عظيم ذلكم الإنسان الذي تتعلّم منه دون أن يتفوه بكلمة، أو يتكلّف ما يعاند سجيته، وهذا من أهم ما تعلمته من الشاعر الوجيه عبدالعزيز بن سعود البابطين (1355-1445=1936-2023م) -رحمه الله- سواء في محياه أو بعد مماته. إن بعض الناس ليجتهدون في موالاة الحديث وتنميقه وسوقه على هيئة توجيهات، وربما تجاوز الأمر إلى استئجار من يتكلم عنه، ويشيد بحكمته وخبرته، لكنهم مع ذلك لا يجدون تابعًا إلّا إن تكن المتابعة لغرض زائل لا يبقى، لكن الشيح صار قدوة لغيره بما صنع، وبما خلّف، وبما ابتدأ به أو انتهى إليه.
كما تعلمت من أستاذنا الراحل أن ارتباط المرء بالمعاني الشريفة الخالدة، يرزقه الخلود المشرف، والذكر الحسن. لقد ارتبط جلّ الناس بمسألة أو شأن، ولن يخلد منهم باعتزاز وسمو إلّا من كانت حياته وثيقة العُرى بما يبقى مثل علوم الديانة والتاريخ واللغة، وخدمة البلاد والمجتمعات، وهو الباب الذي دلف منه الشيخ البابطين إلى حيز فيه أقوام استحقوا أن تعرفهم الأجيال الآتية بما أسلفوه من أعمال مرجعية موفقة؛ فالمعاني الشريفة طيبة الأعراق، شريفة الأنساب، تنفع أهلها أحياء وأمواتًا.
وتعلّمت من أبي سعود أن الفرد الواحد قادر على أن يحوز من المآثر ما تتعب في بلوغه المؤسسات، وما يُجهدُ فئامًا من الناس. إن بعض الأفراد لحجة من الله لا على أفراد مثلهم فقط، وإنما على مجموعات بشرية، وكيانات مؤسسية، ومشروعات مرعية، وهذه بركة مضاعفة يطرحها الله في بعض عباده، وإن خير الناس لأنفعهم للناس. هذا التفرد لم يتمحور حول الذات، وإنما جعل من كل منن الرب عليه جسرًا لعون مجتمعاته القريبة دوائرها والبعيدة، التي عاصرها، أو ستجيء بعد حين، وما أكمل المرء الذي يحفر المجرى السالك المبارك للسائرين خلفه في مسعى جميل مؤثر.
كذلك علمني الشيخ عبدالعزيز أهمية العمل المؤسسي، المنظم، الموقوف عليه؛ فيجتمع فيه حسن الإدارة، وكفاية المال، ووضوح الرؤية، ودقة اختيار القائمين به وعليه. وعلمني أيضًا أن مؤسسية العمل لا تتنافى مع توريثه خاصة للذرية بعد الاجتهاد في التربية والتوجيه؛ فالتعاقب سمة من سمات العراقة والثبات. وعلمت أن الأسر العريقة تحتفظ أمشاجها بالخصال الحميدة الطيبة، فيحملها جيل عن جيل، وطبقة عن طبقة، حتى تظلّ صنائع المعروف الخيرية حاضرة فيهم، حية بينهم، يتداولونها بعناية الحريص عليها المشفق من فقدها، وهذا عين مافعله أولاده الكرام وعلى رأسهم الأستاذ سعود وأشقاؤه وشقيقاته، الذين مضوا قدمًا بأعمال المؤسسة الثقافية، ولم يتخلوا عنها، لأنه جزء مهم من حياة والدهم وعنايته.
وعلمت منه دون أن يخبرني أن النية الطيبة سر كبير من أسرار الاستمرار والتأثير، وأن الجزاء من جنس العمل حتى في الدنيا؛ فالرجل الذى آوى الشعر وديوان العرب، ونصر الأدب واللغة والشيم، بادلته هي حبًا بحب، ونصرة بنصرة، حتى جادت القرائح، وفاضت الآداب، تأثرًا برحيله، وثناء على مسيرته، وتزكية لمنجزاته. لقد كانت الكلمة العربية الأصلية أحد أهم محاور مشروع البابطين الثقافي، وها هي الكلمة تنتصب مرة أخرى تحمل لواء تبجيل يستأهله، وترفع راية تمجيد ليس بكثير عليه.
وأخبرني أبو سعود دون أن أسمع منه لفظًا أو أقرأ له كلمة بهذا الخصوص الذي أخبرني عنه، وإنما بالملاحظة والتأمل، وخلاصة هذا الخبر أن القائد يمضي حتى لو لم يسبقه أحد، وإن لم يلحقه أحد خاصة أول الأمر، وفي النهاية سيغدو إمامًا يتقدم ويُتبع ويرشد. وأخبرني أن العوائق مهما تعاظمت فمآلها إلى تلاشٍ بزوال أو ضعف إذا واجهها عزم وصبر، حتى يختط الإنسان دربًا منيرًا بعد معالجة عناء التدبير والشروع دون انتظار تأييد. وأخبرني أن الإنسان يستطيع تجاوز حدود الزمان والمكان والحضارة، دون أن يجرح ثقافته، أو يتطامن لأحد، وأن العزة لا تتناقض مع التعاون وتبادل المنافع.
ومن أجلّ ما تعلمته من رمزنا الغائب -أنار الله مرقده- أننا أمة عريقة وفيّة لأسلافها ولأهل الإحسان والمروءة من أناسها، وأن الإعجاب اللحظي بذوي مواهب ومفاتن يتطاير مثل دخان محتقر، ويستقر بثبات التوقير لذوي المكارم والمفاخر؛ فلا يحول ولا يطرأ عليه شيء حتى لو ابتعدنا عن عصور الأصول والأصالة قليلًا؛ ذلك أن إليها المآب والمأرز. كما تعلّمت علمًا رفيعًا مختصره أننا نحن البشر على ما فينا من اختلافات وأمزجة وأفكار ومصالح، يمكن أن نجتمع حول أشخاص وأفكار لها القبول، والمرجعية، ومنها يمكن ابتداء تقريب الآراء، والدنو من الوحدة أو الالتصاق بالقواسم المشتركة على أقل تقدير، وما أكثرها.
مجموع ما مضى اثنا عشر أمرًا مهمًا تعلمتها من الوجيه الشاعر الراحل عبدالعزيز بن سعود البابطين رحمه الله، وتحت كل واحد منها يمكن الكتابة والتوسع باستقراء المواقف والمآثر والروايات وما أغزرها وأعبقها. وقد تواردت عليّ هذه الأفكار حينما حللت بأرض الكويت الغالية للمشاركة في الدورة التاسعة عشرة لتوزيع جائزة عبدالعزيز البابطين الثقافية المقامة بين يومي 15-17 ديسمبر عام 2024م، وستكون الدورة مخصصة للشاعر عبدالعزيز بن سعود البابطين، في الذكرى السنوية الأولى لرحيله المفاجئ، غفر الله له.
الكويت- ليلة الأحد 14 من شهرِ جمادى الآخرة عام 1446
15 من شهر ديسمبرعام 2024م