لا تقرأ كتاباً بعد اليوم!
فعل القراءة يحوي مع الجمال طريقاً نحو الكمال، ويعزز الحرية الشخصية مع المسؤولية التامة عما يختاره القارئ، وفي كيفية التعامل معه، فضلاً عن فهم النص، وموافقته أو معارضته، إلى غير ذلك من التواصل مع معارف وحضارات، وأزمنة سالفة أو قادمة.
وربما لا يطرأ على بال الإنسان القارئ أن هذا الفعل النفيس يمكن أن يتجاوز حدود التقسيم الثنائي: قرأتُ أو لم أقرأ، وقد لا يتصور الكاتب أن الاستغراق في القراءة تعيق عملية الكتابة، وتحول أحياناً بين الإنسان وبين المضي في إجابة دواعي الكتابة، ولذا فقد تكون النصيحة الثانية للكاتب بعد اقرأ: توقف عن القراءة من فورك!
وما أكثر الكتب على رفوف المكتبات الشخصية والعامة، وفي كل مكان من بيوت المثقفين مما يحنق الزوجات والأبناء، هذا غير ما يطبع يومياً من كتب متنوعة في كل فن، فهل يقدر المرء على قراءة أغلب هذه الكتب بله كلها؟ وكيف يمكنه تجاوز ذلك بما ينفعه ولا يشينه؟
هذه الأسئلة وغيرها، يطرحها بجرأة، ويجيب عنها بإبداع، الأكاديمي وعالم النفس الفرنسي بيير بايار، في كتاب مثير صارخ العنوان: كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه؟ صدرت طبعته العربية الأولى عن دار كلمات عام (2016م)، وترجمها غسان لطفي، ويتكون من مقدمة للمترجم وأخرى للمؤلف، ثم ثلاثة أقسام، فخاتمة، ويقع في (260) صفحة من القطع المتوسط.
هذا كتاب فريد في بابه، ويستحق عناء قراءته، هكذا افتتح المترجم مقدمته، واعترف بأن عنوان الكتاب جعله يقطِّب مغضباً من أول وهلة، ولم تمنعه الصدمة من قراءة الكتاب، لعراقة الدار الفرنسية الناشرة له، ولمكانة المؤلف في عالم الأدب.
ويختصر المترجم غاية المؤلف إلى نزع “القداسة” عن القراءة، وعن الكاتب، والنص، والنقد، مع تخفيف حدة الشعور بالذنب تجاه كتب لم يستطع الواحد قراءتها، واعتبار النسيان جزءاً من القراءة وليس آفة لها. ولأجل تعزيز هذه المفاهيم سعى المؤلف إلى تجاوز الثنائية في تقسيم القراءة إلى فعل وعدم فعل، وأعاد النظر في مفهوم القراءة واللاقراءة.
وقال المؤلف في البداية إنه تعرض إلى مواقف مزعجة، حين يطلب منه التحدث عن كتب لم يقرأها، أو يكتب رأيه عما ينشر من مقالات وكتب، وبعد معاناة وممارسة، تكونت لديه خبرة في فعل اللاقراءة، ورغب في أن يتشارك مع القراء في هذه الخبرة العميقة، وهذه المشاركة تستلزم شجاعة لأنها تخوض في مجال غير مطروق، وتتضمن صراحة يراها البعض محرجة.
ويحاط فعل اللاقراءة بإكراهات عديدة، أشدها ثلاثة:
الأول: واجب القراءة كي لا نفقد تقدير الآخرين.
الثاني: ضرورة القراءة الكاملة، وازدراء ما دون ذلك من اختصار.
الثالث: الكلام على الكتب بعد قراءتها، والمؤلف يراهن على إمكانية خوض نقاش محتدم عن كتاب دون قراءته؛ وهذه ليست تسويقاً للادعاء الفج كما سيظهر لاحقاً.
ونجم عن هذه الإكراهات نفاق عام بشأن القراءة، فقلما يعترف إنسان بأنه لم يقرأ كتاباً مشهوراً، أو معروضاً للنقاش في ساحة عامة أو خاصة، وهذا النفاق ليس بين العامة بل يقتحم أوساط أهل الاختصاص، وعلة هذا الكذب على النفس وعلى الآخرين هي تجاوز الشعور بالذنب من عدم القراءة، وللتنفيس عن هذا الشعور ألَّف بايارد كتابه هذا.
القسم الأول في كيفيات اللاقراءة وطرائقها:
يتكون من أربعة فصول، حيث يعنى الفصل الأول بالكتب التي لا نعرفها، وما أكثرها؛ ولكن يجب ألا يحزننا ذلك، لأن القراءة تحمل في طياتها فعل لاقراءة، فعندما تمسك كتاباً فإنك تترك غيره من الكتب مهما بلغ تعدادها.
فأمناء المكتبات يجهلون مضامين كتبها؛ بيد أن النبهاء منهم يضبطون عناوينها وفهارسها؛ فيظهرون وكأنهم قرأوها، ولبعضهم فلسفة ملخصها أن حبه للكتب جعله يقف حذراً على تخومها، كي لا يجره اهتمامه الزائد بأحدها إلى الجور على غيرها.
وينقل المؤلف عن مكتبي حكيم قوله: إن من يحشر أنفه في الكتب ستخسره الثقافة والقراءة معاً! ولا مناص من النظرة الشمولية التي تنافي الاستيعاب الكلي، وتتجاوز فردية الكتاب إلى فهم علاقته بغيره من الكتب، والفهارس خير كاشف عن هذه العلاقات.
كما أن معرفة المجموعة التي ينتمي إليها الكتاب تسهم في تحديد موقعه بالضبط، وعليه فقد يكون ظاهر الكتاب أهم من باطنه! والحصيف هو من يميز بين مضمون الكتاب وبين موقعه بالنسبة إلى غيره من الكتب، وهذا التمييز محوري وحاسم تجاه معرفة الكتب دون حاجة لقراءتها صفحة صفحة.
ووضع الكتاب ضمن مكتبة جماعية يزيل الجهالة عنه، ويدخله في حقل إدراكي مناسب، وهذا هو المحك الحقيقي للحديث عن الكتب، ومن يفعل ذلك يمسك بجوهر الكتب، ويوقرها أكثر ممن يقرأ المضمون فقط دون بصيرة بالموقع، وأكثر بالطبع ممن يجهل المضمون والموقع.
الكتب التي تصفحناها هو عنوان الفصل الثاني، فبعض الكتب يكفيها التصفح، وكما يحتاج المثقف إلى معرفة طريقه داخل المكتبة، فحاجته أحياناً أكبر إلى معرفة طريقه داخل الكتاب الواحد، وكلما زادت مهارته في سلوك هذا الطريق نقص ما يحتاجه من وقت للبقاء في الكتاب.
ولذلك غدت القراءة أكثر مما يجب، صفة انتقاص يطلقها فاليري- أحد كبار المتصفحين- على بعض كبار القراء، والإفراط في القراءة حرمنا من ميلاد كاتب أصيل حصر نفسه في القراءة فقط، وكم أعرف وتعرف! وهذا من “أضرار” القراءة حين تصير فخاً يأسر المبدعين بانتظار الإلهام أو الكمال.
وأما الفصل الثالث فعنوانه: الكتب التي سمعنا بها، ومختصره الاكتفاء بقراءة أو سماع ما يكتبه أو يقوله الآخرون عن الكتب؛ مما يحمي وقت القارئ من الانغماس في كل كتاب، ولعل الكتب والمجلات والكتّاب الذي يعرضون الكتب قد أعانوا على ذلك، وآمل أن تكون مشاركتي في هذا الباب نافعة وأمينة، وأن تحفظ أوقات الآخرين؛ حتى يجدوا متسعاً من الوقت للعمل الرشيد.
وعنوان آخر فصل من هذا القسم الكتب التي نسيناها، وعامل الزمن حاسم في هذا الجانب، فكم من كتاب قرأناه ثم نسيناه، وربما نسينا أننا قرأناه يوماً ما؛ وبذلك تتساوى القراءة مع اللاقراءة، والنسيان قدر لا مفر منه، ولذا فحديثنا عن الكتب التي قرأناها أشبه بالذكريات التي تتغير وفقاً لعوامل الزمن والفهم، ويفقد فعل القراءة وجاهته بسبب هذه العوامل.
القسم الثاني عن المواقف الخطابية:
وهو أربعة فصول كذلك، وعنوان فصله الأول في الحياة الاجتماعية، وملخصه أن الحديث عن أي كتاب والحوار حوله في المناسبات الاجتماعية، ينطلق من المكتبة الداخلية حتى لو لم نقرأ الكتاب محور النقاش، وهذه المكتبة عبارة عن مجموعة من الكتب تنتمي إلى مجموعة أكبر هي المكتبة الجماعية، وكل خلاف حول تقييم أو فهم كتاب ينشأ من الفرق بين المكتبات الداخلية للمتحاورين.
أمام الأساتذة هو عنوان الفصل الثاني، وكثيراً ما يضطر الأساتذة والمثقفون إلى الحديث عن كتب لم تتح لهم فرصة قراءتها، ولكل إنسان كتابه الداخلي الذي يقوم بعمل المصفاة، وتقديم رؤية مسبقة عن أي كتاب، بناء على طريقة تكوين هذا الكتاب الداخلي الذي يؤثر في كيفية استقبال الكتب الأخرى، وتعود صعوبة المناقشة الجماعية لأي كتاب إلى اختلاف الكتب الداخلية لمجموعة النقاش.
الفصل الثالث عنوانه: أمام الكاتب، ويرى المؤلف أن مواجهة الأساتذة الخبراء بالكتب صعبة؛ بيد أن ما هو أصعب منها هو مواجهة المؤلف ذاته؛ لأنه قرأ كتابه حتماً كما نفترض، والحقيقة الغائبة هي أن بعضهم لم يقرأ كتابه؛ لأنه لم يؤلفه أصلاً! ونصح الكاتب بمجاملة المؤلفين الذين لن يتحققوا من دقة آرائنا.
وآخر فصول القسم الثاني عنوانه مع من نحب، وخلاصته أن للكتب المشتركة تأثيراً عميقاً على العلاقات العاطفية، مما يزيد من الوفاق بين شخصين حين يشرعان في قراءة ذات الكتاب أو الكتب، ومن جرب عرف.
القسم الثالث ما العمل؟:
لا تخجل هو عنوان الفصل الأول، فلا علاقة بين قراءة الكتب والحديث عنها، وبين الفعلين انفصال تام، لأنه لا يوجد كتاب بمعزل عن موقعه في المكتبة الجماعية، ولكل كتاب موقع في المكتبة الافتراضية المبنية على التصور المسبق، التي تحررنا من صورة الثقافة الكاملة شديدة الطغيان، وليس لدينا يقين بأن كل متحدث عن كتاب قد قرأه فعلياً.
أما عنوان الفصل الثاني فهو افرض أفكارك، فعدم قراءة الكتاب هو الأصل عند المؤلف، والأمر الأكثر خطراً ليس قراءته؛ بل معرفة ما يقال عنه وحوله، وهو أمر يتسم بالحركية والسيولة التي تتغير بين حين وآخر، وتأسيساً على ذلك يمكن الحديث عن كتاب لا من تصفحه، بل من معرفة رأى الآخرين عنه.
ومن الضرورة للحديث عن الكتاب، معرفة الكاتب معرفة جيدة، والتنبه للسياق الذي ألف فيه، وهذه العلاقات المنسوجة حول الكتاب تملك سلطة في الحكم عليه لا يجوز إغفالها، وبهذا نستطيع مقاربة الكتب بكل ثرائها، دونما جمود على نظرة أولية ضيقة.
اخترع الكتب هو عنوان الفصل الثالث، ويؤكد بيير بايارد على أهمية الإحاطة بمآل الكتاب في الفضاء النقدي، وتعريف العلاقات بين النصوص والبشر، وهي علاقات حركية متبدلة، وهذا التبدل لا يمس قيمة الكتاب فقط، بل مضمونه أيضاً، وهي فرصة سانحة لمن أدرك كيف يستفيد منها في الحديث عن كتاب لم يقرأه.
ويمكن من خلال مزج الأصداء المختلفة عن كتاب واحد، اختراع الكتاب الشبح ضمن المكتبة الافتراضية، ويتميز الشبح بالغموض، وإضافة الجديد بناء على إدراكه ولو لم يكن ضمن الكتاب، مع القدرة السريعة على الاعتراف بالخطأ في حال الوقوع بورطة ثقافية!
وآخر فصل من القسم الأخير عنوانه تحدث عن نفسك، وينقل المؤلف عن غيره أن مدة البقاء مع أي كتاب يجب ألا تتجاوز دقائق معدودة، ويكون اللقاء مع الكتاب فرصة لكتابة السيرة الذاتية، والانطلاق في فضاء الإبداع الرحب.
ويرى الكاتب أهمية الارتحال بين الكتب دون الوقوف عندها، وإطلاق العنان للأفكار والمواهب، وأن نتحدث عن أنفسنا من خلال الكتب، ونجعل القراءة تكأة للاشتغال على الذات، ونعتني بالجوانب الفردية الأكثر أصالة وتفرداً، وللمفارقة فالإغراق في القراءة تقتل هذه الجوانب.
والحديث عن كتب لم نقرأها بمفهوم القراءة التقليدي يجعلنا في قلب العملية الإبداعية، كتابة، ونقداً، وتحليلاً، وإضافة ما يمكن أن يؤثر على الكتاب والمكتبة بأنواعها المختلفة التي أشار إليها المؤلف، وسيجد القارئ الذي أزاح عن نفسه عبء المفهوم التقليدي للقراءة أن الطريق مفسوح أمامه ليكتب ويبرز قدراته وملكاته.
وفي الختام كرر بايارد مفاهيمه المنثورة في الكتاب، داعياً المرء إلى أن يستمع لذاته، ويحرر نفسه من القيود الثقافية الوهمية، ويتجاوز عقدة الشعور بالذنب لأنه لم يقرأ، ليصبح صانعاً للكلمة المبدعة، النابعة من نفسه، السالمة من أسر غيره، ومن التيه الدائم في أفكار الآخرين، لترتفع لدى الإنسان الجرأة على الكتابة.
وهذه الأبعاد تفتح لنا عالماً جديداً في النظر للكتاب وعملية القراءة، وهي محفزة تجاه هذا الفعل الراقي وليس حاجزة عنه، بيد أنها تعلمنا القراءة بذكاء، على ألا نقع في مصيدة التشبع بما لم نعط، أو سمج الدعاوى، والأهم من ذلك إدراك علاقات الكتب، وأنواع المكتبات، بيد أن الفكرة الأسمى هي إطلاق العنان للإبداع الفردي بالكتابة، وإخراج مكنون النفس المفيد.
ومن الموافقات أني أكتب هذه الكلمات في مكة حيث نزل القرآن الكريم، وكانت القراءة أول كلمة وأمر في الكتاب الخالد والدين الباقي، وستبقى القراءة عملاً عظيماً يقع في دوائر الرغبة والادعاء والفعل، ومن لوازم القراءة، ومن بركات عدمها-حسب مفهوم الكاتب- تحريك الذهن واليد للكتابة، وتحرير هذه الموهبة من قيودها.
ولعل هذا الكتاب بمفاهيمه أن يفتح نوافذ إرشادية للقراء، فالقراءة مهمة لبعض الكتب، ويمكن الاستعاضة عن قراءة كتب أخرى بما أشار إليه الكتاب واستعرضته أعلاه، وقد قرأته قراءة كاملة، وكتبت عنه ما يمكن القارئ من الحديث عنه وكأنه قد قرأه تماماً حسبما أبان مؤلفه.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف- مكة شرفها الله
الثلاثاء 28 من شهرِ رجب عام 1438
25 من شهر أبريل عام 2017م
8 Comments