هذا العمل العلمي المعجمي جليل يستحق الإشادة والإطراء. هو جهد لو رآه ياقوت الحموي لخر ساجدًا حامدًا، ولو وقف عليه من كتبوا بعض أصوله لتعجبوا من خيرة الله وتدبيره، وأن الخواتيم قد تختلف تمامًا عن البدايات. لهذه الواقعة أخوات مثل المعجم المفهرس لألفاظ الحديث الشريف الذي كتبه مستشرقون وآل لمكتبتنا العربية الإسلامية. هذه المعجم الضخم عنوانه: معجم البلدان والقبائل في شبه الجزيرة العربية والعراق وجنوب الأردن وسيناء، ترجمه وعلق عليه أ.د.عبدالله بن ناصر الوليعي، وأصدرته دارة الملك عبدالعزيز عام (1435=2014م)، وهو الإصدار رقم (308) من إصداراتها الطيبة. يقع هذا المعجم في اثني عشر مجلدًا من الحجم الكبير، مجموع صفحاته (6806) صفحات منها (1320) صفحة لآخر مجلدين وفيهما الفهارس باللغة العربية ثم الإنجليزية. كتاب هذه فهارسه كيف سيكون محتواه؟ وأي ثراء باذخ في مضمونه!
أشارت الدارة في تقديمها إلى أهمية تعريب الكتب الأجنبية عن البلدان العربية، وتمنت لو صاحب هذا الجهد المحمود التدقيق خاصة في أسماء الأشخاص والأماكن والتعليق على ما يستوجب ذلك، وهو ما لم يكن في ترجمات ضخمة سابقة في بلدان عربية. ثمّ ذكرت الدارة في تقديمها ضرورة إصدار ترجمة وافية لمعجم شبه الجزيرة العربية الصادر عام (1917م). وقد أثنت الدارة على الدعم الكريم الذى تحظى به من لدن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -حفظه الله ورعاه-. هذا الدعم الملكي يتوافق مع عناية المقام السامي بعلوم التاريخ والبلدان والأنساب، وحرصه العلمي والعملي في هذا الباب.
أما القائم على الموسوعة، العالم البلداني البروفيسور الوليعي، فقد ذكر أنه تلقى اتصالًا من الدارة عام (1425=2004م) أبدت فيه رغبتها بأن يترجم ويحقق معجم شبه الجزيرة العربية الذي حررته البريطانية “سكوفيل”، وصدر في مجلدين. تردد أ.د.الوليعي أول الأمر، بيد أنه مع تكرار الطلب، ورغبة في تلبية نداء الشيخ العلامة حمد الجاسر الذي يشجع على ترجمة كل ما يخص بلادنا مما كتبه الأجانب وتحقيقه وتصحيح هفواته وأخطائه كي لا تبقى كما هي، وحتى لا تترك هاتيك الأعمال المرجعية للناشرين الباحثين عن الربح دون التفات لقيمة العلم، ولا تقدير لحتمية التوثيق والمراجعة.
وعندما بدأ أ.د.عبدالله الوليعي النظر في المعجم المقترح وما فيه من اتكاء على أصول أخرى، طلب من الدارة أن تحضر له أصول هذا المعجم فكان كما طلب. وبعد أن وقف على الأصول أدرك أن ترجمة الأصل وتحقيقه وتصحيحه والإضافة عليه أحق بهذا الجهد، وأن الاكتفاء بالمجلدين المقترحين لا يخدم العلم، ولا يخدم المكتبة السعودية والعربية، وأن ما يليق بعلمائنا ومؤسساتنا أعظم من هذين المجلدين خاصة بعد أن توافرت الأصول التي استقيت مادتهما منها، وكتبها الرحالة والمستشرقون والعسكريون والساسة.
إن العودة للأصول دائمًا أفضل من التراجع إلى كتب النقلة. إن ترجمة الأصول أولى وأضمن، والصبر على العكوف عندها أليق وأكرم؛ لذا تغير مسار العمل بناء على مقترح المترجم المحقق بعد موافقة اللجنة العلمية في الدارة، وصار المشروع ليس ترجمة كتاب “سكوفيل” بجزئيه، بل ترجمة الأصول ذاتها كاملة. صحيح أن هذا الإجراء أطول مدة، وأكثر إرهاقًا؛ لكنه من الناحية العلمية هو الأجدى والأنفع. هذا المقترح والموافقة عليه دليل -بإذن الله- على إخلاص القائمين بهذا العمل ونصحهم للبلد، والثناء هنا مستأهل للمترجم المحقق وللدارة.
تتكون أصول هذا المعجم التي رجع لها أ.د.الوليعي من ثلاثة أصناف أولها معجم شبه الجزيرة العربية البريطاني الصادر عام (1917م) بواسطة مكتب حكومة الهند البريطانية ليغدو مادة مرجعية عن المنطقة لرجالات حكومة الهند العاملين في هذه المناطق سواء العسكري المحتل منهم أم المدني الحاكم والمتصرف، والله لا يعيد تلك الأيام على أن هذه المعاجم ومثيلاتها من أعمال علمية كانت من حسناتها التي جاءت عرضًا غير مقصودة في الغالب. كانت كتب هذا المعجم “الاحتلالي” سرية مقصورة على الاستخدام الحربي إبان الحرب العالمية الأولى. مما لاحظه المترجم الخبير دقة المسافات في هذا المعجم خاصة للأماكن التي اهتم الإنجليز بها. كما لاحظ عنايتهم بمواضع الماء وموارده، وطرق التموين والإمداد.
في هذا المعجم البريطاني “الاستعماري” مواد تقوم مقام كتب كاملة، وفيها من المعلومات الدقيقة والوصف الباهر ما دفع العالم البلداني البروفيسور الوليعي إلى تخصيصها بالثناء خاصة ما كتب فيها عن عسير والمنطقة الشرقية، حتى أن المادة المجموعة فيه عن منطقة عسير صدرت في كتاب مستقل بواسطة أحد الإنجليز. وليت أن هاتين المنطقتين الغاليتين من بلادنا المقدسة تفيدان مما كتب في الدليل عنهما وترجم وحقق، وغيرهما كذلك. لقد نعت عالمنا البلداني تلك النصوص بقوله: من أجمل ما قرأت عن المنطقة الشرقية وعسير، ولا ينبئك مثل خبير.
أما الصنف الثاني الذي أفاد منه المترجم فهو الدراسات الاستشارية لوزارة المواصلات آنذاك -وزارة النقل والخدمات اللوجستية حاليًا-، وهي ثلاث دراسات أعدت عام (1390=1970م)، شملت الأولى منها (4555) قرية ومدينة، واقتصرت الثانية على المنطقة الشرقية وحصرت (893) قرية ومدينة، بينما اختصت الثالثة بالمنطقة الوسطى والشمالية وشملت (1081) قرية ومدينة. وثالث الأصناف قاد إلى إضافات مهمة التقطها المحقق والمترجم من كتاب البدو لأوبنهايم المطبوع في أربعة مجلدات بتحقيق ماجد شبر، مع مراجعة ما كتبه “أوبنهايم” عن القبائل من قبل مختصين ينتسبون للقبيلة نفسها. هذه المراجعة الحكيمة تكررت مع البلاد المجاورة بإسناد التأكد مما يخصها إلى علماء من أهلها أو لمؤسسات رسمية فيها. إن التسليم بما ينشره الأجانب بوصفهم خبراء وعلماء دون تمحيص بلية سلم منها هذا المعجم، ومعضلة نجى منها القائمون عليه، ومزلة أفهام حمى الله القراء منها.
هذا العمل المبارك استغرق سبع سنوات، وشارك فيه مع عالمنا أ.د.عبدالله الناصر الوليعي سبعون عالمًا، وست هيئات حكومية رسمية في البلدان المعنية. في هذا العمل نقل تام للمحتوى متنًا وحاشية، مع خدمة النص بالتحقيق والتعليق والتصحيح. وفيه خرائط وإحداثيات وغيرها من معلومات تطرب القارئ وتفيده بإخراج ملون وورق مريح للعين مع الخط نوعًا وحجمًا.
هذا المعجم مع ما فيه من نصب مضنٍ بالمراجعة والتصحيح والبحث، إلّا أن المترجم والمحقق ما فتئ يؤكد أنه ليس مرجعًا في الأنساب، ولا في شيوخ القبائل أو فروعها، فلهذا الشأن دروبه الرسمية والعلمية الأخرى. وزيادة في التأكيد كتب في غير موضع من المعجم أن الدارة تستقبل أي مقترح من القراء للإضافة والبيان والتصحيح. ألا يا قوم: ما أجمل العلم وما أحلى طعمه اللذيذ، ما أكمل أهله ومؤسساته وأكرمهم، ما أرخص أي غال وثمين يصرف في العلم ولأجله ولأهله.
الرياض- الثلاثاء 12 من شهر ربيع الآخر عام 1446
15 من شهر أكتوبر عام 2024م