سير وأعلام عرض كتاب

سبع زيارات للتّاريخ (2)

سبع زيارات للتّاريخ (2)

أندروبوف

هذه هي الزِّيارة الثّانية في كتاب الأستاذ هيكل، وأجدني مضطرًا للقول بأنَّ مواقف هيكل وآراءه له وعليه، وليس لي علاقة بها، وبالتّالي فالحديث عن كتابه، والاستشهاد بأقواله، لا يخرج عن سياق الاقتباس من أيّ أحد، دون موافقة تامّة، أو معارضة دائمة.

وكانت ثاني زيارات الكتاب حسب ترتيبه، للزّعيم الرّوسي يوري أندروبوف، ولم يكن هيكل يتوقع أهميته البالغة، حتى لفت نظره الدّبلوماسي المصري العريق مراد غالب- وكان يجيد اللغة الرّوسية-، وأكدّ ذلك السّفير الكندي، وهو عميد السّلك الدّبلوماسي حينذاك، فبدأ هيكل يتابع الرّجل، ويحاول اقتناص فرصة الاستماع له، والحديث معه، وجعل عنوان الفصل الخاص به: رجل الأسرار! ويلفت نظري اجتهاد السّفراء في معرفة المؤثرين داخل البلاط.

واعتبر الكاتب أنَّ الفترة التي حكم فيها أندروبوف الاتحاد السّوفييتي، كانت فرصة ضائعة بسبب قصر المدّة، ولو طالت فترته لتغير وجه العالم، وانزاح عن كاهله شبح حرب عالميّة، ويستدرك هيكل مستشهداً بالمثل الفرنسي القائل: كلمة “لو” تجعل برج إيفل ينفذ من ثقب إبرة!

وضمن زيارات الرّئيس المصري جمال عبد النّاصر لموسكو، المعلنة والسّرية، تهيّأت لهيكل فرصة الانفراد بصاحبه، ومناقشة بعض الشّؤون معًا، فكانت سانحة لا تفوت على صحفي قنّاص. وأول إجابة عميقة من أندروبوف، كانت تخص صفقة أسلحة سريّة لمصر، وقد احتاروا في تفسيرها للعالم، فاقترح على هيكل جعلها من طبائع الأشياء، والتّعامل معها على أنّها صفقة سلاح طبيعية بين القاهرة وموسكو؛ دون تعقيد والبحث عن تفسير أو تسويغ!

ومما جاء في مجريات اللقاء على لسان أندروبوف، أنّ التّجربة التّاريخية للأشخاص تدمغ أفكارهم بصبغتها، وبالتّالي تختلف الآراء والمواقف في قضايا كان الظّن بها أنّها موضع اتفاق وائتلاف، وما أحرانا بملاحظة ذلك، وقبول مساحة من الاختلاف كي لا تضيع حياتنا في تنازع يقضي على طاقاتنا، ويشتّت الجهود.

ومن أغرب ما في هذا اللقاء، أنَّ واقعة حدثت في بلدة مصرية، ثم نقلت أحداثها مشوّهة حتى وصلت إلى الكرملين، وعرف بها بريجنيف وأغضبته! هذا في زمن لا يوجد فيه إعلام اجتماعي، ولا تغريدات من قاعات الاجتماع والغرف المغلقة أو المظلمة!

وجرى الحوار حول تعاظم المؤسسة العسكرية في موسكو، ولهذا التّعاظم ضريبته ليست المحليّة فقط؛ بل على مستوى العالم، ومنها أنَّ الاهتمام العسكري مسكون بالحرب، مغرم بتصنيع السّلاح، وتجريبه، وتطويره، وبيعه، وربما إهدائه أحيانًا للتّخلص منه أو لمآرب أخرى.

ومن أطرف ما في أحداث الزّيارة وما بعدها، أنّ بريجنيف أصيب بنوبة قلبيّة حادة في صيف عام 1975م، وظلّ لأيام بين الحياة والموت، فحاول أحد المرشحين لخلافته استباق الأحداث، وترتيب أوضاع ما بعد بريجنيف، لكنَّ الرَّجل العجوز عاد للحياة بنشاط، ومع نشاطه غضبة ساخنة تجاه شليبين قضت على مستقبله السّياسي مرّة واحدة، فتعلّم أندروبوف أنّ أيّ خطوة في غير أوانها خطيرة، حتى لو كانت بحجة دفع خطر أعظم!

ومع أنّ أندروبوف وعى هذا الدّرس جيّدًا، إلاّ أنّه لم يهمل الاستعداد للطّوارئ، وحين مات بريجنيف حقيقة؛ بدا للعيان أنّ رجلاً واحداً فقط هو المستعد لخلافته، وبالتَّالي أذيع بيان الوفاة، ومعه بيان آخر باعتلاء أندروبوف لسدّة الرّئاسة.

كان هذا الرّجل يطمح وليس يطمع فقط، وأعدّ نفسه بالقراءة ستّ ساعات يوميّاً، وله نظرات مختلفة، فحين أثيرت مشكلة الكتّاب الرّوس الذين يجدون تعاطفًا من الغرب، كان رأيه أن اشحنوا هؤلاء الكتّاب للغرب، وارفعوا عنهم حظر السّفر، دعوا الغرب يراهم، ودعوهم يرون الغرب، وسوف يسقط كلّ احتفاء الغرب بهم، كما أنَّ الغرب سيصبح بلا قيمة عند كتَّابنا؛ لأنّهم سيفقدون فيه القيمة، ويعجزون عن الإبداع.

ومن إصلاحات زعيم الاتحاد السّوفييتي تحسين العلاقة مع العسكريين، والابتعاد عن منافستهم؛ حيث أنَّ سلفه بريجنيف كان يحمل (270) وشاحًا ووسامًا عسكريّاً! ولم يفزع من الانشقاقات بحجَّة يسيرة ملخصها أنَّ معتنقي الفكر الشّيوعي في الغرب أكثر من معتنقي الفكر الرّأسمالي في الاتحاد السّوفييتي.

واجتهد في مقاومة الفساد المالي والإداري، وضم إلى دائرته عدداً من الشّباب؛ ليكسر احتكار الشّيوخ للمناصب العليا، وكان متوسط العمر قبله (75) عامًا! ولذلك سعى في ردم فجوة الأجيال. ومن سياسته الحكيمة، مواجهته المستنيرة لمشكلة القوميات، لأنَّ المواجهة بقوة السّلطة فقط تقود لمآزق.

ومن طريف خبره، أنّه اهتم بوفود أمريكا وأوروبا في عزاء بريجنيف، واقترب من الوفد الصّيني والباكستاني، وأبدى استغرابه من تباكي رونالد ريجان وغيره على أفغانستان المسلمة، وسكوتهم المريب عن مصير فلسطين! ومن المحزن أنّه لم يلتفت للوفود العربية البتة، ولم يلق لها بالاً، وكانت عنده مثل جثمان رئيسه الميّت، الذي سقط في حفرته سقوطًا مدويًا، ولم يوضع في القبر بالمهابة المعتادة لجثامين الزّعماء.

ولم تطل حياة أندروبوف، إذ مات بسرعة، خلافًا لسلفه الذي حكم قريبًا من ثلاثة عقود، ويصدق على الاتحاد السّوفييتي، وعلى وريثته روسيا، وصف الزّعيم الإنجليزي الدّاهية تشرشل: بلد من الألغاز الملفوفة بالأسرار المسربلة بالغموض.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرّياض

ahmalassaf@

الخميس 20 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1439

08 من شهر مارس عام 2018م

Please follow and like us:

3 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)