أحد أحرج المواقف التي تحدث بعد نشر مقال عن بعض الكتب، أن يظن بعض القراء الأفاضل بأن لديّ من ذلكم الكتاب عدة نسخ جاهزة للتوزيع! حصل معي ذلك في عدة كتب، وبعضهم ينهي المحادثة حتى دون شكر أو وداع إذا علم بأني لا أملك أي نسخة إضافية من الكتاب، ومنهم من أوتي نصيبًا من الذوق الرفيع والعقل الناضج فيغادر عاذرًا غير مغضب. من المواقف المحرجة كذلك أن ينسب بعض الكتّاب أو المتحدثين ما أنقله عن الكتاب لي، مع أن المضمون واضح في أنه عرض لكتاب ونقل عمّا فيه.
لكن مما يسر ويبهج ذلكم التفاعل الذي يجده الكاتب لدى طائفة من القراء، وبعضه يكون بالسؤال عن كتاب معروض، ولو كان العرض له سريعًا غير مستوعب. من ذلك مثلًا أن الرسائل تواترت عليّ دون انقطاع إلى يومنا بعد الكتابة عن كتاب عنوانه “الموافقات بين الشعر الفصيح والنبطي”، تأليف: د.نواف الرشيد، وجلّ الرسائل الواردة من المملكة ودول الخليج كافة، وواحدة من لبنان مما أثار استغرابي لصعوبة لهجتنا عليهم. يعود السر في هذا القبول إلى أن الشعر محبب، والكتاب جاء بفكرة جذابة، جمعت بين الشعر الفصيح والعامي. الحقيقة أن هذا الحراك أفرحني كثيرًا؛ فالثقافة لازالت بخير مع كثرة الجوائح حولها.
من الكتب التي لاقت استحسانًا بعد عرضها، سيرة البروفيسور أسامة شبكشي -رحمه الله- “مواقف وأشهاد”، خاصة من الأطباء والطبيبات، ومن طلبة كلية الطب. وردتني مرة رسالة من طبيبة بحرينية ذكرت أن تفاصيل دراستها تتقاطع مع قصة أبي عبدالمجيد، فأحلتها لمعاليه بعد التنسيق معه؛ لأن كتابه لم يكن معروضًا في الأسواق وقتها. وعقب أن عرضت نسخ من الكتاب على رفوف المكتبات نفدت من فورها، ومع كثرة السائلين عن الكتاب أجد الحرج مع القراء، على أني أفلحت مرة في تأمين نسخة لطبيب متلهف عليها، وكان شاكرًا للغاية؛ إذ أهدى لي عدة كتب مع أني سعيت لأجله دون إرادة شيء منه. واليوم تتكرر الطلبات، والمساعي تتكرر بغية إتاحة نسخ ورقية من الكتاب، أو الاقتناع بنشر نسخة إلكترونية شرعية منه حفاظًا على سيرة أحد أبرز وزراء الصحة في بلادنا.
ولا زلت إلى اليوم أستقبل استفسارات عن سيرة الأديب إبراهيم الحسون -رحمه الله- المنشورة أولًا في ثلاثة مجلدات ثم في أربعة أجزاء بعنوان “خواطر وذكريات”، وهي سيرة تنتهي من الأسواق بمجرد تسويقها، مما يهيئ الفرصة للنسخ المصورة، والإلكترونية. بعض من سألني عنها قال بأن الحسون صديق لجده أو معروف في منطقتهم، وبعضهم راق له ما كتب عنها. هذه السيرة جديرة مع سير سعودية أخرى بأن تكون متوافرة وحاضرة في معارض الكتب العربية؛ لأنها جذابة وفيها ما يميزها.
كما لاحظت كثرة السائلين عن عدد من كتب آفاق المعرفة التي وفقني الله للكتابة عنها، خاصة كتاب “الظل والحرور” لفهد الجريوي، وكتاب “الناطق الأخرس” لفهد الباشا. الأول منهما فيه مقتطفات جميلة من كتب السير الذاتية مقسمة على موضوعات، والثاني يتحدث عن القراءة والكتاب والكتابة. هما كتابان ضخمان، ومؤنسان للغاية، والسؤال عنهما وردني من قارات العالم كلها، وبعضهم فوّض من حج أو اعتمر من بلاده ليشتري له نسخة بسبب غلاء البريد، وأخبرتني قارئة من ليبيا أنها عثرت على نسخ من أحدهما في طرابلس، ففرحت بذلك لأكثر من سبب.
ومن طريف ما أذكره أني كتبت مقالًا عن كتاب ألفه أستاذ علم اجتماع من نصارى لبنان، خلاصته تحذير الأقليات وخاصة قومه -فهم لن يتهموه- من الانسياق وراء دعوات التمرد أو التآمر على الكتلة الأكبر في محيطهم، وعقب ذلك استعار صديق قارئ نسختي من الكتاب ليطلع عليها من يعنيه الأمر، وقد عادت لي سالمة بحمدالله، خلافًا لكتاب تحدثت عنه في مجلس ولم أكتب حرفًا عنه، وهو عن أوليات عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-، وبعد مدة طلبه أحد الذين سمعوا عنه بعد أن روى خبره لولي نعمته المثقف؛ فشغف بالكتاب المنتهية نسخه من السوق، ولم ترجع نسختي لي، وللقصة تكملة وحواش لطيفة، ربما أكتبها يومًا.
كذلك كتبت مرة عن كتاب يتحدث عن فنون متخصصة من الكتابة، والحقيقة أن محتواه ضعيف، وإنما قصدت بيان شيء من رأيي حول تلكم الكتابة التخصصية، فوصلتني عقب النشر رسالة من زميل عمل للمؤلف قال فيها: لو عرفت المؤلف لأيقنت أنه لا يستحق منك حرفًا! ومثل هذه الكلمة قالها لي قارئ عندما عرضت سيرة ذاتية منشورة لمسؤول سابق، وفي كلا الواقعتين لم يتبدل شيء مما دونته؛ فالناس خاصة الأقران ومن في حكمهم، ليس في حكمهم على بعض إنصاف تام في الغالب! علمًا أني حين كتبت عن الكتابين لم أتعرض لمؤلفيهما، وغصت في الموضوع والمواقف قدر المستطاع.
وعندما كتبت مؤخرًا عن كتاب يروي طرفًا من سيرة الهلال الأحمر السعودي، وصلتني رسالة من صديق يحملها عن قارئ بأن هذا الجهاز لم يبلغ عمره مئة عام كما جعلت في عنوان المقال! ومع أن الصديق أخبر صاحب الاعتراض أن المسألة تقريبية، وأن التسعين أخت المئة، إلّا أن هذا الاعتراض وارد ومحتمل، ولا يستغرب خاصة ممن تميز بالدقة الشديدة، أو ابتلي بتتبع ما يراه موضعًا للنقد دون البحث عن عذر ولو كان ضعيفًا، ودون الانشغال بالمحاسن عن تصيد ما يظنه عثرة.
ومما لا أنساه وصول اعتراضات حادة على بعض المقالات، منها مقال عن تاريخ عربستان والشيخ خزعل، وآخر عن مدارس اليهود والفرس في العراق، وأجبت المعترضين بأن ما لديهم من رأي جدير أن يناقش به المؤلف، مع استعدادي لقبول نشر اعتراضاتهم المؤدبة تعليقًا على المقال في موقعي. ومن حكايات الاعتراضات أن مؤلفة أمريكية راسلتني مبدية تحفظها على ترجمة عنوان كتابها، واعتراضها لم يكن عليّ وإنما على المترجم والناشر، ورسالتها لي في سياق الإخبار فقط بعد الشكر على العرض.
ومن لطيف القصص أني كتبت عن كتب قبل أن تعرض في السوق، فتعجب المترجم أو المؤلف من ذلك. منها كتاب أخذته من مكتب الناشر في الرياض أواخر رمضان، ولم يعرض في السوق إلّا بعد العودة من إجازة العيد. ومنها كتاب وصلتني نسخته الأولى من الناشر في بيروت حتى تعجب بعض من لهم صلة بالكتاب من سرعة وصوله لي علمًا أني إلى الآن لا أعرف كيف أحضرها صاحبي لي. والكتاب الثالث أخذت نسختي من الناشر في الرياض في أول يوم عرض فيه الكتاب للبيع، وقيل للزميل الذي كلفته بشراء الكتاب هذه أول نسخة منه تشترى.
وكتبت مرة عن كتابين صغيرين، استلا من رسالة دكتوراة، أحدهما عن خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الطائف، والثاني عن صلح الحديبية، فسألني عنهما صديق من القراء الذين لا يقرأون بنهم فقط، وإنما بنهم وعمق، فأخبرته أني فوضت من يشتريهما لي من مكتبة جداوية، بيد أنها تفتح أبوابها للزبائن يومًا واحدًا في الأسبوع دون نظام واحد أو ثابت لهذا اليوم، وربما أنها كانت في طور التصفية. لذلك كمن هذا الصديق للمكتبة، وحين شرعت أبوابها اشترى جميع النسخ التي لديهم من الكتابين.
هذه القصص وأخواتها تسعدني كثيرًا؛ لأنها عن القراءة والكتاب والكتابة، وتجعلني في محيطها حتى لو تشاغلت عنه، وتقدم للقراء مادة منوعة وماتعة فيما أحسب. هي فوق ذلك جزء من مشروع كتاب مستقبلي عن علاقتي مع القراءة والكتابة، وقد سبق هذا المقال بمقالات أخرى كثيرة، ربما أنها لو جمعت وضمت معًا لأضحت في مؤلف نافع ولطيف، وعسى أن تتاح الفرصة لإكمالها، ونشرها. ولعل الله أن يكتب فيها الخير والبركة عاجلًا وآجلًا لي ولمن يقرأ وينشر ويؤمن.
الرياض- ليلة الجمعة 17 من شهرِ ذي الحجة عام 1446
13 من شهر يونيو عام 2025م
2 Comments
ماشاءالله تبارك الله
مقال ممتع
كنت ومازلت سباق متميز في الحصول علي كل جديد من الكتب
وللعشق فنون
بوركت أبا عبدالكريم