سير وأعلام قراءة وكتابة

ماهي معايير كتابة سير الشخصيات العامة؟

في كل مجتمع، يوجد شخصيات عامة، ما بين أناس، وكيانات، وأعمال، ومشروعات. لهذه الأسماء قصص وحكايات جديرة بأن تُروى للفائدة والعبرة. هذه الكتابة قد تكون من صاحب السيرة نفسه، أو على يد آخرين، وربما تكون مشتركة بين صاحبها وآخرين من الشهود على تلك المسيرة. عملية الكتابة هذه في تزايد مستمر؛ لحفظ التاريخ، أو توضيح الحقائق، أو الدفاع عن المواقف، أو غير ذلك من فوائد الكتابة السيرية والتاريخية. لقد أصبحت الكتابة السيرية صنعة لها كتابها ونقادها ودارسوها وناشروها، ولها جمهرة من المتذوقين والمتابعين.

لكن كتابة الحياة، وتوثيق مسيرة الكيانات والمشروعات، تتعرض إلى إشكالية طالما عبّر عنها الكتّاب، وربما أنها كانت أحد أسباب العزوف عن التدوين، أو الإحجام عن التفصيل فيه. هذه الإشكالية هي ما الذي يمكن أن يكتب، وما هو الذي لا يجوز أن يكتب؟ قال بعضهم بناء على ذلك: ما أعرفه يمتنع أن أذيعه، وما يمكن نشره لا فائدة كبيرة ترجى منه! بينما اجتهد آخرون وطبعوا مؤلفاتهم بعد الكتابة حين جزموا أن نصوصهم لا خطر منها. ينبني على هذه المعضلة سؤال مفصلي: ما هو معيار الشيء القابل للإشاعة في كتابة السير، ومعيار الشيء الواجب حجبه؟ وهل يمكن الركون إلى الأطر المعروفة، وسمت المجال العام فقط؟

هذه المعايير غير موجودة فيما أعلم، ولأنها غير موجودة فقد امتنع عدد من الشخصيات العامة عن خوض هذه التجربة، وتوقف بعضهم في منتصف الطريق، بينما أتلف آخرون المنتج بعد تمامه! إن غياب المعايير ليس له اعتبار كبير في الميدان الثقافي؛ لأن استمرار النشر وكثرته، يثري حقل التأليف والكتابة، ويمتع القارئ والمتابع، حتى أن المثقف يحب هذا الغياب، ويخشى من سطوة الحضور! لكن هذا الغياب قد يزعج الأطر الرسمية، وربما نجم عنه إشكالات في الفسح، أو السحب بعد فسح، أو اقتراح التعديلات. هذه التحفظات مفهومة خاصة لو انطلقت من معايير واضحة معلنة.

غياب هذه المعايير مفهوم أيضًا؛ لتوسيع مدى السلطة التقديرية، التي قد تجيز اليوم ما تمنعه غدًا، أو ترفض من الثاني ما سبق أن رضيت به من الأول. هذا الغياب يرهق أصحاب التجارب والمناصب والأهمية، ففيهم من يرغب بالبوح من ناحية، ويخشى من اختراق الحواجز من ناحية أخرى، مع أن بعض الحواجز والسقف متخيلة لا وجود لها. هذا الغياب دفع عددًا منهم لتسجيل ذكرياته، والإبقاء عليها حبيسة إلى أن يأتي أمر الله وأجله المسمى لكل حي.

مع ذلك فلا بأس بشيء من الاجتهاد حول هذه الافتراضات المعيارية التي قد تعين الداخل إلى هذه الساحة، السائح في هذه المساحة، ممن رام الكتابة أو القراءة أو غيرهما، وهو في النهاية محض اجتهاد لا يلزم أحدًا، كما أنه قابل للتغيير والتطوير أيضًا. هذه الاجتهادات حصيلة قراءة، ونقاش، وتأمل، وعسى أن تكون مما يعين الراغبين لتجربة هذا الميدان الكتابي المريح للنفس والخاطر؛ حتى لكأن المرء يلقي عن كاهله حملًا ثقيلًا عندما يسير مداد قلمه رعاية للحقيقة وأمانة التاريخ.

من المعايير المهمة أن تخلو الكتابة من أي شيء قد يضر بالأمن القومي، ومصالح الوطن. لأجل هذه المعايير تمتنع المحفوظات الوطنية في كثير من البلدان عن نشر أي وثائق أو أسرار إلّا بعد مضي زمن تنتفي أي خطورة من إتاحة تلكم الوثائق والمستندات التي أصبحت من حق الدارسين والتاريخ، ولا يخشى منها شيء البتة. هذا المعيار استلزم وجود أنظمة لمعاقبة من يفشي وثائق سرية، وبني عليها تحديد مدى معين لرفع السرية؛ فهو في بعض البلدان مقيد بسنوات تصل إلى ثلاثين أو خمسين، وفي بلاد أخرى مقسم على فئات، كل فئة تتاح بعد خمسة وعشرين عامًا أو أضعافها مع وجود استثناءات مبينة.

كذلك من المعايير المهمة ضرورة حجب أي معلومة أبرمت حولها اتفاقيات سارية تمنع الإفصاح، أو جرى العرف بذلك؛ فالسر النووي مثلًا مما لا يُكتب عنه علانية، ومثلها بعض الأعمال الاستخباراتية، وخفايا المشروعات التجارية حتى لو كانت مجرد خلطة لمأكل أو مشرب. هذه الاعتبارات قائمة حتى لو لم تك مكتوبة، وفي أحيان كثيرة يُنص عليها في عقود الشراكة والعمل، ومخالفتها سبب وجيه للمقاضاة.

كما أن أي كتابة من شأنها بعث النعرات من مرقدها، أو تحريك الخامد المستكن من الثارات، أو بثّ الفتن، هي كتابة مرفوضة، وشرورها بالجملة أعظم من حسناتها إن كان لها حسنات. من الواجب أن يراعي الكاتب ذلك بدقة وحذر، ويفاضل بين الخير والشر، وبين خير وخير، وشر وآخر. قد يتداخل مع هذا المعيار الكتابة التشهيرية وإن كانت بدرجة أقل؛ لأن المشهر به يستطيع مساءلة الكاتب ومحاكمته.

الفرق بينهما أن التشهير يخصُّ في الغالب طرفًا واحدًا أو أطرافًا معدودة، بينما الصورة الأولى تمسّ السلم المجتمعي، وتشمل كتلة من الناس يجمعها روابط شبكية، وسلاسل من العلاقات، مما يزيد في الخطورة والحرج. كما أن التشهير يختلف بين شخص غير ذي بال كبير، وشخص عام، أو تحتاجه جلّ فئات المجتمع، أو له رمزيته التعبيرية، مع بقاء الحق للمتضرر أيًا كانت صفته، ومقدار الضرر، بطلب التعويض.

ومما يتكرر السؤال عنه مسألة الاعتراف والسيرة الذاتية! فهل يجب على كاتب السيرة أن يعترف فيها بشيء؟ وإذا خلت السيرة من الاعترافات هل تؤول إلى البرود، وتفقد البهجة والمتعة، وتزول منها الإثارة والتشويق؛ فلا يلهث القارئ خلفها مهما كانت ثرية راقية؟ وهل للاعترافات ضوابط وأسوار؟ هذا موضع للخوض واختلاف الآراء، وقد لا نصل إلى نتيجة حاسمة عنه!

فبينما يقول الشيخ والأديب السوري علي الطنطاوي -رحمه الله-: “مقارفة المنكر جريمة أخلاقية، والحديث عن مقارفته، ووصف الوقوع فيه جريمة أكبر منه”، يرى الأكاديمي والكاتب العراقي المتخصص في السرد د.عبدالله إبراهيم أن من واجب كاتب السيرة “طرق باب المنطقة السريّة في حياة صاحبها وإلا فسوف تفقد جزءًا كبيرًا من وظيفتها وذلك هو الجزء الجوهري في كل كتابة ذاتية”. هذه المنطقة السرية في حياة الكاتب وتكوينه مهمة في فهمه، وليس بالضرورة أن تكون دومًا من العار أو والغة في المحظورات، وهذا هو مقصود د.عبدالله في الغالب. بالمناسبة للرجلين الأديبين ذكريات وسيرة منشورة حقيقة بالنظر، وبالجملة فالابتعاد عن المحرمات في الكتابة من المكرمات والحسنات في الدنيا والآخرة، وليس حسنًا أن يدخل المرء إلى عالم الأدب من باب قلة الأدب؛ حتى لو جعل في نصوصه مقدارًا من الاعترافات.

إن المكاشفة في السير الذاتية، والكشف في السير الغيرية، مما يمنحهما حيوية وخصوبة. ليس بالضرورة أن يكون الكشف عما يسوء كما قد يتبادر للذهن؛ فمدى الكشوفات واسع للغاية. وعلى أي حال فهذه الكتابة الكاشفة فن من فنون معالجة الحكاية والرواية، فربما سطر الكاتب الماهر من جمله البديعة، وفقراته المتماسكة، ونصوصه المتقنة، معاني وإشارات غير منظورة يدركها النبيه والفطن. أعان الله جميع من سيكتب سيرته من الأكابر أو يكتب عنهم؛ لأنه حقًا سيقع في مأزق بين الممنوع والمسموح، والبقاء في منطقة محايدة قد لا يرضيه، أو يسكب على النص برودة وثقلًا. هي حقًا مسألة محيرة، والحل الأنجع لها هو الاستخارة والاستشارة، ثم الاستعانة بالله، وبسم الله، وعلى بركته تكون البداية!

ahmalassaf@

الرياض- الأحد 29 من شهرِ جمادى الأولى عام 1446

01 من شهر  ديسمبر عام 2024م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. لفتة متميزة وملامسة دقيقة منك في غاية الأهمية لموضوع شهد تحولات عديدة، على مستوى الرؤية وغايات السرد، موضوع التراجم والسير في التراث العربي هو أكثر توسعا وأغنى وأوسع من مذخور التراث لدى الغرب، وهذه حقيقة تحتاج توقف؛ السيرة الذاتية والغيرية إن لم يكن فيها ما يضيف للعلم والمعرفة او التأريخ شيئا جديداً، او يجلو لبساً، او يحقق مسألة،فإنه لا يعدو أن يكون نوع من التقرب الذي يلتمس فيه الزلفى والشفاعة لمن كتبت السيرة عنه، اما اصدق معايير السير-بالنسبة للأخلاق- وأبقاها وأنقاها ما كان يخلو من حظوظ النفس ومحاولة الانتقام والتشهير بالآخرين دون وجه حق، من يفعل ذلك فقد حُرم مروة الكرام، كان ياقوت الحموي في منهجه في التراجم لمعاصريه او حتى لمن سبقوه ، مثال للمؤرخ العفيف الذي يمر مرور الكرام على ضعف الناس، ومباذلهم وخواص شؤونهم، وما عرف عنه أنه وقع على عيب لرجل أو حاول إظهاره، ولو اضطرّه قول الحقيقة عن شخص فإنه يستخدم صيغة البناء للمجهول مع عدم التجريح به..
    كل التقدير كاتبنا الأنيق لهذا الطرح البديع..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)