سير وأعلام

منصور المنصور: معلمنا وابن عراقتنا!

غير صحيح البتة أن زامر الحي لا يطرب، وليس بحقٍّ أن أزهد الناس بعالم هم أهله، فما أكثر الاستثناء في الحالين، والأمثلة لمن أنصف وبحث لن تتوارى. أقول ذلك مع الاحتفاء الكبير الذي صادف الفوز المستحق للمعلم المربي منصور بن عبدالله المنصور بجائزة فاركي، وهي جائزة تعليمية دولية عليا من منظمة اليونسكو، انطلقت منذ تسع سنين، ونافس عليها في مراحلها الأخيرة عشرات الآلالف من المعلمين الذين ينتمون لتسعين دولة، وكان الفوز من نصيب المعلّم المربي المنصور، ابن هذه البيئة العريقة حقًا، الأصيلة صدقًا.

هذا الفوز المبارك هو ثمرة اجتهاد المنصور، وخلاصة تعبه على نفسه ومدرسته وطلابه. هذا العمل ليس حصيلة عام، ولا نصب عقد، وإنما مسيرة عمر وسيرة حياة، بل إن الأمر يتجاوز شخصه الكريم إلى أسرته النبيلة التي يتنادى الخير والعلم وصنع المعروف في جنباتها، ويشمل مجتمعه الأحسائي واسع الأفق والفكر والفضل، وبلاده السعودية الغزيرة مآثرها، المقدسة ديارها، المحكومة شؤونها بأولى النهى. وإن أترك أحدًا له سابقة ومشاركة في هذا المنجز؛ فلن أترك كل من علمه حرفًا، بدءًا من سنواته الدراسية الأولى إلى آخر شهادة حصل عليها، ولن أنس الذين زاملوه ورأسوه واقتبس منهم وأفاد، ولن أغفل عن سادات التعليم في بلادنا ولا عن مناهجها المتينة؛ وإنه لتاريخ جدير بأن يبرز ويفرح به.

امتاز الأستاذ الموفق منصور المنصور بأنه اتخذ من التعليم رسالة لا مجرد عمل يقضي فيه الساعات ثم يمضي لا يلوي على شيء؛ وإنما يعمل خمس عشرة ساعة يوميًا في المَهمة المُهمة، والمهنة السامية التي اختارها، ويكفيه فخرًا أنها من أجلّ أعمال الأنبياء والحكماء والمصلحين والساسة والخالدين عبر تاريخ البشرية وسجل الحضارات. كما أعانه الله على التحضير لهذه الجائزة منذ بدأت، ومن بذر مبكرًا، حصد في موسم بهيج آتٍ ولا محالة.

كما يسر الله للأستاذ المنصور؛ فلم يقع أسير واقع، ولم يهرب من حال إلى الندب الانهزامي، والشكوى الموجعة، بل تسامى على الموجود، وتعامى عن المفقود، حتى صنع من مطبخ المدرسة معملًا للطلاب، ويحث في البيئة المحيطة فجعل من الجامعة القريبة جسرًا يعبر عليه الطلبة، ويستفيدون مما في هذه المؤسسة المجتمعية الأساسية من فرص وكفاءات وعلوم وعلماء. إن كسر قيد الصعاب، وفك أغلال الأوهام، وإبعاد النظرة نحو سقوف بعيدة، وآمال منيفة، لمما يصنع الفرق في مسيرة العظماء ومنجزاتهم؛ ولقد كان المنصور كذلك، وكل الصيد في جوف الفرا. إن التعليم روح وعقل وإنسان؛ وليست مجرد مبنى او وسيلة أو شكل دون إنكار لقيمتها ومكانتها.

كذلك تفاعل أستاذنا المربي مع مجتمعه، ونظر نظرة أبوية حنونة مشفقة، يدفعه إليها دينه القويم، وتربيته الجميلة، فزاد عناية بضعفة الطلاب وأيتامهم، وقرر أن يمنحهم المضاعف من دأبه ونشاطه، ولم يقف عند هذا، إذ اختار أن يكون مبلغ الجائزة البالغ مليون دولار سببًا لتأسيس مشروعات تعليمية للأيتام، وهي فكرة نبيلة حقيقة بأن تساند من الأثرياء والمسؤولين، فإن لليتم وقعه ولوازمه، والأيتام سبب للأجر ومرافقة النبي الأكرم الذي كان يتيمًا بيد أنه بفضل الله علّم العالم، وأسعد من اتبعه، وانقذه من ضلالات الدنيا ونيران الآخرة.

وأحسن الأستاذ منصور وهو عضو في جمعية قبس للقرآن والسنة والخطابة حين صيّر من الطالب مشروعه الأول والأهم، ذلك أن من يجعل أهم شيء في حياته أهمّ شيء في حياته فعلًا فسوف يفلح في الغالب. وأجاد المربي الفاضل عندما استثمر في الطلاب باعتبارهم المادة الخام القابلة للتاثير الحسن ونفع البلاد والمجتمع بواسطتهم، ونزع إلى التدريب العملي؛ كي لا يغدو صنيعه مقصورًا على محيط الأقوال، والنتيجة مخرجات ثلاثين عامًا لو ظهرت لأبهرت مؤكدة على المستوى الرفيع من الأداء والاهتمام، وإن الاهتمام بشيء ما يصنع لصاحبة عبقرية وتميزًا فيه.

ألا ليت أن تجربة الأستاذ المنصور تصبح عامة كي يحذو حذوها من شاء من المعلمين أو يطورها. وليت أن هذا الحدث السار يرفع من ثقتنا بأنفسنا وتعليمنا وثقافتنا وما ينتج عنا؛ ذلك أن بعض الناس أسر نفسه بفكرة معلّبة والتعليب سبب فساد، أو بإطار شكلي ما والتأطير آفة ماحقة، أو بركوب موجة والأمواج لا تدوم وما أسرع تقلّبها، أو بغير ذلك من الأوهام والهواجيس. وليت هذه المناسبة أن تزيد من الالتفات للمعلم تكريمًا ومؤازرة وتقديرًا معنويًا وماديًا.

ثمّ إن هذا المقال جزء من احتفاء المجتمع بهذا المعلم المربي أعانه الله وسخر له؛ ذلكم الاحتفاء الذي شرّق وغرب، وتحدثت به مجالس ووسائل عدة، وتسارع إلى التكريم أمراء ووزراء ومديرين وزملاء وأسرة وكتّاب وغير ذلك من مؤسسات وجمعيات والمنتظر ربما أكثر، وهذا ليس بغريب على مجتمعنا العريق، وحكومتنا المعنية بالتعليم والتربية والتفوق، وهو شيء مما يستأهله كل محسن مجيد قريبًا كان أم بعيدًا. إن منصور المنصور نموذج طيب مبارك لأبناء مجتمعنا العريق الأصيل، وأمثاله بحمدالله كثر في مجالات عديدة، منهم الظاهر وفيهم الأخفياء!

ahmalassaf@

الرياض- الخميس 21 من شهرِ شعبان عام 1446

20 من شهر فبراير عام 2025م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

X (Twitter)