رضا الناس ليس غاية لا تدرك؛ بل هو على التحقيق المريح للنفس غاية لا تطلب؛ لأنها لن تدرك، والسبب اختلاف الأمزجة والنفوس، وتباين الفهوم والعلوم، واختلاف الحظوظ من عقل وسفه، وتفاوت الأخلاق في الإنصاف والإجحاف، فما عُرض الإنصاف على امرئ فقبله إلّا جلّ في العين والمقام، ونال المهابة، وما أقلّهم، وكم كانت قلة الإنصاف قاطعة بين الناس ولو كانوا ذوي رحم مثلما قال شاعر عربي، هذه هي الحقيقة الأولى.
أما الحقيقة الثانية فهي أن كل إنسان لديه معتقدات ومبادئ وأفكار وتصورات؛ فمنها ما هو ثابت ملتصق بالمرء لا يفارقه في حال أو زمان أو مكان، ومنها المتغير الذي يتقبل التعديل أو التبديل لزيادة علم ومعرفة واطلاع وتجربة، أو لاقتناع برأي ووجهة نظر، أو ابتغاء مصلحة شرعية مرعية، وهذا باب من الاجتهاد السائغ المفتوح لمن يملك الأهلية له، وصاحبه المجتهد مأجور عليه بفضل الله أيًا كان موقعه من الصواب.
وثالث حقيقة لا مناص من ذكرها مع أختيها، هي أن بلاء التصنيف وإمضاء “الولاء والبراء” بناء على موقف واحد، أو علاقة مع إنسان، أو رأي في كتاب أو قول أو منصة، أو ماشابه ذلك من أعمال بعضها صواب، وبعضها نادر الوقوع، أو احتف به ما يوجب الإعذار أو حسن الظن، أو تقع في دائرة ظنية لا قطعية، أو غير ذلك، من الظلم المبين، ومن ضيق الأفق المهين لصاحبه قبل غيره.
ولو حاكمنا المصنّف نفسه إلى منهجه لأخرجناه من الأطر التي يدعيها! هذا فضلًا عن أن التصدي للجرح والتعديل علم عظيم دقيق خطير لا يصلح له موتور، ولا متهور، ولا متهوك، وما أكثرهم، دون نكير على من أبان ما يعتقده من حقٍّ بعلم ووقار. وهنا ملمح يحسن الإشارة إليه، إذ إن إقبال الدنيا وإدبارها مؤثر في نظرة أكثر الناس لغيرهم، وهذا التأثير يفقد كثيرًا من الآراء نضجها، وإنتاجها لآثارها، وقابليتها للاحتجاج بها! وملمح آخر خلاصته أن بعضهم يجعل نفسه مقياسًا للصواب، ومرجعًا للكمال، وهو مملوء بالخطأ والخلل والنقص، وهذا باب سوء مصراعاه حمق وعدوان.
أقول ذلك بعدما قرأت التعليقات المصاحبة لإعلان نبأ وفاة الشيخ الدكتور سعد بن عبدالله بن ناصر البريك (١٣٨١-١٤٤٦=١٩٦٢-٢٠٢٥م) -رحمه الله-، وجلّها أقوال رزينة رصينة معتدلة، حفظت للشيخ الراحل مكانته وتاريخه، ووقفت بهيبة أمام رزية الموت، وأبانت عن نضج مجتمعنا وأصالته وسمته العام. وفيها -وهذا حال لا يكاد أن ينجو منه إنسان- أقوال منسوبة لفئة يقعون على طرفي نقيض فيما يبدو للناظر أول وهلة، فأحدهم مشرق والثاني مغرب؛ بيد أن المتأمل سيرى أن إطارهما الفكري والتطبيقي واحد، وإنما تغير اللون والاتجاه فقط؛ فاللهم اكفنا الشرور وأهلها.
لقد كان من شأن الشيخ الذي توفي يوم السبت الماضي، أنه في محرابه يقف تاليًا للقرآن الكريم بلا تكلف، وبأداء خاشع يغلب عليه التحزن، وهو فوق منبره الخطيب الفصيح المتدفق نصحًا وغيرة وبيانًا، وبين يدي الأشياخ الكبار تلميذ محب مستفيد، وقد يقرأ الدرس العلمي، أو يلقي القصيدة الوعظية، بلحن شجي يأسر الأسماع فلا تمل من ترداده، وما أكثر تأثير هذه الطريقة حتى على أجيال الذكاء الاصطناعي، وليتها ألّا تنقطع ممن يتولون مأجورين خطاب التذكير والوعظ. وللشيخ أيضًا باع في المحاضرات الرسمية والجلسات الودية، بما أوتي من بلاغة، وحسن أحدوثة، وطرفة عذبة حاضرة، ولم تحل تلك الأعمال الكثيرة بينه وبين إتمام الدراسة العليا، وإنهاء بعض المؤلفات الفقهية والتربوية.
ومن جليل أخبار الشيخ شفاعاته الكثيرة، وجبرانه لعثرات الآخرين، وغالبيتهم صلحاء ضعفة، شغلوا بالخير عن الصفق بالأسواق، وتتبع سبل التجارة والكسب الزائد، فلم يتأخر في إنجادهم، وإغاثتهم ولو لم يكن منهم صريخ، أو يصدر عنهم طلب غوث. ومن صنيعه الذي يغبط عليه، مسيره في مشروعات لبناء مساجد ومدارس ومراكز للخير والدعوة في بلاد شتى، وسعيه لنصرة المسلمين وقضاياهم، فهنيئًا له هذه المنجزات يوم أتيحت له صلات مع من يقدر عليها من أهل الجدة والجاه والسلطان، وهنيئًا له أن الناس سيذكرون له هذه المحاسن كلما ضج الحنين من الحنين، وكلما تعاقبت تباريح السنين.
كما استثمر الشيخ قربه من بعض رجال الدولة والمسؤولين، ومن المشايخ الكبار، وطلبة العلم والدعاة، ومن الشباب الصالح والمحاضن الدعوية، فحرص على تقريب وجهات النظر، وتهدئة النفوس، وتطييب الخواطر، والثناء على كل طرف عند الآخر، وتكثير سواد الحق وأهله، وزيادة مساحات المصالح، دون إنكار أن المخطئ الآثم الناكث على السلطة الشرعية يستحق العقاب الوارد، والعقوبة الرادعة، وهذا كله بلا ادعاء المثالية الخالية مما يستوجب الإصلاح والإكمال والتطوير، ولا عجب فهو المحب لبلاده وولاتها وأهلها، والمخلص وداده لهم ولها.
ولم يتردد الشيخ في استثمار الوسائل الإعلامية القديمة والحديثة المتاحة للنفع والتأثير، مثلما كان يفعل في مسجده ومنبره ومحاضراته العامة أو في المدارس والأندية، ومثلما تولى بالرعاية بعض المدارس الاحتسابية لتعليم القرآن الكريم للرجال والنساء، ولا غرو أن يفعل الشيخ الداعية ذلك، فصاحب الرسالة يهتبل الفرص المناسبة لنفع المجتمع والبلد والناس، والاستكثار من الحسنات ليوم المعاد، وإن بكلمة عابرة، أو مقترح مبارك، أو هندام جميل يجلب القبول والاطمئنان.
ثم شاء الله أن تدرك البلوى الشيخ في آخر عمره، والله يجعل ما أصابه من البلاء كفارة له، ورفعة في الدرجات، وزيادة في الحسنات. والله المرجو بأن يديم أجور عمله الصالح في البر والصلة، والدعوة والإغاثة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصح والبيان، وتفريج الكربات وجبر العثرات، وغير ذلك من الأعمال الطيبة التي يكتب لجنسها البقاء، ولحسناتها الاستمرار، مع سؤال المولى أن يتجاوز عنا وعنه وعن كل مسلم، ويحسن العزاء فيه لأسرته ومحبيه وبلاده، فاللهم آمين يا رحمن يا رحيم.
الرياض- الاثنين 07 من شهر ذي القعدة عام 1446
05 من شهر مايو عام 2025م
One Comment
رحمه الله رحمةً واسعة وأسكنه الفردوس الأعلى ، ولافض فوك
ولاكسر لك قلم ، أحسنت فيما
دونت عن الشيخ وماسبقه من مقدمة جلية في الذب عن الشيخ
وبيان الخلل الجسيم في شرذمة
من الناس ، وفي نظري أن هؤلاء
ظالمون وهم مسؤولون عما يصدر منهم من ظلم وإجحاف فلا قيمة
لهم للمسلم في حياته وبعد مماته.
قلوب قاسية خبيثة وألسنة سليطة
سلم منها العدو …
والشيخ مات على التوحيد والسنة
ويرجى له الخير وهذا حسن ظننا
بالله .
ومن منا من لم يسلم من الخطأ؟
كلنا ذاك الرجل ، وهم أول الناس
خطأً في عقيدتهم ومايشوبها من
إرجاء ومن غيبة ونميمة وتحريش
بين المسلمين .
لكن عزاءنا أن الحق منصور ولايضره شيء وأن هؤلاء في مهب الريح ومايقولون ما يكتبون ..
رحمه الله رحمةً واسعة.