سير وأعلام

عبدالرحمن الجريسي وبيت الحكمة

عبدالرحمن بن علي الجريسي اسم لامع في الاقتصاد السعودي. هو اسم استوثقت صلاته بالتجارة في مجالات كان من أشهرها “بيت الرياض” الاسم البارز في التأثيث المكتبي. ثم ارتبط هذا الاسم الكريم بالغرف التجارية إن في الرياض أو في المملكة كلها. هذه العلاقة المتينة جعلت الشيخ على قوائم الأثرياء ورجال الأعمال، وهي منزلة يستحقها، بيد أن له مكانة عليّة أخرى، وموضعًا سنيًا لا مناص من بيانه. إن لعبدالرحمن الجريسي حكاية تتجاوز بيت الرياض إلى بيت من الحكمة. إن لعبدالرحمن الجريسي قصة لا ترتبط بغرفة واحدة، وإنما بمباني باسقة فوق ذرى التجارة والإدارة والمجتمع والتربية.

عرف الجريسي اليتم قبل أن يبلغ سن الفطام، فرعته جدته لأبيه وبعدها تولى شأنه أحد أعمامه. هاهنا لفتة خلاصتها أن كل يتيم حكمًا أو حقيقة ليس عرضة للضياع والاندثار، ذلك أن التدبير رباني غيبي، والله خير حافظًا مع بذل الأسباب. يؤكد هذا الملمح أن جمعًا من أكابر الناس في زماننا عانوا في أول أمرهم من نكد الحياة، ومشاقها، وتصارعوا مع لأوائها قبل بضعة عقود من الآن. وربما لو كشفت لنا صفحة الغيب الآتي؛ لرأينا في نخب المئة عام القادمة أسماء جديدة، لم تظهر على الدنيا وفي فمها أي ملعقة، مقابل اختفاء من ولدوا محاطين بالذهب والفضة، لا مجرد ملعقة مركوزة في الأفواه!

سوف تكتمل هذه الحكمة اللافتة حين نعلم أن الطفل الصغير الذي فقد والده بوفاته الباكرة، وغابت عنه والدته بزواجها، قد رزق بأسرة لها به عناية، تحيطه بالرعاية، تحصنه بالتربية، تحفزه بالمسؤولية، تحثه على اغتنام المقدور عليه من الفرص، تذكره بإمارة سابقيه، وتخبره عن مآثر أسرته في البلدة النجدية الجميلة. هذا الملحظ يقودنا إلى تعظيم شأن الأسرة الممتدة التي تتجاوز حدود الأبوين والأخوة. الأسرة هذا المعنى الجميل الذي يكاد أن يغرق مع طوفان الدنيا، ومشكلاتها، وصغائرها المعظمة، لا بد أن يستنقذ من هذه البراثن. هذا المعنى السامي الذي يتلاشى كلما ضمرت الالتزامات الحقيقية للرجل والمرأة، وللعائلة، وللأسرة والحمولة، لا مفر من إنعاشه. إن الأسر العريقة لتولي أجيالها وأنجالها الكثير من الاهتمام المعنوي والمادي، وإن وجود العراقة في المجتمع لمن عوامل الحفظ والسكون والنماء.

ثم اجتمعت في شخصية الفتى عبدالرحمن الجريسي جديتان ليس بينهما تعارض: جدية العمل، وجدية التعلّم. فنال من العلم ما يساعده على شؤون حياته آنذاك وبه يُكتفى. واتخذ من العمل فرصة تطبيقية للفهم، ومعاركة الحياة، واكتساب الخبرة التي لا يجنيها المرء مهما اجتهد من درس أو كتاب. لقد كانت حياة عملية مرهقة للغاية، إن في طبيعتها، أو عدد ساعاتها، ومقدار أجرتها، أو فيما يكتنفها من منافسة، لكنها الجدية الجريسية التي تأبى الخمول والكسل، وقد كان الكسل، ولايزال، وسيظل، بئس القعيد عن المكارم والمحاسن والمفاخر.

فاكتسب الجريسي الشاب من نعمة الجدية فضيلة الإصرار، هذا الإصرار الذي صاحبه طوال مشواره الطويل المضني، فلم تنكسر له عزيمة، ولم تلن له إرادة. إن النكوص بمجرد انغلاق الباب الأول لمصيبة يُبتلى بها كثير من حديثي التجربة، ولو وضع أحدهم يده على الباب فربما انفتح له، ولو تلفت هنا أو هناك فسوف يجد أبوابًا مشرعة، أو أخرى تنتظر من يلج منها بعد فتحها اليسير، وكم ترك الأول للآخر. إن الاستمرار مع التركيز لمن أسس التفوق وأسباب حصد الثمرة، وإن الهوى لمثبط ماهر بصنع المعاذير، واختلاق مسوغات النكوص، وهو مالم يقع الشيخ عبدالرحمن في حبائله الجارحة البتة.

من هذه الجدية أنه حين وقَّع على أول عقد حكومي له مع وزارة المعارف، سافر بنفسه إلى إيطاليا، وواظب على الحضور يوميًا لمدة ثلاثة أشهر في مصنع الأثاث. صار معهم مثل المدير والمحاسب ومسؤول الجودة والعامل. اكتسب من هذه الفرصة المعرفة بالصنعة، والبصر بخفاياها. نقل الخبرة لبلاده ومواطنيه. فَتحت له أبواب فرص تجارية أخرى. ازدادت مهاراته بالصناعة والإدارة والشحن والتأمين. التقط لغة الطليان النادر إجادتها وغيرها من لغىً في مجايليه، وله مع اللغة قصة عظيمة حينما تعلّم اللغة الإنجليزية على يد أكثر من مدرس، ولم يفوت أي فرصة لزيادة ألسنته بما يفيده ويريحه من ويلات الترجمة.

وخلال رحلة العمل والحياة، كان من حكمة الجريسي التزامه بالأمانة في حفظ العمل الموكل إليه، وأدائه على الوجه الأكمل. إن طيب المطعم سبب لإجابة الدعاء، وهذا الطيب يأتي من حسن الأداء والقضاء، وهو الذي عنه نغفل. ومن أمانته إرجاع النقود التي يجدها لصاحب المال الذي تعمد إلقاء الأموال في طريق الجريسي ليختبر بها أمانة الفتى، فوجدها أمانة أصيلة تراقب الله سرًا وعلانية. إن بثّ الفتن والمغريات بأصنافها، مع سهولة اقتناصها، ويسر الوصول إليها، لأصدق دليل على وجود المبادئ، ورسوخها، والثبات عليها؛ فقليل صابر مصابر، وكثير والغ بلا حساب، وبينهما متردد يرتع مرات ويرتدع مرة.

كما ظلّ الشيخ الجريسي وفيًا لمن تعلّم منهم من التجار، والعمال، والشركاء، والمسؤولين، يذكر إحسانهم، ولا ينكر معروفهم. كذلك من الوفاء الإشادة بمن وقفوا معه بالإقراض، والكفالة، والعون على ابتداء المشروعات التجارية. إن القرض الحسن، والشفاعة الحسنة، لمما تفتقده المجتمعات الموغلة بالمادية، وهما من صنائع المعروف، وأسباب بقاء الخيرية في المجتمع وأفراده، ومن قدر عليهما فبخل بهما دون سبب فقد قصّر وأساء. وحين تمكن الشيخ وارتقى لم يحتجز لنفسه المكانة ويقصي الآخرين عنها؛ فشهدت رئاسته للغرف التجارية توسيع آفاق المشاركة من قبل رجال الأعمال دون استثناء، ونقل أي معاناة منهم للحكومة، والمسارعة للاقتراح والمشاركة بتقييم الأنظمة والإجراءات.

ولا تخلو الحياة من منغصات، وأشواك. هذه طبيعة الدنيا ذات النكد والكدر. وقد واجه أبو علي تقلبات الناس وطبائعهم بالسماحة والتعاذر والتعاون، فاشترى نصيب الشريك الأول بثلاثة أضعاف المبلغ الذي اقترحه الشريك لو كان هو المشتري لا البائع! وأكاد أجزم أن كثيرًا ممن نالوا التوفيق نالوه بأسباب مادية ومعنوية بعد توفيق الرحمن، ومنها مثل هذه السماحة التي لا تقف تجادل عند وضع ما، وفي تجاوزه بأقل الخسائر خير كبير. هذه الميزة في التسامح لم تكن مقصورة على التجارة، ومع الأثرياء فقط، إذ حدثني أحد المشايخ أن سيارته تصادمت وهو شاب مع سيارة أحد أبناء الشيخ عبدالرحمن عام (1396=1976م)، وبعد أن ذهبا لمكتب الجريسي في البطحاء تكفّل بالإصلاح من فوره، وانتهى الأمر دونما جدل أو لجج.

ليست هذه فقط الحكمة المرجوة من مسيرة الشيخ عبدالرحمن الجريسي. فمن سيرته مواظبته على الصلاة وتبكيره إليها، ومن حفظ صلاته وأقامها استقامت حياته. منها أيضًا بره الشديد بوالدته حتى أنه كان يقتطع لزيارتها وقتًا مع كثرة أشغاله وسفراته، مع أنه لم يرتبط بها في طفولته كسائر الأولاد. منها جمال تربيته لأنجاله الذين برعوا في حقول عدة. ومنها ضبط نفسه في الإدارة والتوجيه والتفاعل؛ فلا تفلت منه كلمة لا تليق به، ولا ينجم عنه تصرف لا يلائمه. يضاف لذلك فعل المعروف المتنوع الظاهر والخفي، الفردي والمؤسسي، لبلدته “رغبة” في توصيل الكهرباء وترميم المعالم، ولغيرها. ومن أجلّ ما يشار له في هذه السطور، دفاعه الصادق عن بلاده، ودينه، وثقافة أمته وحضارته، بالحجة والواقع، وتأبيه على الرضوخ لتهم الآخرين، وإجلابهم علينا. لقد كان الشيخ عبدالرحمن حفيًا بأصوله التي تربى عليها ودرج، حريصًا على حمايتها من أن تثلم أو يساء فهمهما وعرضها. لقد كان الشيخ بمثابة رجل دولة كبير دون أن يكون ذا منصب رسمي.

منها أيضًا احتفائه الكبير بالشباب والمنافسين في دنيا الأعمال. إن العين الضيقة لتعمي صاحبها قبل غيره، وللجريسي نفس واسعة، وعين بالمسرات مشرقة؛ ولذلك عندما اقترح عليه معالي الأستاذ بدر العساكر في حدود عام (1423=2002م) تأسيس لجنة في الغرفة التجارية بالرياض خاصة بشباب الأعمال، لم يتأخر في الاستجابة مع أنه سمع المقترح من العساكر وهما في طائرة متجهة للصين، بل فعل وساند ولم يتجاهل الفكرة، وأصبحت اللجنة الشبابية بفكرتها الحديثة آنذاك قدوة للغرف الأخرى، وما أعظم أجر من سنّ الحسنة.

لم يكتف الجريسي بذلك ويلقي عبء اللجنة على غيره؛ بل كان أول المبادرين للحديث في منتدياتها عن تجربته بصراحة وانطلاق، ومن أوائل المؤازرين لها، وتأييد ملتقياتها السنوية. تلك الملتقيات النافعة الناقلة للتجارب والخبرات التي باركها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله وأمتع به- إبان إمارته للرياض، وذلل أمامها أي عقبة، كما أخبرني رئيس أول لجنة لشباب الأعمال المحامي محمد الأحمد الزامل.

إن تقدير المجتمع للشيخ عبدالرحمن بن علي الجريسي -حفظه الله-، المولود عام (١٣٥١=١٩٣٢م) في بلدة “رغبة” الواقعة ضمن إقليم المحمل شمال غرب الرياض، ومنحه الجوائز والأوسمة من الحكومة والمجتمع، والإسراع إليه للظفر بقبوله الشهادات والعضويات من الجامعات والكيانات المختلفة، وحرص الناس على الاستماع له، والنهل من تجربته، والاقتباس من حكمته ونصائحه، ونشر فوائده الجمة وفضائله المتوالية، لمما يحمد لمجتمعنا العريق جدًا، الذي يميز ويمحص، ويعي جيدًا ما الذي ينفع الناس، ويمكث في الأرض، ولا يذهب بمنافعه وحسناته سيل مهما كان جارفًا.

ahmalassaf@

الرياض- الأربعاء 04 من شهر جمادى الأولى عام 1446

06 من شهر نوفمبر عام 2024م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)