الشيخ محمد العليط: الواعظ برحيله!
مثلي أنت ربما لم تسمع من قبل عن الشيخ محمد بن سليمان بن عبدالكريم العليط (1350-1446) رحمه الله وغفر له. أنت مثلي ربما لم تر الشيخ من قبل، ولم تقرأ شيئًا من كتبه، فضلًا عن أن تدرس عنده، أو تصلي في مسجده. أنت مثلي، وعسى أن أكون غير ملوم بهذا النقص المعرفي وإن كان نقصًا عدمه أولى، بيد أن ما يخففه عند أهله أنهم لا ينفون وجود هذه النماذج والقدوات الساطعة في عصر طغت فيه المادة وحلاوة الدنيا ليس عند الشاب الغرير فقط؛ بل حتى في يد الطفل الصغير، وفي جذر قلب الشيخ الكبير.
مات الشيخ اليوم بعد مئة عام إلّا أربعة أعوام عاشها في دنيا الناس ومعهم، وإن كان على التحقيق قد هاجر بروحه ووجدانه ومشاعره إلى عوالم أخرى تباين عالم جسده وموضع وجوده. مات الشيخ اليوم بعد أن جلس للتدريس في بيوت الله التي يحبها الرب الكريم ثمانية عقود إلّا أربع سنوات، فيا لله كم من مرة ومرة بلّغ عن النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام آية فنال شرف الانضمام لقائمة ورثة الأنبياء؟ ويا لله كم من مرة ومرة روى الحديث الشريف لسامعيه وطلابه لعله أن يفوز بنضارة الوجه ليس في الدنيا فقط، وإنما يوم البعث حين تظلم الوجوه المذنبة، و تسوّد المطالع المسيئة.
ارتحل الشيخ اليوم بعد أن عبر من عنده عدد غفير من الطلبة، فيهم من استفاد كلمة فما فوقها ونفع غيره بها. إن سلسلة النفع هذه مستمرة حتى قيام الساعة، فما أعظم الأجر، وما أكبر الذخر لمن بقيت سلسلة آثاره وفيها ما يحمد ويرضى الإله الحق. ارتحل الشيخ اليوم وقد تتلمذ عليه طلبة صار منهم أشياخ ومعلمو الناس الخير وأئمة الهدى؛ فأي فضيلة حازها، وأي مغنم اكتسبه، فلربما امتلأت صحف أقوام لا يعرفونه ولا يعرفهم بالحسنات، وللشيخ مثلها، وهذا فضل الله يؤتيه من شاء.
غادر الشيخ دنيانا التي نتطاحن فيها، ونتسابق، ونتعارك، وربما أدخلنا فيها ما أدخلنا، وليس له من دار الغرور إلّا مسجد ومصلى، وقرآن وختمات، ودروس وعظات، وكتب وشروحات، وقرب وطاعات، فأي الفريقين أحق بالأمن؟ غادر الشيخ هذه الدنيا خفيف الحمل من غبارها وأوشابها، بعد أن هجرها في شبابه وفتوته، ثم ازداد حذره منها حتى وهو في عشر السبعين؛ فلا يرفع بصره في وجه شباب نضر، فويح لنا وأبصارنا تطيش في عوالم حقيقية وافتراضية دون رقابة ولا حياء من واهب نعمتها!
توفي الشيخ وهو حميد السيرة، رضي المسيرة، نقي الخبر، رفيع الشأن، والله يجعل ماله عنده أجلّ وأحسن مما استفاض على الألسن والأقلام. توفي الشيخ ليؤكد لنا أن الورع أمام المفاتن، والزهد عند المباحات، سلوك ممكن وإن كان من المكاره التي احتفت بالجنان، فمن طلب السلعة الغالية احتمل لأجلها رهق العمر القصير مهما طال، وإن بلغ بصاحبه قرنًا من الزمان، لأنه إلى انقضاء ولا مناص، والمصير إلى حفرة برزخية حتى يأذن الله، ويا لخسارة من رتع في مشتهياته دونما اعتبار لحرمة أو حكم.
ذهب الشيخ إلى عالم آخر، فأعطى لمن وصله نعيه ومآثره أن يوم الجنائز تحدٍّ باقٍ منذ صدر عن إمام متبوع؛ ذلك أن الخير منغرس في الأمة، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يصرفهما كيفما يشاء، وليس في الأمر إلّا أن يأمر المولى بوضع المحبة والود لعبده في القلوب، فتنجفل إليه جماعات الناس زرافات ووحدانًا، ولا تلتفت لإفك أفاك وإن جاوز إفكه الثريا فهو دفين تحت الثرى وأقدام من يطأ عليها! إن القبول سر أتى لأهله من حقائق الخلوات، فلطالما خلا أصحاب الخبيئات بمولاهم يستغفرونه، ويفتقرون إليه، ويناجونه، ويبكون بين يديه، وتحت ملكه.
ثمّ إن الشيخ انصرف عن الحياة الدنيا وقد ذكرنا برعيل بهي زكي من العلماء والزهاد والعباد والأتقياء الأنقياء الأخفياء. انصرف الشيخ عن حياتنا وقد استجلب بمنصرفه الذكر والدعاء للمحسنين من عمار المساجد والجوامع وبناتها، ومن الخيرة الذين أوقفوا على أعمال البر ومشروعات الإحسان للناس قاطبة الحي منهم والميت. انصرف الشيخ عن الدنيا وأعاد للأذهان هيبة الثبات على المبدأ، وأثبت للحائرين أن الطريق واضحة في صراطها المستقيم بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، وما سوى ذاك فمحض سراب، أو هباء، أو غير ذلك مما لا ينجد صاحبه ولا يغنيه ساعة الحاجة إليه. انصرف الشيخ عن الدنيا، واختص بالعلم والعمل، ثم سارت خلفه الجموع والأضواء؛ لتروي للعالم عظته الخالدة للأحياء وهو ميت مسجى وفي طريقه كي يوارى تحت التراب!
لقد قال الشيخ كلمته للدنيا منذ زمن بعيد، وأغلق أبواب قلبه وبصره وسمعه عنها كي يسلم ويرتاح، وظلّ في جهاد النفس على ثغور يهتبل الأبالسة أي غفلة للنفاذ منها للفساد والإفساد، ولعله اعتصم بالورد أطراف النهار وزلفًا من الليل، والاستغفار، وكثرة الذكر والتلاوة، وعمارة الوقت بالعلم والتعلّم والتعليم، ولعله أن يكون الآن قد نجا وظفر بمراده الأسمى، ومطلوبه الأعلى. رحم الله شيخ بريدة، وزاهدها، ونور له القبر وبرده عليه؛ فقد جعلنا مع خبر رحيله الحزين نعيد النظر في فقه الحياة وفقه التلذذ بها على مراد الرب الرحيم الغفور السميع البصير، وتلك موعظة بليغة من راحل سعى بالخير لغيره حيًا وميتًا.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الثلاثاء 14 من شهر ربيع الأول عام 1446
17 من شهر سبتمبر عام 2024م
5 Comments
شكرا لك
شكرا لك..ورحم الله الشيخ ووالدينا والمسلمين اجمعين…لو ذكرت لنا سيرته وعلمه وما قدم ودروسه .
اللهم آمين، وشكرًا لكم.
سيرته منشورة على الانترنت، وتجدها كاملة في قناتي على التلقرام:
https://t.me/ahmdalassaf
وشكرًا
نعم مثلك .. !
لافض فوك ..
رحمه الله رحمةً واسعة..
ما عرفناه
لكن وعظنا ميتاً
ووعظ الناس في لحظات وساعات
قليلة بعد موته موعظةً عامة بلا
كلام ولا حرف ولا لقاء .
قرن
لم يعرفه الناس
رغم ما يحمله من دين وخير
والآن يبحثون عن الشهره لو بإظهار …. نسأل الله السلامة