سبحان الذي جعل الجمال مرافقًا للغتنا حتى في رسم حروفها، وأنواع الخطوط، وقابليتها للزخرفة، وهو جمال يغيب عن حروف بعض اللغات التي يفتقد رسمها للحياة فلا يلفت النظر، ولا يشعل الفكر. وفوق الجمال فلحروفنا -وحروف غيرنا أحيانًا- معان واستعمالات ودلالات ومخارج تزيد الجمال جمالًا، وتجعله جمال معنى باهر، وجمال مبنى ظاهر، وجمال أداء وشدو مترنم، وهل شيء -بربكم- من اجتماع هذا الجمال أحلى؟!
من حروفنا البهية الحرف السابع والعشرون من الهجائية العربية، وهو حرف الواو الكثير استخدامه، العديدة معانيه، المختلفة أنواعه. كم سيكون مفيدًا لو رجعنا لمعاجم مطولة أو مختصرة كاللسان أو المحيط، أو معاجم تحصر المعاني كالمقاييس، للوقوف على معجم هذا الحرف، وزياد ثرائنا اللغوي منه ومن غيره. لحرف الواو استعمالات ومعان يجدر بنا معرفتها، خاصة معشر الكتّاب، وله محاذير يحسن بالكاتب التبصر بها كي لا يقع في شراكها، وسيأتي بيان بعضها. من عظمة هذا الحرف أن الواو العاطفة تنفَرِدُ عن سائِر أحرُف العطف بخَمْسةَ عَشَرَ حُكمًا. مثل هذا الانفراد يضيف للواو مزية كما لا يخفى.
قد تعمل الواو نحويًا بنصب وجر، وقد لا تعمل، ومن استعمالاتها العطف، والاستئناف والابتداء، والقسم، والحالية، والجمع، والفصل، وربما تصبح زائدة، ويضيف البعض واو الثمانية على خلاف فيها حتى قال النحوي الكبير أ.د.أبو أوس الشمسان: “… والذي ننتهي إليه أن واو الثمانية خرافة لا أصل لها، وليس يتعلق بها سوى مُستهتَر بالغرائب”، والمستهتر هو المولع بالشيء خلافًا للشائع، ومادة “هتر” توضح ذلك. كما أن الواو تقترن بكلمات أخرى مثل لكن، إما، قد، وغيرها، وتصير علامة إعرابية في الأسماء الستة، وإشارة إلى الجمع. وللواو مخارج بعيدة وقريبة بحسب نوعها مدية كانت أم غير مدية، ويمنع الواو من جواز الإتباع بمجرد وجوده بين كلمتين مثل “حل وبل”.
من إشكالات حرف الواو في الكتابة كثرة إقحامه، والإقحام هو الإدخال دون موجب أو داعٍ وجيه، والضابط في معرفة هذا الإقحام توطئة للتخلص منه أن حذفه لا ينقص المعنى ولا يخل به، بل يزيد الجملة إشراقة، والسبك رشاقة. كذلك من إشكالات هذا الحرف في الكتابة الإفراط في جعله أداة ربط بين الجمل والفِقَر، بينما يمكن الاستغناء بغيره، بل ربما لا نحتاج للربط البتة، ويغدو النص بدون ربط أكثر جاذبية وقوة، وهذه لعمركم مهارة بالمران تأتي.
أما لطائف الواو فمنها أن البعض يصف الواسطة بأنها فيتامين “واو”، والواسطة هي الشفاعة، وهي قسمان؛ فالحق منها مقبول مطلوب، والباطل ممنوع مردود، وهي من صدقة المرء بجاهه، والفضل الذي يجب أن يشاع دون عدوان على نظام متبع، أو حقٍّ، أو أسبقية، وما أحرانا بالمروءة والنجدة. ومن بديع مرويات الواو ضرورة إدخالها بعد كلمة لا وقبل الدعاء، فلو قال لك إنسان: هل تريد كذا؟ فأجبه إن لم ترد بقولك: لا (و) جزاك الله خيرًا، وقد روي عن حاكم سابق احتفاءه بهذه الواو عندما أجابه رجل فطين بقوله: لا (و) أبقاك الله. من حُسن هذه الواو الأخيرة أن وصفت بأنها واو الأصداغ، وعلى القارئ أن يفتش عن مكامن هذا الحُسن!
ومما وقع لي مع الواو، أنني كنت أيام الطفولة أرحم من يبدأ اسمه بواو أو ياء؛ لأنه سيكون آخر من يختبر شفويًا أو من أواخرهم، مع أن بعض أساتذتنا قلبوا هذه الطريقة فصار الألف آخر الحروف. ومنها أن لي صديقًا عزيزًا يبدأ اسمه بحرف الواو؛ فأسمى أولاده الذكور والإناث -حفظهم المولى وأصلحهم- بأسماء جميلة تبدأ بالواو، وليس هذا فقط، بل ابتكر مشروعات خيرية أو ساهم فيها، واختار لها مسمى يبتدأ بالواو، وإن إبداء كثير الوداد لصاحبنا هذا لا يكفي ولا يفي. وأختم بالقول إن حرف الواو في زماننا أصبح حرف تعجب ودهشة ينفتح له الفم حتى تبدو اللهاة أحيانًا، وهذه “الوأوأة” ربما أنها نقلت عن الإنجليزية (wow)، وقد يكون لها أصل في ثقافتنا يحتاج إلى بحث وبيان. أسأل الله ربنا الواحد الواسع الولي الوهاب أن يوفقنا ويرزقنا ويفتح علينا بما يدهش حتى يقول الناظرون: واو واو واو!
الرياض- الثلاثاء 19 من شهرِ شعبان عام 1446
18 من شهر فبراير عام 2025م
One Comment
مساء الخير أ.أحمد
استمتعت بقراءة المقاله ، بارك الله فيك 🌹
لا أخفيك أن حرف الواو كان يعطيني متسع من الوقت غالبا في الفصل
لكي أراجع ماهو مطلوب مني سواء حفظ أو تسليم واجب 😁👍