كنت طفلًا مميزًا، وشابًا يافعًا فيما بعد، أنعم بالجلوس إلى جوار والدي -رحمه الله- الذي كان يستمع للإذاعة خلال أجزاء من جلسته اليومية معنا. لكأنه تعمّد أن يكون السماع مشتركًا لتعم الفائدة لكافة أفراد عائلته المحيطة به. وكان من ضمن البرامج التي دأب على سماعها برنامج أدبي ثقافي يأخذ بمجامع النفوس بمجرد سماع الصوت، ثم يأسر العقول والقلوب بطريقة الأداء والمحتوى.
عنوان هذا البرنامج قول على قول، وقد طبعت جلّ حلقاته، واشتريت نسخة منها وفاء لذكرى الوالد، ورغبة في تكرار النهل من هذه المائدة الراقية، وكم في الإذاعات من برامج نافعة جديرة بإعادة البث، أو بحفظها مطبوعة في كتاب. ألا ما أجمل مجالس الأبوين، وما ألذ الجلوس إليهما، والسعيد من أدركهما، واغتنم هذه اللحظات التي ستفقد في يوم مسمى.
حمل الكتاب المطبوع العنوان نفسه للبرنامج المسموع، فهو قول على قول، تأليف: حسن سعيد الكرمي، وصدر عن دار لبنان للطباعة والنشر في اثني عشر جزءًا، تزيد عدد صفحات كل جزء عن أربعمئة صفحة أو تنقص عنها، وبالتالي فمجموع هذه المعلمة الأدبية يناهز خمسة الآف صفحة. ولكل جزء عدد طبعات يختلف عن غيره، فطبعة الأول هي السابعة، وطبعة الأخير هي الأولى فيما يبدو، وأول جزء طبع قبل عام (1969م)، وتوالت بعده طباعة الأجزاء إلى آخرها الذي طبع عام (1985م)، والمؤلف مقيم حين الطباعة في لندن كما يظهر في مقدمات أكثر الأجزاء، قبل أن يعود إلى الأردن.
جعل الأديب الكرمي المقدمة واحدة في جميع الأجزاء، وفيها يذكر أن البرنامج بث عبر هيئة الإذاعة البريطانية، وكانت الغاية منه الإفادة مع الإمتاع، وإشاعة الذخائر العربية، ولذا نشره كما هو دون مزيد بحث واستقصاء؛ كي لا تخرج المادة عن هدفها وطرائفها. وللعلم فهي مادة غنية بالشعر والأدب واللغة والتاريخ والسير والبلدان، وببعض اللفتات الدينية. إنه كتاب نفيس، وجدير بأن يطالعه الشباب، وأن تستفيد منه الأسر المثقفة في المسامرة، والارتقاء بالذائقة، والفائدة متاحة من خلال المطبوع، أو الحلقات المحفوظة في اليوتيوب، وإنه لكتاب جدير بالخدمة الإلكترونية لمن نشط للنهوض بها بعد إكمال ما يلزم رعاية لحقوق الملكية الفكرية، وكم في الشعر والكلمة الجميلة من تأثير كبير على النفوس والأخلاق والتصرفات.
بدأ البرنامج بعنوان لكل مقام مقال، ثم تغير إلى قول على قول، وجمهوره من العرب في بلدانهم وأماكن إقامتهم، وقد تابعه ملوك وأمراء ورؤساء عرب، مثل الملك فيصل الذي أخبر الكرمي أنه لا يفوت حلقة من برنامجه، ومثل ملك المغرب الحسن الثاني الذي تساءل عن توقف الأجزاء المطبوعة عند الثاني عشر، وكذلك رئيس العراق أحمد البكر الذي حرص على أن يكون الكرمي مؤدبًا لابنه، والشيخ زايد رئيس الإمارات الذي وهب جائزة مالية للأديب الكرمي، وجمال عبدالناصر الذي طالب وزير الثقافة بمصر أن يذاع مثل هذا البرنامج من إذاعة مصرية فهي أولى من إذاعة المحتل الإنجليزي؛ لكن الوزير صرح بالعجز بعدما استشار مجموعة من المثقفين والأدباء الذين وجدو صعوبة في مجاراة الكرمي.
ينتسب الأديب حسن الكرمي إلى أسرة فلسطينية مثقفة برز منها فقهاء وأدباء وشعراء، وقد أخرج من بلاده مرغمًا بعد الاحتلال اليهودي لها عام (1948م)، واستقر في لندن بعد أن استقطبه القسم العربي في إذاعتها الشهيرة، وكان له عند الإنجليز مكانة خاصة وتوقير لافت كبير لا يحظى به غيره، لما شاهدوه فيه من الجدية والعلم والتقصي في البحث. وقد نجم عن هذا النهم العلمي أن نشر الكرمي عدة كتب ومعاجم متقنة، ولم يغفل عن تدوين سيرته الذاتية قبل وفاته بأقل من عقدين، علمًا أن الكرمي توفي في شهر مايو عام (2007م)، بعد أن تجاوز عمره مئة عام وهو ممتع بذاكرته وقدراته العلمية، وأما ميلاده فمحتلف فيه بين أعوام (1902 و1905 و 1906م).
لقد كان هذا البرنامج الإذاعي متميزًا للغاية، حتى أن الإذاعة البريطانية أعادت بث حلقاته حين توقف البرنامج، ومن مزاياه ما وهبه الله للكرمي من طريقة عرض وإلقاء آسرة، تجمع الفخامة مع اللطافة والجاذبية، والعمق مع الوضوح ورغبة المستمع في المزيد دونما ملل، ويزين ذلك إهاب من تواضع الكرمي، وقول لا أدري، ونسبة العلم لأهله. ثمّ إن من يطالع الفهارس في ختام كل جزء من هذه المعلمة ليوقن بغزارة مادتها ولذاذة مائدتها، من كثرة الأشعار والشعراء والكتب والمواضع وبلدان السائلين والكلمات والأمثال والكتب والمذاهب وغيرها، وهذه الفهارس كفيلة بجعل هذا الكتاب مقنعًا للاقتناء، دافعًا للقراءة، بل والإقبال عليه بنهم، والله يرحم أبوي، والكرمي، وكل مسلم ومسلمة، ومن يقرأ ويؤمن.
الرياض- الأربعاء 29 من شهرِ رجب عام 1446
29 من شهر يناير عام 2025م
4 Comments
غفر الله لوالديك وأسكنهم فسيح جناته.. من كان لك أباً بمثله لا عجب أن يكون له إبناً اسمه “أحمد”، مثله بهذه الثقافة والأناقة الفكرية، تشتد أجنحتك بهذه الذاكرة التي تغوص بمساحات من التفاصيل التربوية الملهمة، فرادتك وتميزك ليس على صعيد الأخلاق فقط كاتبنا العزيز وإنما حتى من كل جوانب تعاملاتك الإنسانية مع الجميع، من بعد هذه المقالة التي انشقت من ذاكرة الطفولة أيقنت أن وراها رجل عظيم أنجب لنا مثلك.. بشغف لمقالات أخرى مُلهمة ..
شكرا لكم كاتبنا
مقالك جدا جميل
الله ذكريات
سلمت يمناك🙋🏻
التهمت المقال في ثلاث دقائق بلذاذة القراءة الماتعة😋