عام

أبناء يوسف الغنيم ومغانم شتى!

قبل أزيد من عشرين عامًا، شُغلت بالبحث والقراءة عن تاريخ الكويت العزيزة، وسير بعض أعلامها. لفتت نظري ملاحظة عابرة، يصعب بناء حكم عليها، أو تعميمها، لكنها قد تصلح مدخلًا لدراسة علاقة الأسماء بالمكان إن كان بينهما علاقة! خلاصة هذه الملاحظة أن تاريخ الكويت في العلم، والقضاء، والزعامة المجتمعية، والتجارة، والغوص، يحتفظ برجال يحملون اسم “يوسف”، بل حتى في إدخال “الشاي” أو بعض أنواعه إلى الكويت! من حينها يستوقفني أي كويتي اسمه “يوسف”، فأتأمل الخير منه وفيه، ولا أجزم!

هذه الخيرية وجدتها جليّة في الشيخ يوسف بن غنيم بن سليمان الغنيم رحمه الله، المنتمي لأسرة كويتية قديمة، وهو ممن عمل في التجارة البحرية ثمّ البرية، وكان من توفيق الله له أن ساقه إلى بيت آل الجراح فأصهر إليهم متزوجًا بابنتهم آمنة بنت سليمان الجراح -رحمها الله-. ولم يكتف الشيخ يوسف بهذا القدر من التوفيق؛ إذ أحسن تربية أنجاله، وألحقهم بالمدارس بأنواعها، وحرص على التصاقهم بالقرآن الكريم، واللغة العربية، وحضور المجالس، وعلى أن يتعرفوا إلى الجديد وشؤون المجتمع، ولو أن يحمل بعضهم فوق كتفيه ليشاهدوا، وتتسع آفاقهم.

وقد رزق يوسف الغنيم، وزوجه آمنة الجراح، بثلاثة أولاد هم: يعقوب، ومرزوق، وعبدالله. عاش الأشقاء الثلاثة في كنف والديهم داخل بيت مسلم مؤمن تحفه السكينة، وتغشاه الرحمة، وتسوسه حكمة الأب وحرص الأم، حتى في تلقين الأبناء دقائق الأمور، وتربيتهم على الفضائل صغيرها وكبيرها. وكان من البركة المرتبطة بهذه الدار أن الأبناء الثلاثة عاصروا أخوالهم وساكنوهم واقتبسوا من معينهم، فأخذوا عن الشيخ محمد الجراح الفقيه الكبير فقهه وعلومه الشرعية، وأخذوا عن أخوالهم داوود، وإبراهيم، وصالح، تضلّعهم الأدبي، وبراعتهم الشعرية، فحاز الأبناء من خلال ركني البيت ومن اتصل بهما علوم الدين والدنيا معًا، فبرعت قرائحهم، وانطلقت بالفصاحة ألسنتهم، مع التؤدة والهدوء.

لذلك ليس بمستغرب أن يشترك الإخوة الثلاثة بعلو الكعب في التحصيل العلمي، وأن يكون لهم نصيب من أداء رسالة التعليم العام والعالي، مع حظ غير قليل من قيادة مؤسسات تربوية وتعليمية، وإنشاء كيانات أو تطويرها، إضافة إلى نصيب وافر من العضويات، والجوائز، والاستضافات، والندوات، ويد طولى في الدفاع عن العربية، ومد حبال الصلة مع علماء كبار خارج الكويت، مثل العلامة محمود شاكر، والعلامة حمد الجاسر، رحمهما الله. كما أعاد الأشقاء الرونق العلمي للمناصب، وجددوا لنا سير الوزراء والكبراء ورجال الدولة من العلماء، وأصحاب الأقلام الصائبة، والأفهام السابقة، والمروءة الظاهرة.

امتاز أ.د.يعقوب بن يوسف الغنيم فوق ذلك كله بالعناية بالتاريخ وتاريخ الكويت على وجه أخص، وله في هذ الحقل المهم مؤلفات وآراء، بينما تركزت جهود شقيقه أ.د.مرزوق على تعريب المصطلحات الطبية، والنشاط الهميم في هذا المجال، وما أعظم الحاجة إليه، وأشدّ الرزء بفقده؛ ذلك أن تلّقي أي علم بغير لسان أهله ليس فيه كبير جدوى! وبعد التاريخ واللغة جاءت عناية شقيقهما أ.د.عبدالله بعلم البلدان برًا وبحرًا، وبنباتات صحرائنا، ومواضعها من أودية وهضاب فما دونهما، وحصر الأحداث الكونية المرتبطة بمنطقتنا مثل الزلازل، حتى يستعيد علم البلدان أهميته الإستراتيجية، ويحتل مكانه المهم في مكتبتنا، قبل أن تقضي عليه مناهج مادة “الجغرافيا”، وتودي به طرق عرضها للطلبة جافة منفرة.

كذلك فتح الله على الإخوة الثلاثة بالتأليف، والإشراف على الرسائل الجامعية، وكتابة الأبحاث والدراسات، واقتراحها أو مراجعتها مثلما يصنع أ.د.عبدالله في مركز البحوث والدراسات الكويتية الذي أسس لحفظ الوثائق الكويتية، ونشر تاريخ الكويت، وسير أشخاصها وأسرها بناء على أصول علمية معتبرة، مع الجدية في النشر الورقي والإلكتروني، وتتبع أي شيء يخدم هذا الموضوع.

ومن هذا الجنس أن سطّر أ.د.يعقوب طرفًا من سيرته في كتابه: “همس الذكريات”، ودوّن أ.د.مرزوق حياته في كتاب بعنوان: “الماضي على الورق”، وألقى أ.د.عبدالله قبل سنوات ورقة عن سيرته في حفل تكريمه بديوانية عبدالمقصود خوجة -رحمه الله-، والورقة قديمة تحتاج لتحديث وتوسيع، خاصة بعد اختياره ليكون الشخصية المكرمة في معرض الكويت الفائت للكتاب. ومما لا يخفى أن الشقيقين أ.د.يعقوب وَ أ.د.عبدالله قد تعاقبا على وزارة التربية الكويتية، فكانا وزيرين لها في أجزاء من عشر الثمانينات وأوائل التسعينات الميلادية.

إن هذا التشابه بين الأشقاء الثلاثة في العلم، والعمل، ومنهج التعامل مع الثوابت والحياة، ليؤكد أننا أمام أسرة عريقة الجذور، كريمة الأصول، عظيمة الفلاح في التربية والتوجيه. ولا ريب لدي أنه مع بذل الأسباب، وزرع الجدية منذ الصغر فيهم؛ حتى أصدر أكبرهم “صحيفة” منزلية ربما تكون غير مسبوقة، فإن لدعاء الأم والأب لهم بالصلاح وحسن العاقبة أثر كبير عليهم، ومثله فيما هداهم الله إليه من البر والصلة وفعل المعروف أثر كذلك، ومن المؤكد أن لهذه المكارم أخوات وأخوات، إن خفيت عن البعيد أو الغافل، فلن تخطئها عين بصير، أو عقل متدبر.

ghonaim

اللهم احفظ عبدك يعقوب حتى يعقّب لنا المزيد من الإنتاج الرصين. اللهم ارزق عبدك مرزوق البركة ليواصل جهاده التعريبي المثمر ولو بعد حين. اللهم سدّد عبدك عبدالله في عمله الرسمي والشخصي كي لا يكون في علم البلدان ثلمة. وإنهم لماضون على رشد في هذا المضمار، ويقضون أجمل الأوقات مع الكتاب والقلم، وفي المدارسة والمباحثة العلمية. وفقهم الله، وزادهم تماسكًا وألفة، وغفر للوالدة آمنة وجعلها في مثواها آمنة، وغفر للوالد يوسف، وجعله منعمًا في قبره، وجمعنا بهم في دار كرامته، ومستقر رحمته.

 @ahmalassaf

الرياض- ليلة الجمعة 19 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1446

20 من شهر ديسمبر عام 2024م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)