لكل شيء في الدنيا بداية وانتصاف ونهاية. الابتداء لا يُغفل عنه في الغالب، ولا يُفرط فيه؛ بسبب الانتظار وضرورة الاستقبال، فنحن أمة ضيافة. والانتهاء لا ينسى ولا يغيب؛ لارتباطه بالختام والوداع، فنحن أمة وفاء. يبقى وقت المنتصف الذي قد يُهمل بسبب الفتور وقصر النظر، فيصير مثل نجم وقع بين شمس وقمر، فليس له نور معتبر، ولا ضياء مستثمر، مع أن الانتصاف نتيجة للابتداء، وطريق حتمي نحو الانتهاء.
وها هو شهر رمضان الأغر المبارك يتجه لبلوغ نصفه، بعد مضاء النصف الأول، وإقبال نصفه الثاني، وهذه فرصة للتأمل وحث النفس اللجوج، وحضها فهي ملول، وحفزها حتى لا تقف أو تنكص على أعقابها. ولأجل ذلك فمن الحسن أن نستذكر بأن هذا النصف بوابة للعشر الأواخر بما فيها من ليلة واحدة تزيد في فضلها وأجرها على ألف شهر بلا حدٍّ معروف لمدى هذه الزيادة، ويالها من ليلة مهمة، وموقعها الزماني في النصف الثاني.
وفي ليالي العشر تزيد التلاوة والانقطاع للتقرب والتأله، والاستكثار من العبادات، ويوفق الله بعض عباده للاعتكاف، وهو عبادة لم تهجرها الأمة منذ عصر النبوة إلى يومنا. وفي هذه الليالي يزداد العتق من النيران خاصة في آخر ليلة من الشهر الكريم؛ فأي سانحة لنا كي نضرع للمولى الرحيم بأن يخلصنا وأصولنا وفروعنا وأزواجنا وأقاربنا وجيراننا وأصدقائنا وزملائنا ومن له علينا فضل وعامة المسلمين من شرور نار تلظى.
كما أن النصف الثاني من رمضان يحمل لنا في طياته ذكريات أيام النصر والفرقان والفتح وصدّ العدوان، مثل يوم بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، ومعركة وادي لكة لفتح الأندلس، وغيرها من المعارك القديمة والحديثة، علمًا أن شهر رمضان وثيق الصلة بالفتوح، والانتصارات، وكذلك بالتذكير بمآسي العدوان على المسلمين من قبل أمم الكفر والضلالة في حروب ومجازر لا يطويها الزمان وتعاقب الأيام، وهو شهر الثبات والصبر والرباط، وشهر الشهادة، وما أعظم أجرها المضاعف في رمضان.
ويفتح منتصف رمضان الباب واسعًا لاستقبال موسم العيد، وما يلتصق به من زكاة الفطر، وما يكون في العيد من فرح واجتماع، ولذلك تنشط حركة التجارة والبيع والشراء في النصف الثاني منه، والله يجعل النفقة فيه كله مخلوفة متقبلة، والتجارة رابحة رائجة، ويرفع الحاجة والعوز عن عباده في كل مكان، خاصة عن الفقراء والمساكين، وعن الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، وهم لا يسألون الناس إلحافًا.
خلاصة القول: إذا انتصف رمضان فهذا يعني قرب النهاية، وتسارع الأيام للانقضاء، وكم يجدر بنا أن نستدرك مافات، بالاجتهاد والمصابرة. وإذا انتصف شهر رمضان المبارك فماذا يحسن بالموفق الحصيف أن يفعل؟ إن باب البر والخير واكتساب الحسنات مفتوح بلا حدّ، ومنه:
- حمد الله أن بلغناه، وقوانا على الصيام والطاعات، فعبادة الحمد قد ننساها مع عظمتها.
- كسب أجر النية بالإحسان ومضاعفة العمل.
- أقبل النصف الأهم؛ فهل نستدرك التقصير في أخيه المنصرم؟ وهل نهتبل فرصه الكثيرة، وأجلها فرصتان هما: ليلة القدر ومافيها من دعاء وسؤال الله العفو والعافية، وآخر ليلة من رمضان التي يكثر فيها العتق من النيران.
إن شهر رمضان كله فرصة سانحة لعباد الله بحثًا عن النجاة والاستزادة، وكم فيه من يسر لمن رام طرق باب الأجور المضاعفة فيه، وهذا من عظيم كرم الرب الغفور الرحيم الرؤوف، الذي يعطي بلا انقطاع، ويهب دون استحقاق، ويزيد ويضاعف، فالمتاجرة مع الله الرحمن الرحيم الحي القيوم -سبحانة- مضمونة الربح، أكيدة الظفر، وتعالى الله الذي يحب العبد المقبل التائب، ويفرح به، فاللهم بارك لنا في النصف الثاني من رمضان، ووفقنا فيه للمزيد الذي تحبه، ويكون سببًا لنيل حبك وولايتك.
الرياض-الجمعة 14 من شهرِ رمضان المبارك عام 1446
14 من شهر مارس عام 2025م