سير وأعلام عرض كتاب قراءة وكتابة

أماكن الفكر عند إدورد سعيد

أماكن الفكر

أماكن الفكر عند إدورد سعيد

هذا كتاب لم أفلته، هو بالمقابل لم يفلتني، حتى حينما فرغت من قراءته قبل أزيد من عامين، وضعته أمامي على أمل الكتابة عنه، صرت أرى غلافه يوميًا كأنه يلومني وله الحق. عنوانه: أماكن الفكر: إدْوَرْد سعيد:  تأليف: تمُثي بْرِنَن، ترجمة: محمد عصفور، وهو الكتاب رقم (492) من سلسلة عالم المعرفة الكويتية الشهيرة المتقنة التي تصدر شهريًا عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والاداب. هذا الكتاب هو عدد شهر رجب عام (1443) = شهر مارس من عام (2022م)، ويقع في (528) صفحة تتكون من تقديم وكلمة المترجم وتمهيد وإثنا عشر فصلًا، ثم ملحق بالصور فالهوامش يعقبها مفتاح للمصادر وببليوغرافيا.

أثنى أ.د.محمد شاهين في تقديمه على الجهد الاستثنائي والوفي للمؤلف. لقد كان المؤلف من طلاب المترجَم له في الجامعة منذ عام (1980م)، وزار لأجل توثيق سيرة شيخه الأماكن التي ترتبط بقصة حياة إدورد في طفولته وشبابه وكهولته وشيخوخته. أصبح هذا العمل حسب التقديم الرائق أشبه برواية توثيقية، استطاع مخرجها الحصول على أهم أسرار الشخصية المهمة؛ حتى كأن “تُمثي” شريك سري لأستاذه. استطاع المؤلف المزاوجة بين ثنائية الخوف والتحدي لدى إدورد سعيد، وخلص إلى غلبة التحدي عند أستاذه على الخوف. إن شواهد هذه السيرة التي بين أيدينا تؤكد على شجاعة القول والفعل في حياة إدورد.

كتب إدورد سعيد سيرته الذاتية بعنوان: “خارج المكان”، ثم كتب “تُمثي” سيرة سعيد الغيرية بعنوان: “أـماكن الفكر”. إن هُوية إدورد تتحدى مكان الولادة والإقامة، فهي هوية مرتحلة مكانًا وزمانًا مثل النظرية. عاش إدورد الواقع ليرسم بفكره وقلمه واقعًا اجتماعيًا متخيلًا. هذه المقدرة اللافتة على الأمرين معًا لدى إدورد جعلت المؤلف يقول بأن أمريكا هي التي حضرت لإدورد وليس العكس؛ لأنه استطاع بالكتابة والمحاضرة والتدريس في جامعة كولومبيا تحريك مياه طالما ظلت ساكنة، ولذلك أسماه مناوئوه “أستاذ الإرهاب” بسبب مواقفه من إسرائيل، وتأثير كتاباته عن الاستشراق، والجغرافيا المتخيلة.

فلا جرم حين يختم البروفيسور توفيق تقديمه الآسر الذي يصلح نموذجًا لكتابة أي تقديم بأن حكم على هذا العمل الفكري والأدبي والتاريخي أنه بمثابة الجزء الثاني من سيرة سعيد الذي نوى كتابته ومات دون تحقيق أمنية أثيرة حملها طالب وصديق وفي فأحسن التحمل والأداء. لو سار على هذا المنوال كل طالب ورفيق، وهو صنيع أوفياء الطلبة والأصحاب؛ لحفظوا لنا مقدارًا ضخمًا نافعًا من سمت عظماء العلم والتأليف والكتابة والفكر الابتكاري، فضلًا عما خلفوه من آثار ثقافية.

وكما أحسن المؤلف الكتابة، أحسن المقدم في إبداع التقديم ومعاونة المترجم، وأحسن بالاقتراح على السلسلة الكويتية التي اهتبلت الفرصة وقبلت النشر دون تردد. أيضًا أجاد المترجم بصنيعه العلمي والأدبي المعتز بلغته مثلما يتضح من سياق الترجمة، ومن طريقته في كتابة الأسماء الأجنبية على سنن العربية قدر الإمكان. لن أطيل على القارئ فوق ما سبق، وانتقل مباشرة لأهم مالفت نظري من فوائد في القراءة والكتابة والفكر والتدريس الجامعي والعلوم الاجتماعية-بغض النظر عن رأيي فيها-، علمًا أنها منقولة عن الكتاب، وربما اختصرت العبارة أو غيرتها تغييرًا يسيرًا، وكم أتمنى لو وجد القارئ وقتًا يستمتع فيه بهذه الوجبة اللذيذة حقًا وصدقًا.

هذه مقتطفات مما لفت نظري في الكتاب، وسيرة إدورد، وملاحظات المؤلف، وكلمات الشهود، والاقتباسات الراقية، مع الإشارة إلى أن غالب ضمائر المتكلم والغائب تعود على إدورد سعيد نفسه إلّا ما استبان من السياق خلافه:

  1. جعل سعيد العلوم الإنسانية علومًا لا يمكن تجاهلها، وعلومًا مقلقة لقادة الرأي.
  2. إدورد واحد من أهم المفكرين الذين غيروا نمط التفكير في منتصف القرن الماضي، وكتبه تقرأ بثلاثين لغة.
  3. كانت الكتابة هي الجانب الأبرز في نشاط سعيد.
  4. استطاع جعل الجامعة مكانًا أكثر إثارة، ونقل العوم الإنسانية من الجامعة إلى مركز الخريطة السياسية والحياة العامة.
  5. ابتكر إدورد مفردات جديدة جعل بها الموقف الصهيوني يخلو من القداسة.
  6. قال عنه الباحث الإيراني حامد دباشي: ” المحارب الجبار، صلاح دين حججنا ضد خصومنا المجانين، مصدر حكمتنا في خضم اليأس”.
  7. قصارى ما يطمح إليه الناقد هو أن يكتب ليُفهم، وهذا فيه من الفن ما يكفي.
  8. يحب إدورد والروائي إلياس الخوري المزح بقولهما: إنهما مسلمان شرفيان!
  9. كان سعيد خليطًا يصعب التنبؤ بأفعاله، فهو مزيج من المفكر والثائر.
  10. اعترف أعداء إدورد بقدرته على البقاء في عالم الأفكار إذ كُتب عنه أزيد من أربعين كتابًا، ودرست جلّ جامعات العالم مواد مخصصة لكتاباته.
  11. يدافع سعيد عن الجامعة باعتبار أنها ملجأ من السياسات الفجة، ومكان للتدريب على الفكر الحر.
  12. كان إدوارد في طفولته ويفاعته صاحب نشاط لافت، وحركة دائبة، ولسان سليط، وأصبح يكره اسمه الأجنبي متمنيًا لو اختار أبواه له اسمًا عربيًا.
  13. أحب سعيد الأقلام الثمينة، والورق الفاخر، والقراءة، والموسيقى، والفلسفة، والسياسة، والمزاح!
  14. للدين وطقوسه أهمية مركزية في حياة إدورد.
  15. دافع إدورد عن الإسلام وفلسطين أكثر من بعض علماء المسلمين، وربما تمكن من ذلك نظرًا لمرجعيته الدينية.
  16. تأثر سعيد بامرأتين هما أخت جدته لأمه، وأخت أبيه. منهما تعلّم الانضباط الذي يعتمد عليه التطور القومي، ومنهما استلهم إحساسه بانتمائه الفلسطيني، وهما تمثلان الجانب المتصلّب في تربيته السياسية.
  17. طُرح عليه هذا السؤال: ألا تشعر بالغربة في أمريكا؟ فقال: أشعر بها، ولكنني أتجاوزها.
  18. مع ازدياد ثقة سعيد بنفسه، غامر للمرة الأولى بدخول عالم الأدب.
  19. اقترب إدورد شيئًا فشيئًا نحو العلوم الإنسانية التي تتطلب الإبداع، والخيال، والتعبير الشفوي عن الأفكار.
  20. كان سعيد شديد الحذر من عقلية الحرب الباردة السائدة حوله، ومن الرهاب المعادي للسوفييت، ومن غضِّ النظر عن حقائق العالم الثالث.
  21. ظل يحتقر صناعة الترفيه الأمريكية، و لايخفي رثاءه لأولئك التائهين ولبناتهم المراهقات المبالغات في اللبس والعلك والصوت.
  22. في توصية مكتوبة لكلية الدراسات العليا أبدى “روبندال” ملاحظة قال فيها: “إن خلفية سعيد القادم من الشرق الأوسط تؤهله بطريقة غير معتادة ليكون فعالًا في إثارة الفكر لدى الآخرين”.
  23. لم يخنع سعيد أمام العنصرية لكنه لم يجابهها، وتجاوزها بإظهار عقلية عالمية الطابع عجز كثيرون عن مقاومتها.
  24. كان سعيد سريع القراءة على نحو خارق.
  25. امتازت أطروحة سعيد عن الرؤية الأخلاقية كما قال “بلاكمر” في توصية أكاديمية بذكاء متصل، واتساع في المدى، ونفاذ النظر.
  26. استطاع الكتابة بعفوية خلابة، وحرص على تقريب الأدب إلى الأداء، وكان مثل أستاذه “بلاكمر” يؤمن بأن الكتابة العظيمة تملك مقومات الخطاب المباشر.
  27. يرى أن الكتابة الإبداعية في نهاية المطاف كتابة ذات رسالة تدعو إليها.
  28. لدى إدورد موهبة المحاكاة الساخرة، وتقمص الشخضيات، والتعبير عن نغمات الصوت، وقد أفاده ذلك في قدراته التأليفية.
  29. ظلّ سعيد كثير العودة لكتّاب ومفكرين يقدمهم إلى قراءه كأنهم أصدقاء أو جزء من العائلة.
  30. إدورد سعيد فيلسوف هاجر إلى عالم الأدب كما يقول المؤرخ طريف الخالدي.
  31. كان سعيد مسحورًا بوعي “كونراد” بأنه أسير للكتابة، مربوط إلى المنضدة كالعبد، وأنه مضطر لنحت الكلمات لصنع شيء شبيه بالتجارب الإنسانية.
  32. كثيرًا ما انجذب سعيد إلى كتّاب بدا أنهم لا يناسبون ذوقه وآراءه السياسية.
  33. من رأي إدورد أن المؤلف يكتشف نفسه في عملية الكتابة.
  34. وجد سعيد لدى بعض كتّابه المفضلين تلاعبًا بالألفاظ جعل من المستحيل قراءة ما كتبوه دون شك بوجود حيلة أو معنى أو رسالة كامنة في كلامهم.
  35. انصب التشجيع في الكلية التي عمل بها سعيد على أن يتصارع الطالب مع الكتب العظيمة مصارعة الند للند.
  36. الانزواء لديه يعني التخلي عن واجبات المفكر، والنشاط لا يهدد سكينة المعرفة، لكن الصمت ومتابعة السائد يهددان العقل.
  37. إن عملية صنع الكتاب تستحق العناء مع ما تسببه من عذاب.
  38. إن أجلّ مهمة هي صنع ثقافة ذات أصول محلية خالصة.
  39. أدرك سعيد منذ بداية مشواره الفكري أنه يتعين عليه تكوين جمهور لم يكن موجودًا.
  40. نجح كتاب الاستشراق في فضح الدراسات الإنكليزية والفرنسية المتعلقة بالعرب والإسلام نجاحًا لا ريب فيه.
  41. لقد كان الكتاب لنصف قرائه نصرًا وللنصف الآخر فضيحة، ولم يكن بوسع أحد أن يتجاهله.
  42. أصدق دليل على الأثر الذي تركه كتاب الاستشراق هو عدد الكتب التي ألفت لتفنيده.
  43. لا أحد يكسب الاحترام، بل لا أحد يوجد في عيون الآخرين، إلا إذا كان قادرًا على سرد روايته وإسماعها للآخرين.
  44. أنا لا أؤمن بتسييس قاعة الصف.
  45. أفضل أفكاري تأتيني من التعليم ومن ملاحظاتي المخصصة للتعليم.
  46. علّم إدورد طلبته أهمية الحماسة في البحث العلمي، وأهمية الإصرار الجازم.
  47. كتب سعيد لطلبته رسائل فيها صراحة وحشية أثناء تصحيح كتاباتهم مثل: “إطالة لا تحتمل” و “مفاهيم فارغة”.
  48. لم تكن تعليقاته لطلبته كلها توبيخًا؛ فقد ترك لديهم الانطباع بأنهم ليسوا أقل من الكتّاب الذين تدارسوهم معه.
  49. كانت الكتابة أقل أنماط العمل تجزئة لديه، وتستغرق مقالاته يومين أو ثلاثة للفراغ منها، وتمر بثلاث مسودات.
  50. لم يرهق نفسه في البحث عن أساليب خاصة أو انتقاء مفردات، وجعل نثره يجري مع الأفكار وليس مع الشكل حتى وهو مؤمن بالأثر الذي يحدثه مزيج من المفردات العالية والأسلوب غير الرسمي.
  51. نحت سعيد نثرًا يتلألأ بيانه وتفيض منه شخصية تظهر التحدي. كان كاتبًا ذا أسلوب سيال يروق لكل أنواع القراء.
  52. لدى سعيد تحفظات الهدف منها تشجيع مفكري العالم الثالث على التحرر من الأيقونات الأوروبية.
  53. كانت عاداته في الكتابة مصدرًا للعذاب؛ لأنه لم يضع أفكاره على الورق واختزنها في ذهنه وإن تحدث بجزء منها إلى أن سجلها عبر تيار دافق من الكتابة، علمًا أنه لم يسمح لأكثر الناس برؤية هذا الجانب من العذاب.
  54. استفاد سعيد في التفكير والكتابة من إستراتيجيات الفكر الماركسي، والتحليل النفسي، والحركة النسوية، دون أن يتبناها أو ينتمي إليها.
  55. إن تقريب بعض الأفكر الصعبة سياسة تتبعها كل الحركات الجماهيرية، وهي ضرورة لانتشار هذه الأفكار كما يقول إدورد.
  56. يستوعب الفن الأصيل بيئته ويكون شاهدًا على مبادئها.
  57. تدريب النفس علىة مخاطبة الناس شهريًا له أثر جيد في وضوح الفكرة وصحة التعبير.
  58. إن الشيء الجوهري في الأعمال العبقرية هو أنها تخفي آثار العناء المبذول في صنعها.
  59. العظماء في شيخوختهم يغلب عليهم الخضوع لألاعيب الشباب أو الوقوع في قبضة معتقد لا يقبل التعديل.
  60. بغض النظر عن ضعف أسلحة اللغة في مواجهة العدوان العسكري فهي تبقى من أساسيات الكفاح.

الشيء الأكيد أني سأعود بحول الله لقراءة هذا الكتاب المفيد الماتع مرة أخرى. الشيء الأكيد أن هذا الكتاب يمثل مدرسة في الكتابة عن السيرة الشخصية والفكرية للكتّاب والعلماء. الشيء الأكيد أن هذا الكتاب فيه إلماحات لافتة عن النشأة والتكوين، عن الحب والقلق، عن القراءة والكتابة، عن البحث والتدريس الجامعي، عن التأليف والإشراف على الرسائل العلمية، عن صنع الأفكار وإنضاجها وعراكها، عن الثبات على المبدأ والصراع لأجله، عن الخلود والثبات، عن أشياء عديدة، ومعان سامية، يحبها الشرفاء من المثقفين وغير المثقفين! الشيء الأكيد أني سأسعد لو علمت بإفادتك من هذا العرض أيها القارئ والقارئة، وسعادتي أعظم ستغدو لو هرعت من فورك إلى الكتاب لتقرأه بالتهام وإقبال دون تسليم فالنقد ضرورة ثقافية وكان المفكر الفلسطيني الأمريكي إدورد سعيد ( القدس 1935- لونغ آيلند 2003م) من أساطين هذا الباب ورموزه الكبار، حتى أنه أوصى بدفنه ليس في مهجره ومكان وفاته أمريكا، ولا في موطنه ومسقط رأسه بفلسطين المحتلة، وإنما على سفح جبل في برمانا بلبنان، وضريحه يتوجه صوب القدس!

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

@ahmalassaf

 الأربعاء  24 من شهرِ صفر عام 1446

28 من شهر أغسطس عام 2024م

Please follow and like us:

2 Comments

  1. أجمل مافي هذه المقالة أن هذا الكتاب لم تفلته، و هو بالمقابل لم يفلتك، فخرجت لنا هذه الدرر المنثورة مزدانة بكتابتك عن صنع الأفكار وإنضاجها وعراكها، فما أجملها وأنضجها وألطف عراكها، وقطعا استمتعت بكل هذه النقاط التي ذكرت اما الشيء الأكيد طالما أنه سوف يسعدك لن يكون هناك أي تردد باقتناء الكتاب اولا لأن سعادة كاتبنا تنعكس على كتاباته الرائعه، وثانيا سعادتك تعني لنا الكثير لأنك شخص مهم جدا لدى محبيك ومتابعيك، والأهم أن إختياراتك للكتب بديعه وسبق أن قرأت كتب من توصياتك ولم أندم قط؛ راقت لي وبكل شغف لتوصياتك الأخرى..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)