عرف الناس فيما مضى الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان دبلوماسيًا وسفيرًا ووزيرًا ثمّ أمينًا عامًا لمنظمة إقليمية، وبهذه المعرفة تشاركت الأجيال الجديدة مع من سبقها حينما تناهى إلى علمها دفعات متوالية من أخبار تلو أخبار عن الشيخ جميل عبر مقالات، ولقاءات مرئية، واحتفالات، وتغريدات؛ فصار الشيخ علمًا لدى شريحة واسعة من أجيال السعودية شيبًا وكهولًا وشبابًا؛ بل تجاوز ذلك إلى المحيط العربي القريب والبعيد عقب إصدار مذكراته في جزءين، وهي من درر ما نشر في باب السير الذاتية سعوديًا وعربيًا.
لكن للشيخ جميل ولشخصيته المقتبسة من اسمه المعنى في المنظر والمخبر جوانب أخرى ربما تغيب أو تعشى عنها البصائر تحت أضواء المناصب، وبريق المسميات. من هذه الجوانب أن الشيخ جميل كاتب وشاعر وإن طغت عليه الكتابة وانتصرت على القافية فيما بعد. وللكتابة مع الشيخ جميل قصة جديرة بأن تروى وأن تُدرس؛ إذ كتب الشيخ غير سيرته عددًا من المقالات دون المئة، وبعض القصص، وهي من المحتوى القائم بذاته لمن شاء فحصه واستخراج كنوزه سواء في حقول أدبية، أو في مجال التحليل السياسي.
امتازت كتابة الشيخ جميل بالسلامة النحوية الباهرة، وبالتحول السلس من فقرة لأخرى، أو من فكرة لأختها، دون أن يشعر القارئ بأن الكلام فيه إبهام أو سقط؛ لمتانة الصنعة، ووضوح العبارة، ذلكم الوضوح الذي حرم منه بعض الكتّاب إن قصدًا أو عجزًا، وإنما تكمن عظمة الكتابة في الوضوح؛ فأي تأثير للمبهمات، وأي جدوى لما لا يُفهم؟! ومما يستبين في كتابات الحجيلان التوفيق لاختيار العنوان، فحينما كتب مقالًا عنوانه “لسنا أشرارًا” سلب العنوان الألباب قبل المضمون القوي المقنع. وفيما كتبه أبو عماد ظهور جلي لقدرات سردية وروائية لم يكتب لها الفرصة لتأليف رواية كاملة، ولدى قلمه قدرة على التصوير الدقيق، والطرح الماتع، فيأخذان القارئ إلى الحدث حتى لكأنه يعيشه، ويمسكان بالناظر فلا يجرؤ على مغادرة النص دون إكمال سواء كان السياق عما ندّ ونفر، أو حول حكاية مرض، أو ضيق، أو ورطة!
إن الشيخ جميل أديب متفنن، وهبه الله القدرة على تحسس مواطن الجمال، وإدراك مواضع الفن ما ظهر منه وما بطن؛ فكان قلمه قلم فنان بالكتابة نثرًا وشعرًا، وبرزت ذائقته الفنية في اختيار عناوين مقالاته وبرامج إذاعية وتلفازية. كما أن سمعه مرهف للفن؛ حذر في اللغة، ولأجل هذا عرف ما يقدم وما يؤخر، واعترض على أصوات إذاعية، وأخطاء نحوية. وللشيخ عين مغرمة بتتبع الجمال مثلما يتبع الناس القطر والغيث، وفوق ذلك أعطاه ربه موهبة الإلقاء والثبات أمام الجمهور، وفوق المنصات، غير هيّاب ولا متلعثم أو لحان -اللحن هو الخطأ في النحو-. وبطريقة الأداء، وجهورية الصوت، وسلامة اللغة، وحسن السبك والتركيب، كسب الشيخ منذ شبابه الإعجاب الذي لازمه حتى وهو يخطو نحو المئة، والمعجبون زعماء وساسة وأدباء، إضافة إلى شباب غض بض. لقد ظفر الشيخ جميل بكونه وزير الإعلام الأول، كما استحق وصف الوزير الفنان بجوارحه ومواهبه وذائقته ومظهره.
كذلك يلفت النظر في شخصية الشيخ جميل وسيرته ملامح عملية مهمة، فهو صاحب مبادرة وابتداء وأوليات؛ وإنما تترهل الأعمال، وتتكلّس المشروعات إذا وقف على رأسها من يدير ولا يبتكر أو يجدد أو حتى يغامر بعد الحساب والتدبر. وتستلزم المبادرة الاستعداد لتحمل المسؤولية، وأن يقول المسؤول بثقة: أنا فعلت، وأنا أمرت، وأصبت وأخطأت، ولا يرضى بناء على ذلك بتصويب السهام نحو فريقه بتهم وشكوك. ويمكن أن نجد مبادرات الحجيلان واضحة في عمله الإعلامي والدبلوماسي، وسيرته شاهد صدق ومعاصرة على ما تركه من آثار ومنجزات.
ثمّ بعد المبادرة وتحمل المسؤولية نرى أنه يعلم علم اليقين ماذا يريد، وماذا يراد منه، ويتبع لهذه المزية أن يستقي التوجيه من مصدر واحد مهما كثر الآمرون، فيعي معنى الصمت وصرف النظر والتجاوز، مثلما يلتقط الإشارة العابرة، ويعرف مغزى العبارة الصريحة. إن المسؤول الذكي اللماح لمن خير الأعوان، وأبعدهم عن إشغال رئيسه وكثرة الورود عليه، ولا غرابة أن يضجر القائد من عامل معه مسرف في الاستئذان، مبتلى بالتردد، مصاب بعقدة الانتظار بعد استبانة الطريق.
وعقب الكتابة، والانحياز لكل جميل، وامتلاك الفن الراقي، والمنهجية العملية، يمكن إجالة النظر في مسيرة الشيخ الحجيلان في التأسيس والإدارة، فقد افتتح سفارة جديدة، وأشرف على تأسيس وزارة غير مسبوقة، وأعاد فتح سفارة مقفلة، وبث روح الحياة والحركة في أمانة هادئة، وله جولات من التفتيش، وصولات في الحجاج، ومداولات مع المعترضين على مسائل تخص بعض المواد الإعلامية، أو تغيير نظام الصحافة، أو التعاطي مع جرأة كاتب أو محتوى، وهذه من الزاويا التي يمكن استخلاص فوائدها من المذكرات المنشورة ومن غيرها.
هذه وقفات عجلى مع حكاية إنسان رافقته العناية الإلهية والتدبير الخفي في شؤون مهمة ولحظات فاصلة. هذه شذرات من خصال رجل أحب اللغة فأحبته وأسلمت له قيادها. هذه مقتطفات من صفات مسؤول انغمس في العمل وتعمق فيه لأنه قد وقر في وجدانه ألّا يقلّد، وأن يأتي بالفريد والسابق حتى يسلك غيره على آثار اختطها بنفسه. هذه قبسات من وهج رجل دولة آسر يفرض التوقير على من يتعامل معه وإن تخالفا. هذه لفتات من ومضات إعلامي خطف الأسماع والأبصار حين خاطب الناس على اختلافهم عبر منصة أو شاشة، وفيهم من ولد وشب ورشد دون أن يعرف شيئًا عن الأديب القانوني المتفنن، والوزير السفير الأمين، الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان.
الرياض- الاثنين 13 من شهرِ رجب عام 1446
13 من شهر يناير عام 2025م