الاجتهاد والتشريع
لا يستقيم فقه ولا قانون دون وجود الاجتهاد؛ فالمسائل لا تنتهي إلى أمد البتة، بينما للنصوص غاية تقف عندها ولا بد. هذا هو أعظم أسباب الاضطرار للاجتهاد فلن يوصد بابه -وهي لن زمخشرية-، ولا تغلق الدروب المؤدية إليه، شريطة ألّا يسير فيه سوى أهله من أصحاب العلم والعقل والأمانة والديانة. هذا أيضًا أحد الأسباب الموجبة لانتقاء الأذكياء الأزكياء لدراسة الشريعة والفقه والقانون؛ حتى لا يكون مجال التشريع بما فيه من خطورة وعمومية تحت وطأة بلادة أو سفول، وكي لا ينفرد بشأنهما أقوام جناة بغاة على التشريع؛ فيُدعى عليهم بما يستحقونه من عقوبة ما مشى كلب حافيًا يلهث أو ينبح -أجلّكم الله-.
ولأهمية الاجتهاد ومركزيته في الفقه وتجديده، عمد الشيخ الفقيه أ.د.محمد بن أحمد الصالح عندما أصدر كتابه عن تجديد الفقه الإسلامي إلى جعل أحد فصوله عن الاجتهاد. إن الاجتهاد يكون مع ورود النص وبدونه، وهو مع النص بياني أو تعليلي أو تنزيلي، وبدونه يكون قياسيًا واستصلاحيًا وتنزيليًا. ولابد للمجتهد مع وجود النص من فهمه وتمييزه، ومعرفة درجة قطعيته ومعانيه، ثمّ يجتهد في تنزيله على الواقع، وهذا يستلزم فهم الواقع، وتحقيق المناط، والنظر في المآلات، واعتبار المقاصد. وإذا كان فهم الواقع يسيرًا على البعض؛ فإن تحقيق المناط لا يقوى عليه غير العلماء، وأما النظر في المآلات فشأن الملهمين الموفقين، وقليل ما هم، علمًا أن هذا النص الآنف مقتبس من مقال سابق لراقمه عن الكتاب المشار إليه.
ثمّ إني للتو خرجت من مناسبة عامرة بأولي الفضل والعلم والأدب والجاه، أقامها الشيخ الصالح في منزله الطيب المبارك. لم تقتصر المناسبة على جميل اللقيا، وحسن الأحدوثة، وبشاشة الترحاب، ولذيذ الطعام، وزكي البخور، وإنما خرج كل واحد من الحضور الكثر ومعه نسخة من كتاب جديد عنوانه: الاجتهاد ودوره في التشريع الإسلامي، تأليف: الأستاذ الدكتور محمد بن أحمد بن صالح الصالح، عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وربما أنه من أوائل السعوديين المشاركين في مجالس الدروس الحسنية بالمغرب. صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام (1446=2024م)، ويقع في (119) صفحة.
يتكون الكتاب المختصر من مقدمة وستة فصول فخاتمة البحث ثم سرد لأهم مصادره التي تناهز الثمانين عددًا. عنوان الفصل الأول: حقيقة الاجتهاد، وفيه تعريف بالاجتهاد ومشروعيته وحكمه وحجيته وأركانه. أما الفصل الثاني فعن أهمية الاجتهاد ونتائجه الحسنة، وآثاره على تجديد الفقه، وأن الزمان لا يخلو من مجتهد، كما لا يخلو من قائم لله بحجة مثلما يروى عن الإمام أبي حامد الغزالي. ويبحث الفصل الثالث شروط الاجتهاد والمجتهدين، وهي شروط عامة وخاصة، وللمجتهدين مراتب مطلقة ومقيدة، كما أن الاجتهاد شرط في الإمامة العظمى، ووزارة التفويض، والقضاء، والإفتاء، وهي منازل جسيمة المخاطر، وهذا يدل على مكانة الاجتهاد، وجلالة قدره.
أما رابع الفصول فعن مجالات الاجتهاد وأقسامه، وفيه بيان لما يجوز الاجتهاد فيه وما لا يجوز، وأقسام الاجتهاد باعتبار المجتهد، والمجتهد فيه، وأسلوب الاجتهاد، وعدد القائمين به، وهذا يسير بنا نحو أهمية الاجتهاد الجماعي الذي يحمي من الخطأ والشطط، ويزرع الثقة في نفوس المتلقين. ويأتي الفصل الخامس ليبين كيفية الاجتهاد إذا وجد النص الشرعي، وذلك بفهمه أولًا، وتنزيله على الواقع ثانيًا بعد فهمه وتحقيق المناط والنظر في المآلات واعتبار المقاصد. هذه الضوابط تحول دون الجنوح بعد التطبيق أو بناء عليه. ويكتمل هذا الفصل بتوضيح الاجتهاد فيما لم يرد فيه نص بمحترزاته وتوجيهاته. آخر الفصول وسادسها عن ضوابط الاجتهاد وأثره واقع الحياة، ووجود الضوابط مهم للغاية، والالتزام بها أهم؛ حتى لا تغدو الشرائع والتشريعات من المباحات التي يتقحم أسوارها أي أحد، بلا تأهيل، وعلم، ولا برهان، وبلا حياء عاصم!
إن الاجتهاد يزيد في استمساك العباد بدينهم ونصوصه. إن الاجتهاد يقود إلى الإيمان بخلود الشريعة، وصلاحيتها وإصلاحها لكل زمان ومكان وحال. إن الاجتهاد يردع المفسدين العابثين بالعلم أو العمل من طريق علمي أو عملي. إن الاجتهاد ينفي الجمود والتقليد، ويؤكد على حياة الأمة وخيريتها، وكفاءة علمائها، ورفعة شأن مؤسسات العلم فيها، مع استقلاليتها عن أي توجيه. إن الاجتهاد أداة ناجحة لمواجهة أي طارئ أو مستجد كائنًا ما كان. إن الاجتهاد لازمة لا بد منها للفقه والقانون ودارسيهما والمشتغلين بهما، فالفقه والقانون مثل كائن حي يستمر في النمو، ولا يهرم، ولا يمرض، ولا يموت، وهذا الشباب والتجدد حتمي مادام باب الاجتهاد مفتوحًا لمن يستحق المشاركة فيه من ذوي العلم والفهم والاستقامة.
إن الاجتهاد في ديننا ينبني على إعجاز باهر في نصوص الوحيين هو الإعجاز التشريعي، وهو وجه من الإعجاز مهم لكل مؤمن، ولدارسي الشريعة والقانون بصفة أخص؛ لأن القرآن الحكيم كما قال الإمام الشاطبي كتاب هداية وتشريع، وهو كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر. وما قاله الشاطبي يصدق على السنة المحمدية الصحيحة فهي وحي كالقرآن. إن من أمثلة إعجاز القرآن ورود آية واحدة تأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وتنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وكم فيها من قواعد تشريعية معجزة. ومن تدبر النصوص المقدسة فسوف يسجد قلبه لمولاه مع آيات وأحاديث أخرى لها دلالات حقوقية واقتصادية وأمنية واجتماعية.
وكم أتمنى لو تفرض دراسة علم أصول الفقه، ومقاصد الشريعة، والاجتهاد، وفقه المصالح والضرورات، على طلبة القانون، وعلى جميع من تسند إليهم مناصب رفيعة أو واقعة في طريق الرفعة، فهذه الموضوعات ضرورية، وتزيد الأذهان حدة وصوابًا، وتمنع بعد توفيق الله من العثار والتخبط. ألا ما أعلاها وأسناها وأجملها من علوم محكمة جاءت إلينا تحت عباءة الشريعة وفي ركابها الميمون، وما أحرانا بتعميم الدرس الشرعي ليكون متاحًا للمختصين، ولغيرهم من المهتمين بالعلوم الأخرى، وللمثقفين عامة، وهذا الصنيع الحصيف هو عين ما ذهب إليه شيخنا الموفق بتأليف كتابه اللباب عن الاجتهاد الذي سيأخذ مكانه في مكتبة الفقيه والقانوني ورجل الدولة.
أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض
الاثنين 06 من شهر ربيع الأول عام 1446
09 من شهر سبتمبر عام 2024م