سير وأعلام عرض كتاب

محمد بن ناصر العجمي: جلال وجمال!

تجتمع في شخصية الشيخ محمد بن ناصر العجمي -شفاه الله وعافاه وأمتع به- عدة صفات تجعله شبيهًا بأسلافه من علماء حضارتنا العظام، إن في الرحلة وملاقاة الأشياخ، أو في الرواية والإسناد، أو في التأليف والتحقيق، أو في وعي الفوائد وبثها، أو في وثيق العلائق بالمخطوطات والكتب والمكتبات والناشرين، أو في سلامة المنهج ونقاوة الصدر، مع معارف شتى ضمن محيط الكتاب وعالمه، يضاف لذلك همة عالية، ونفس صافية، وبراعة موفقة في اقتناص الفرص؛ حتى غدا الشيخ المحدث المسند، الأديب المؤرخ، من رؤوس التصنيف، وفرسان التحقيق، وأحد شامات الحنابلة في الكويت والجزيرة العربية، ومصدر إشعاع يسطع نوره ويطلع بدره على دنيا الأدب والتراجم والعلم من أرض الجهراء.

لأجل ذلك؛ فلن يعجب المرء حين يطالع مسرد أسماء مؤلفات الشيخ العجمي، وتحقيقاته، وقائمة أشياخه ومن أخذ عنهم الإجازة في أقصى الأرض وأدناها. هي قائمة طويلة أصدرها د.محمد بن أحمد حُحُود التَّمْسَمَاني في كتاب من ثمانمئة صفحة، وهو كتاب لا يخبر عن نهم الشيخ العجمي وحدبه فقط، ولا يدل على أسماء أشياخه فقط، بل يطلعنا على مسار الحركة العلمية في عصرنا، ومدى انتشارها، وارتباط اللاحق بالسابق، وأن الخير والخيرية باقيان في هذه الأمة إلى قيام الساعة، ترويها أجيال عن أجيال، وتتوارثها طبقات من طبقات، في سلسلة نفيسة من التعاقب العريق.

 كما سيلحظ المتابع العناية الفائقة للشيخ محمد بن ناصر العجمي بتاريخ الشام وعلمائها؛ إذ تواترت زياراته لها، وإقامته فيها متنقلًا بين الكتب والمخطوطات والجوامع والأشياخ، وهي زيارات علمية خالصة تكررت عشرات المرات؛ حتى عده الدكتور محمد حسان بن حسني الطيان من رجالات دمشق؛ ولا غرو فقد أحيا الله بشيخنا العجمي كنوزًا من الكتب والمخطوطات، وأعاد للأذهان أسماء علماء أجلاء، حتى لكأنهم بيننا ومعنا، وهذا من فضل الله على عبده أن صيره بفضله شريكًا لأولئك الكرام، وطرح عليه من بركة الشام، وجمالها، وكان ممن نقل للآخرين أنوار الشام ودمشق، في زمن أطبقت عليها الغمة الزائلة أخيرًا لاردها الله.

ومع عناية الشيخ الكبيرة بالشام وعلمائه، إلّا أنه لم ينس أهله الأقربين، فكتب عن علماء الكويت ورموزها كتابات مفردة أو ضمن مؤلفاته، ومن أجلّها حفظه لسيرة الشيخ عبدالله الخلف الدحيان -رحمه الله-، وروايته عن أعلام وأعيان من الكويت من أهلها، أو ممن عاش فيها، فقد كانت الكويت -ولا زالت- حاضنة لكثير من العلماء والمشروعات العلمية، وهذه مفخرة لأي بلد جديرة بالحفظ والاستقطاب. ومن جليل عناية الشيخ أنه صرف بعض جهوده المباركة لحفظ تاريخ حنابلة الشام وسيرهم، وهذا امتداد نابع من اهتمامه بدياره والمذهب السائد بين أهلها.

ثمّ إن الشيخ المؤلف محمد العجمي أرسل لي قبل مدة قريبة غلاف كتابه الأخير، وبعدها بزمن قصير اتصل بي مخبرًا بتلطف أن نسختي من الكتاب سوف تصلني، وهي نسخة من نسخ قليل عددها يقع في محيط “بضع”، وقد وصلت للشيخ فور طباعتها بلبنان، وخصني بواحدة منها، وعليها إهداء بخطه. كان صوت الشيخ ضعيفًا ولم أسأله عن ذلك، إذ ظننت أنه تعب السفر أو شيء من هذا القبيل، وكان تواصله معي في أيام أدائي للامتحانات النهائية التي أعقبها تخرجي في القانون من الجامعة السعودية الإلكترونية.

عقب ذلك توالت الأخبار عن إجراء شيخنا عملية طويلة جدًا في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض، وتتابعت له الدعوات، وتكاثرت الأسئلة عنه وعن أحواله الصحية، فاللهم ألبسه لباس الصحة والعافية، وأسبغ على جسده الشفاء من كل علة، واجعله واجعل شأنه كله بعد هذه الملمة خيرًا منه قبلها في أمر دينه ودنياه، والله يفرح القلوب بسلامته، وخروجه الطيب المبارك القريب، ويجزي خيرًا من أعان على علاجه من مسؤول أو ممارس صحي.

عنوان هذا الكتاب الأخير: الإفادات والحكايات والإنشادات مما رويته وسمعته من العلماء والأدباء في الحضر والرحلات، نظم عقدها وقيدها: محمد بن ناصر العجمي، وصدرت طبعته الأولى عن دار البشائر الإسلامية عام (1446=2025م)، ويقع في (924) صفحة، وعلى الغلاف الأمامي والخلفي صور لخطوط علماء وأدباء، ورؤية هذه الخطوط كفيلة بإبهاج النفس، وليس هذا فقط، بل هي برهان متماسك على صواب ما قيل أعلاه من واسع رحلات شيخنا، وكثير علاقاته، وعوالي همته، وثمرات أوقاته، وجلالة قدره وأثره، وتتبعه للجمال في شأنه العلمي والشخصي.

لن أستطيع حصر غرر الكتاب وفوائده، ولعلي أن أشير لبعضها في مقال آخر، بيد أني أكرر القول بأن هذا الكتاب يدل على شخصية صاحبه وتاريخه العلمي وسيرته في الطلب، وهو يؤكد أن الشيخ ليس “تفاحة الكويت” فقط كما يوصف؛ ذلك أن التفاحة على جمالها ولذاذتها وشذاها تنتهي بالقضم، وإنما الشيخ نخلة باسقة في سماء الكويت، وفي طبقات عصرنا، ومع أسماء النجب الكرام من الجزيرة العربية والشام، وإن النخلة لطويلة عمر، ذات تجدد وتنوع، وهي خير الشجر في أرض العرب بالدنيا، وأحد أسباب وصف الحديقة بالجنة، وكل جزء منها له منافعه وبركاته، وكذلك شيخنا -ولا أزكيه على الله-.

ومن اللطف الخفي في هذا الكتاب الجميل، أن صدوره يتزامن مع قرب موسم الحج الميمون، ومواسم السفر في إجازات الصيف، ووالله إنه لمن خير الرفقة لمن سافر إن في الطائرة أو السيارة أو السفينة، أو حيثما حل وأقام. وما أجمله وفوائده تتلى في أنحاء منى الطاهرة مع الحجيج أيام التشريق، فهو من السعادة والفرح المشروع إشاعتهما في أيام العيدين وأيام التشريق، والله يجعل أجر ما فيه من علم ومعارف ومسرات لشيخنا الذي يحتاج ممن يقرأ صادق الدعاء بعاجل الشفاء.

ahmalassaf@

الرياض- الثلاثاء 29 من شهرِ ذي القعدة عام 1446

27 من شهر مايو عام 2025م

Please follow and like us:

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)