سير وأعلام مواسم ومجتمع

أبواي ورمضان

أيُّ استهلال أجمل، وأيُّ إطلالة أبهى، من مجيء شهر رمضان المعظم؟! ثم إن ذلكم الجمال، وهذا البهاء، يزدانان بعد صادق التوبة وسنية التعبد، بذكريات دافئة مع الأسرة والمحيط القريب خاصة. كلما أعلن عن دخول الشهر الكريم؛ تداعت للذهن ذكرياتي الرمضانية مع أبويّ -رحمهما الله-، وكم وددت لو أنهما ثمّ أو حتى ثمت، وأنا بجوارهما وبين يديهما وتحت كنفهما، كالطفل ولو أني اكتهلت؛ والكهولة -يا قوم- ليست هي الشيخوخة!

كان الوالدان يستبقان دخول الشهر بصدقات عينية من الأطعمة للبيوت المحتاجة، وربما ذكّر أحدهما الآخر بمستحق من الأيتام والأرامل والفقراء، وفيما بعد استعانت الوالدة بمشروعات السلال الغذائية، والله يتقبل. وإذا اقترب الشهر يتحرى الوالد إعلان دخوله رسميًا، فيتابع المذياع، والتلفاز لاحقًا، ويفرح أشد الفرح بدخول رمضان، ويخبرنا بذلك. ويظهر أثر السرور والإشراق على الوالدة؛ مع أن شهر رمضان يعني المزيد من التعب للأمهات آنذاك؛ خصوصًا قبل ظاهرة العاملات التي لم تطرق البيوت فقط؛ بل سيطرت عليها بما يشبه الاحتلال، والله يصلح الأحوال. هذا مع أن أساس الخدمة والاستخدام لا بأس به، لكن ما يحتف به من إشكالات، وكسل وتواكل وعجز، ومضاهاة، وربما مظالم، هي التي منها يُخشى.

ثمّ بمجرد أن يعلن عن رؤية هلال شهر رمضان، يبدأ الوالد والوالدة بإجراء الاتصالات الهاتفية أو الزيارات للمباركة بالشهر الميمون، هذه الاتصالات والزيارات التي رأينا فيها معنى الصلة ووعيناه، وعرفنا منها أهل ودادهم، ورأينا بالمقابل من كان وفيًا لهذه العلائق الوثيقة، ومن لم يرفع بها رأسًا. إن رمضان فرصة ثمينة لتجديد العهد، وردم الهوة، والتقارب والتصالح، وقد كان أبواي فيه من أسرع الناس للوصل الهادئ، وإشاعة السلام والمباركة، ونسيان أي إشكال.

وفي رمضان لا يفتر لسان الوالد عن ذكر الله، والدعاء، وزيادة تلاوة القرآن، والاستغفار في السحر على وجه أخص، لذلك يكره كثرة الكلام والضحك مع الفطور، أو عند حلول ساعة السحر، ويحثنا حثًا، ويحضنا حضًا، على اهتبال تلك السوانح وتلقي النفحات الربانية بالتضرع والاستغفار. ولم يكن كثير الأكل والشرب في هذا الموسم حسبما رأيت، فالقهوة والتمر على الفطور، ثم أخف عشاء ممكن له، وسحوره كأس من الحليب الساخن، وله وللوالدة فناجين قهوة كبير لا يستعمل في غير رمضان، وودت لو احتفظنا بها. وقد كان اجتهاد الوالدة بأصناف المطعومات والمشروبات لأجلنا نحن بالدرجة الأولى، مع الإهداء للجيران، ولا أنسى فرحتنا وهي تخيرنا بين الشراب الأحمر أو الأصفر، وغيرهما، والله يكتب أجرهما على النفقة، وعلى النَّصب والعناء في الإعداد.

كما يحرص الوالد مثل غالب الناس على إخراج زكاته في رمضان طلبًا لمضاعفة الأجور، وهو يعرف أهل الزكاة وأحوالهم، وتعاونه الوالدة في ذلك. مما أذكره أني ذهبت معه وأنا في الابتدائية، وطرقت الباب على بيت، فخرجت امرأة وسألتها: أنت فلانة؟ قالت: نعم، فأعطيتها المبلغ الذي معي، وبعد حين اتصلت امرأة بالوالدة مستغربة نسيانهم من الزكاة؛ فذهبت مع الوالد للبيت نفسه مرة أخرى، وطرقت الباب ودخلت بعد أن فتحت لي المرأة، وسألتها عن اسمها، ثم طلبت منها كشف وجهها لأراها ففعلت، وكانت غير المرأة السابقة، فدفعت لها المال، وقد تعجب والدي ووالدتي وجدتي من جرأتي على طلب سفورها، مع أني طفل لم أجاوز الثانية عشرة من عمري، وهي تسير نحو الشيخوخة، وقريبة جدًا من وصف القواعد، ومن عجبهم آنذاك استغربت!

ومرة ذهبنا في الظهيرة إلى ناحية من نواحي البادية، للبحث عن رجل هرم مسن، وحين أعطيته المبلغ، ورجعت للوالد الذي ينتظرني، لحقني قعود أوضح -أي جمل صغير أبيض اللون ما أحسنه مقطعًا في الثلاجة- فهربت منه وهو يلحقني في مشهد مضحك لو كان مصورًا، حتى نزل الوالد من السيارة، وهرع الرجل المسن، وآخرون؛ فأمسكوا بالقعود ونجوت. كذلك أعطاني الوالد مبلغًا كبيرًا من المال زكاة أوصلها لرجل افتقر وركبته الديون، والوالد متحرج من فعل ذلك بنفسه حفظًا لمكانة الرجل، فذهبت له، وسلمت عليه، وأعطيته المال دون أن أقول شيئًا، أو أن ينبس هو ببنت شفه.

مما لا أنساه أن الوالد تعرض لمرض قلبي شديد في فجر الثاني عشر من شهر رمضان عام 1404= الحادي عشر من شهر يونيو عام 1984م، وقد أدخل على أثره في المستشفى، وظلّ منومًا إلى يوم السابع والعشرين منه. وخلال هذه المدة التي قضاها في المستشفى، توفيت شقيقته الكبرى “لولوة” فجأة بعد أن بلغها نبأ ما أصاب أخيها البار والسند القوي لها، وحين بلغ للوالدة خبر وفاة العمة المحبة -رحمهم الله- فقدنا مولودًا منتظرًا، ولم يعلم الوالد عن هذه المصائب إلّا عقب خروجه، والله يكتب لهما الأجر المضاعف والمثوبة البالغة. وعندما توافد بعض الزوار لعيادة الوالد أصر على إقامة ولائم الإفطار لهم، وهو في المستشفى. وللوالد مع الولائم والمآدب تاريخ، حتى أنه يجتهد في بعضها اجتهادًا لافتًا مثل مناسبة صباح عيد الفطر كل سنة.

وبعد أن خرج الوالد من المستشفى أصر الطبيب عليه أن يصلي في البيت، وأصر هو أن يصلي في المسجد مع الجماعة، وكان الحل الوسط بينهما أن يصلي في المسجد، ويمشي معه رفيق من المنزل للمسجد والعكس، ورزقني الله شرف هذه الصحبة والمكوث في المسجد التي تعلمت فيها الكثير، وسأكتب عنها لاحقًًا بحول المولى. ومما يرتبط بذكرياتي الرمضانية مع أبويّ، أنني كنت حريصًا على الصيام كي أصبح مع زمرة الكبار، وهما يرفقان بي لطول النهار، وشدة الحر، وصغر السن نسبيًا؛ فافتعلت قصة غير حقيقية ليفهما منها أن الصيام واجب عليّ، وبناء على نجاح خطتي أذنا لي بالصيام قبل وقتي المفترض، والحمدلله.

إن الأبوين مثل العمر، ما ذهب منه لن يعود، وما أحرى من يقرأ بأن يستثمر أيامه كلها، وأيامه المنيفة اللذيذة مع والديه، فهي أوقات ستمضي ولن ترجع، وقد لا يبقى منها سوى الذكريات أو بعضها. غفر الله لأبويّ وأبويكم وجميع موتى المسلمين، وبلغنا وإياكم رمضان على خير وسعادة وألفة واجتماع. والله يكتب لنا ولكم التوفيق فيه والقبول، كي نزداد من الصالحات والقربات، ونفوز بالغفران والجبران؛ فسيأتي زمن ولا محالة، نغدو فيه من الذكريات، هذا إن بقي أحد يذكرنا!

ahmalassaf@

الرياض- الأحد 24  من شهرِ شعبان عام 1446

23 من شهر فبراير عام 2025م

Please follow and like us:

2 Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)