد أنّ عملية النّقد متأخرة عن ساعة الإبداع، وليست مصاحبة لها البتة.

ويمكن للكاتب أن يكتب بعيد استيقاظه يوميًا حتى يزيد من مهارته، ويحلّ عقال قلمه ويده، وعليه أن يترك عقله اللاواعي في عمل دائب؛ فيكتب في ذهنه وهو يعمل؛ سواء كان في المطبخ أم في المكتب، وهذه الكتابة الافتراضيّة من خير ما يواجه به الكاتب حبسة الكتابة؛ كي لا يتوقف عن مهنته، فالكتابة ليست عمليّة على الورق أو الشاشة، بل هي معركة في الذّهن أولًا، وعقل الكاتب لا يهدأ!

ومن الطّرق المفيدة أن يحدّد الكاتب ساعةً للكاتبة، ووقتًا بالدّقائق؛ ومكانًا متغيّرًا كلّ مرة، ثمّ يلتزم بذلك، ويجاهد نفسه التي ستحاول غالبًا المراوغة والتّملص، ويواجه بصرامة مقاومته الدّاخلية، ومع الاعتياد والدّربة، يطيل فترة الكتابة، حتى تصبح نشاطًا لا يعاني من المنّغصات، وعملًا ممكنًا في أيّ موضع، وبذلك يكتسب الكاتب السّيطرة على نفسه، والطّلاقة في الكتابة، ويا لهما من نعمة!

وحين يعثر الكاتب من نفسه على نبع لا ينضب، ومعين لا يغور، فسيذهب تعبه، وتزول أوجاعه، وتلين الكتابة له نفسها، فيسلس قيادها، ويحلو طلعها، وتصبح قرينة الهواء، وأخت الماء، وهل للإنسان غنية عنهما؟ أو اشتراطات زمانيّة ومكانيّة وحاليّة لأخذ نصيبه منهما؟! والنّتيجة المأمولة أن يكتب متى شاء، وأينما أراد، وهذا ثمرة الالتزام.

وباعتبارك كاتبًا، اكتشف نفسك، وانظر أين تكمن مهاراتك، ويتجلّى تميزك، فامسك به، واحرص ألاّ تكون أسيرًا لعادة أو طقس يومي، وتابع لياقتك دوريًا، واجتهد في رفعها، وجعلها طوع يديك، ولتكن حاستك النّقدية تجاه أدواتك حاضرة بلطف، ومن سار على النّهج القويم سيصل لمراده بفضل الله.

ومن أحسن ما يرفع لياقة الكاتب، أن يدخل بين فترة وأخرى في حال خمول، ونشاط صامت، فلا يقرأ، ولا يحاور، وإنّما يخلو، ويتأمل، ويرجع البصر كرّة إثر كرّة؛ وهذا الوضع فيه خمول سطحي، ونشاط عميق، ويدخل العقل في سكينة كالتي يظفر بها الجسد خلال الاستراحة، ومع سكون العقل يظلّ الخيال متيقظًا؛ يصنع الصور، ويبتكر الأوصاف البديعة، ويقتنص الكلمات الطازجة.

وهذه الومضات العجلى، هي ما علق بذهني بعد أن قرأت كتابًا عنوانه: لياقات الكاتب، تأليف دورثي براندي، ترجمة فريق ضاد غزة، وصدرت طبعته الثّالثة عن دار كلمات للنّشر والتّوزيع في الكويت عام 2016م، ويقع في (157) صفحة من القطع المتوسط، وآمل أن يكون عرضه مفيدًا لكتّابنا حملة مشاعل الوعي، وقادة التّأثير الإيجابي من الفتيان والفتيات.

أحمد بن عبد المحسن العسَّاف-الرِّياض

ahmalassaf@

السّبت 12 من شهرِ شعبان عام 1439

28 من شهر أبريل عام 2018م 

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)