من أقبل على نور العلم أقبل الفهم والعلم عليه ولو بعد حين. من أقبل على سعة العلم ابتعد عن ضيق التكوينات والأطر. من أقبل على التعمق في العلم انفرجت له المعاني أكثر من الناهل بلا انغماس. من أقبل على سمو العلم تبدت له الدنيا بكل جمالها وهي دون العلم الذي يحويه صدره، دون العلم الذي يراجعه في ذهنه، دون العلم الذي يجري على لسانه أو قلمه. إن ساعة من علم، فيها قراءة، أو كتابة، او مباحثة، او تفكير، لألذ من جلّ متع الدنيا، وهي فرع من لذة الحكمة التي قد لا تدانيها لذة.
طرأت على بالي هذه المعاني حينما قرأت واستمعت لما كتبه أو تحدث به القانوني والمحامي الأستاذ وائل أنور بندق عن أستاذه القانوني الكبير د.سمير عبدالسيد تناغو. ابتدأت علاقة الأستاذ بندق بالدكتور سمير عبر تزكية من يعرفهما؛ فعمل أ.وائل على مشروع تنقيح كتب د.سمير. وبعد استيثاق العلاقة العملية والروحية بينهما، قدّم د.تناغو صاحبه أ.بندق لعدد من القانونيين، ولمؤسسات علمية قانونية. ليس هذا فقط؛ بل طلب العالم القانوني الكبير إلى صاحبه أن يكتب تقديمًا لبعض كتبه، وهي لفتة نادرة، فالعادة المعهود أن يكون التقديم من شخصية لها سابقة على المؤلف. لم ينس الأستاذ وائل شيخه وظل يديم ذكره حيًا وميتًا، بل تتبع مقالاته المنشورة في الصحف، وجمعها في كتاب واحد حفظًا لها من الاندثار.
ولد د.سمير عبدالسيد تناغو (1938-2020م) في سوهاج بصعيد مصر، ودرس في جامعة الإسكندرية وتخرج في كلية الحقوق عام (1958م)، وهي سنة تخرج فيها أفذاذ من أساتذة القانون في مصر. ثم أصبح معيدًا في جامعة عين شمس بتزكية من أحد أساتذته، وحصل على دبلومي القانون الخاص والشريعة الإسلامية. كتب إبان عمله معيدًا بحثًا متينًا عن “طبيعة حق المستأجر في الفقه الإسلامي الحنفي”، ونشره على ثلاث حلقات في مجلة المحاماة أهم مجلة قانونية مصرية، ووصف العلامة الشيخ زكي الدين شعبان هذه الدراسة بأنها تقوم مقام أي رسالة علمية.
استطاع المعيد تناغو على صغر سنه حينذاك كتابة هذا البحث الفقهي المحكم حتى وهو قبطي وليس مسلمًا، ويعود ذلك التميز إلى فضل الله ثم إلى جديته في القراءة الواعية المستوعبة المنتقاة، وقدرته على المناقشة والسؤال والإدراك، ولأنه تخرج على يد أساتذة متشبعين بعلوم الشريعة حتى مع تخصصهم القانوني. إن القانوني الضليع في علوم الشريعة الغراء سيكون له من التميز ما لا يجده القانوني الصرف المحروم من أنوار علوم الشريعة فقهًا وأصولًا ومقاصد وسياسة شرعية.
ثم ابتعث القانوني تناغو إلى فرنسا، إلى جامعة من أكبر مدارس القانون في العالم. هناك حصل على دبلوم في القانون الروماني، قبل أن يكتب رسالته للدكتوراة عام (1964م) بعنوان “الالتزام القضائي” التي بهرت الفرنسيين، فلم يطق الأساتذة إخفاء إعجابهم بها وبه. في تلك الرسالة أضاف باحثنا العربي مصدرًا سادسًا لنظرية الالتزام المقتصرة على خمسة مصادر، وهو حكم القاضي في بعض الأحوال التي يغير فيها من التزامات العقد لأسباب وجيهة. أضاف د.سمير هذا المصدر مع أن هذه النظرية عصية على الاجتهادات، ويصعب الزيادة عليها.
دافع د.تناغو بإصرار الواثق برأيه الخمير وليس الفطير، وثبت على قوله الذي تشبث به لإضافة المصدر السادس لهذه النظرية. أقر له بعض زملاء التخصص ووافقوه على مذهبه، بينما عارضه آخرون مع تقديرهم لوجاهته. كانت الحوارات القانونية المكتوبة بعد مقال أو بحث إحدى الوسائل التي استخدمها د.تناغو في مسيرته نحو الدرس القانوني التجديدي. ومثلها الدراسات الجادة التي يكتبها وينشرها في أرقى المجلات، حتى أن بحثه عن “رهن المال المستقبل” نشر في المجلة الفصلية للقانون المدني الفرنسي، وهي المجلة التي لا تنشر إلّا للكبار.
وبعد عودته إلى مصر انهمك د.سمير في التدريس والتأليف. لقد رأى مقعد الأستاذية في الجامعة أعز من أي شيء آخر، دون انتقاص للوظائف التنفيذية والمناصب العليا، فهي عزيزة نافعة، وربما أن أهل الفكر والتخصص مع المقدرة أولى بها من غيرهم كما فهمت من مقطع مرئي قصير للدكتور تناغو. نالت مؤلفاته القبول حتى أن العلامة د.السنهوري رجع لكتاب تناغو “التأمينات العينية” في المجلد العاشر من شرحه الوسيط، وأثنى عليها العلامة د.مرقس في مقدمة أحد كتبه. بلغت كتب أستاذنا درجة من الاتقان حتى غدت مرجعية في بعض أبوابها مثل التأمينات، والقانون الزراعي، ومدخل القانون مع نظرياته وفلسفته، وهذه المجالات الأخيرة قمينة بالإتقان من كل ذي تخصص قبل أن يلج فيه حتى يمضي على بينة وبيان ونور.
عاش د.سمير تناغو وفيًا لأساتذته وزملائه بل حتى لطلابه. عاش د.تناغو خادمًا للعلم الذي احتشد له، بصيرًا بأصوله ودقائقه وفلسفته. عاش د.سمير مقدرًا لمواقف أساتذته المسلمين من ترشيحه للإعادة والابتعاث، ومن الثناء على شخصه وكتبه والرجوع إليها. عاش د.تناغو دون شعور كاذب بالنبذ أو الإقصاء بناء على الانتماء لأقلية دينية. هذا الشعور المظلم توجده أطراف أجنبية وتصرفات بعض الغوغاء من الجانبين، بيد أن القانوني الكبير نفاه جملة وتفصيلًا في لقاءات مع منظمات ووفود أمريكية، حتى أنه قال لهم ما معناه: كثير من المسلمين محرومون من المناصب وغيرها؛ لأنها تمنح حسب الثقة والمعرفة لا بناء على الأهلية والاستحقاق في أحيان كثيرة.
ضرب د.تناغو أنصع مثال وأوضح نموذج على الجدية في تهيئة النفس للدرس، وفي الحث على البحث، وفي التنقيب ببطون الكتب، وإعمال الفكر، دون استسلام لمقولة جاهزة مهما رسخت؛ ولأجل ذلك أضاف مصدرًا سابعًا للالتزام هو القرار الإداري بعد عشر سنوات من إضافته للمصدر السادس، وكان موقف أهل العلم منه مثل موقفهم من ابتكاره السادس واجتهاده السابق. ضرب د.سمير المثل الرفيع على التسامي عن المحتل وثقافته وتدخله في الشؤون العلمية والعملية، وموقفه السالف مع اللجان الأمريكية يؤكد هذا، ومقاله بعنوان “اصطلاح الأحوال الشخصية من مخلفات الامتيازات الأجنبية وتعدد جهات القضاء”، يعيد التأكيد على اعتزاز القانوني الكبير بموطنه وثقافته ومصطلحاتها، ونأيه عن التبعية أو التقاصر أمام الآخرين. إن المصطلحات لجديرة بالتوطين والانطلاق من الحضارة والثقافة التي ننتمي إليها.
كما امتاز د.تناغو بالتركيز على الباب الذي فُتح له فيه؛ لذلك صرم نصف قرن من حياته مع فلسفات القانون وأفكاره ونظرياته، وقضى عمره مع الفلاسفة حتى وقف على وضوح عباراتهم وايقن بجلاء معانيها خلافًا لما يفسده النقلة بالغموض والإغراب. من أنسه بالفلاسفة الكبار أنه صار بصيرًا بطرائق تفكيرهم، وبمقولاتهم الأساسية، وأصبحوا له مثل الصدقاء والجلاس وإن تباعد الزمان.
وصف القانويي الكبير د.إسماعيل غانم الوضوح النادر في كتابات د.سمير بقوله: “تتميز بوضوح نادر …لا يتأتى للكاتب إلا بعد وضوح الفكرة نتيجة لبحث طويل وتأمل جاد “، وبتواضع العلماء أجاب د.تناغو عن هذا الوضوح بقوله: “إن الوضوح النادر المشار إليه في هذا التعليق، لا يرجع الفضل فيه إلينا، بل يرجع إلى الفلاسفة أنفسهم…”. إن الوضوح هو أهم خصيصة في الكتابة والحديث؛ ولذلك امتن الله على الإنسان بتعليمه البيان.
للدكتور تناغو آراء متماسكة حتى لو خولفت. له كذلك مقولات خالدة معبرة، منها قوله: “إن فلسفة القانون يدرسها طالب القانون قبل أن يدرس غيرها ، فهي بداية المبتدىء ، وكذلك يدرسها رجل القانون بعد أن يتم نضجه ، فهي أيضا نهاية المجتهد”. منها أيضًا قوله: “مبادئ الشريعة الإسلامية تعتبر من المبادئ العامة في القانون المصري والكويتي وغيرها من الدول الإسلامية والرجوع إلى المبادئ العامة في الشريعة الإسلامية ليس مفروضا على المشرع وحده ولكنه مفروض أيضا على القاضي”. ومنها تنبيهه الدقيق حين كتب: “رجل القانون يحتاج قبل أن يكون عالما بالقانون أن يكون صاحب إحساس مرهف أو صاحب ذوق قانوني دقيق ورجل القانون يجب أن يستعين بما لديه من احساس وذوق بشرط أن لا يبني أحكامه على الذوق وحده بل يجب أن يربط ذلك بأحكام القانون”. غن كتبه تحوي الكثير من الدرر القانونية والفكرية، وهي من متين هذا العلم وأسسه.
من الاعتراف بالفضل والجميل، أشير إلى أني اقتبست بعضًا من المعلومات الواردة أعلاه مما كتبه القانوني الأستاذ وائل أنور بندق في تقديمه لبعض كتب العلامة د.سمير تناغو، ومن تواصلي معه عبر الواتساب. للقانوني وائل بندق عناية بجهابذة القانون في مصر، ويكتب عنهم باستمرار في موقعه على الفيس بوك، وسوف يصدر كتابًا يضم جميع مقالاته في هذا الشأن. من وفاء أ.وائل لأساتذته كتب وحاضر وأفاد، ولم يبخل بمعلومة أو يجفل من سائل. من وفائه أنه جمع مقالات فكرية وقانونية لأستاذه د. تناغو، وضمها في كتاب عنوانه: “الأفكار الكبرى في السياسة والقانون”. لقد كان د.تناغو من ذوي المقام الرفيع في الدرس القانوني والفكري، وهو يؤمن بأن الأفكار صنعت التاريخ وحركت الأحداث، وأن أي حكومة ناجحة هي حكومة قوانين مثلما فهم عن شيخه التاريخي أرسطو.
الرياض- الاثنين 20 من شهر ربيع الأول عام 1446
23 من شهر سبتمبر عام 2024م
2 Comments
ماشاء الله عليك كيف استطعت ان تكتب سيرة مختصرة وفي نفس الوقت غطيت ابرز مراحل حياته ..
لله درك .. 👏🏻👏🏻
👌🏼
إن القانوني الضليع في علوم الشريعة الغراء سيكون له من التميز ما لا يجده القانوني الصرف المحروم من أنوار علوم الشريعة فقهًا وأصولًا ومقاصد وسياسة شرعية