سير وأعلام عرض كتاب

بصمات من ذاكرة الوزير بنتن

بصمات من ذاكرة الوزير بنتن

‏في السعودية مشروعات ناجحة جديرة بالإشهار والافتخار، وحقيقة بأن تقدم نموذجًا للاقتداء داخل البلاد وخارجها. من هذه المشروعات تجربة التحول الرقمي والإلكتروني في الخدمات المقدمة للحجاج والمعتمرين، وتجربة التحول الكبير في العمل البريدي من الأسلوب الورقي المرهق البطئ إلى أساليب حديثة وبعضها غير مسبوقة، إضافة لتحويل هذه المؤسسة إلى كيان رابح جذاب. ليست الريادة ببعيدة عن متناول ذوي الأيدِ والأبصار والهمم، ونحن قمينون بها، وهي بنا أليق. ومن المحتوم أن هذه المشروعات المشرِّفة نهضت بسواعد أهل البلاد وأذهانهم وتعاونهم، وإنهم لأهل للتكريم والإشادة هم ومن وراءهم من رجال الدولة وكبارها.

تحكي سيرة الوزير د.محمد صالح بن طاهر بنتن طرفًا من قصص النجاح المنوه عنها آنفًا. عنوان هذه السيرة: بصمات في الذاكرة، تأليف: د.محمد صالح بن طاهر بنتن، صدرت طبعتها الأولى عام (1445=2024م) في (242) صفحة، ابتدأت بالإهداء الذي تلاه تقديم كتبه الوزير السعودي والأديب المكي د.عبدالعزيز خوجه، ثمّ مقدمة المؤلف، ففصول الكتاب الثمانية على التوالي: النشأة والبدايات، الدراسة الجامعية، الحياة العملية، سنوات البعثة، العودة للوطن، في ظلال وزارة الحج، إلى مؤسسة البريد، العودة لوزارة الحج والعمرة، فالخاتمة والفهرس مع تعريف مختصر بالمؤلف. استهل  كاتبنا كل فصل باقتباس يعبر عن فكرته، ولأغلب هذه الاقتباسات ارتباط بمكة شرفها الله.

نلمح في سيرة ابن مكة العبق المكي، والدفء الأسري، والبر بالوالدين الصالحين الناصحين، والغيرة على الدين والعربية، وحب الوطن والبلاد، والبراعة في الرياضيات واللغة الإنجليزية والبرمجة وتقنيات الحاسب. يعيش القارئ مع الكاتب في أماكن مكية ما بين أحياء وحوارٍ وأزقة، وربما استطعم وإياه بعض الأكلات والمشروبات، واسترجع أسماء الأسر والأسواق والمدارس، وتنّعم بمعرفة بعض المبادئ الأخلاقية السامية في مكة، حتى أن السقاء يدخل إلى أعماق البيوت دون أن يلتفت شعرة واحدة ذات اليمين أو ذات الشمال مع دخوله ومنصرفه، ولو أخطأ فالويل له من شيخ المهنة. وتخرج المرأة الحيية من بيتها متسترة قبيل المغرب لتعود بصغارها الذين يلعبون مع لداتهم في الشارع؛ فلا تناديهم بصوتها وإنما تكتفي بالتصفيق، وكل فتى بصوت أمه أعرف.

كما تلقي السيرة نظرة على المجتمع المكي وما فيه من تنوع ثقافي وبلداني وتقاليد وغيرها خاصة في موسمي الحج ورمضان، وترسم صورة للأماكن والأسواق والطرق والجبال حتى حمام الحرم بشكله ولونه وأمانه الواجب. وتعطينا بصمات بنتن صورة عن التربية المنزلية، واللمة العائلية، وحرص الأبوين على التزكية والضبط، وما يكون لديهما من علم وعبادة، إضافة إلى سعي عملي متدرج لإنضاج الأبناء بالعمل الباكر وتحمل المسؤولية، وتقديم المثال المعاين لهم؛ حتى أن الأم تستثمر وجود الثلاجة لتجميد المشروبات وبيعها عن طريق ابنها لمساعدة الأب ماليًا، والتخفيف عن كاهله المثقل، ولو أن كل أم راعت ذلك؛ لعاشت البيوت في وئام وهناء وقناعة وكفاف.

كذلك تضيف لنا مسيرة الوزير بنتن مثالًا على أن الخيرة خفية، وأن درب المرء سيمضي مع المقدور وما عليه سوى العمل والتوكل على المولى القدير. يتبين ذلك أن الشاب الذي تخرج في الثانوية وهو في سن أصغر من جميع زملائه، التحق أولًا بجامعة الرياض، لكنه سحب ملفه منها وانضم إلى بقية رفاقه في جامعة الظهران، وبعد أن درس فيها فصلًا بتفوق، خرج منها إلى الخطوط السعودية ليصبح طيارًا، وعقب فصل أمضاه في سبيل تحقيق حلم الطيران، عاد إلى جامعة الظهران متجاوزًا غير عقبة بفضل الله ثم بقدراته اللغوية والرياضية، وأرضى والديه بذلك، فطار دون أن يصبح طيارًا!

وتصف السيرة الجدية للشاب وزملائه الذين عملوا وهم طلبة في الشركات الكبرى مثل أرامكو وغيرها، وشاركوا مع أساتذتهم في المعامل والتجارب، وأعانوا مركز أبحاث الحج إبان مواسمه الميمونة، وبرعوا في البرمجة، ولم تنحصر حياته الجامعية على الدرس والعمل، إنما غدا ممثلًا للجامعة يزور المدارس الثانوية، ويقف بين طلابها خطيبًا ومتحدثًا مما أكسبه هذه المهارة المهمة لرجل الدولة والقيادي. ومن منن الله أن جعل صاحبه في الغرفة قرين خير له، فكل واحد منهما يراجع الآخر في تصرفاته وأعماله، ومن فضل الله عليه أن ذهب للعمل في الجامعة براتب يوازي ثلث راتب شركة معروض عليه؛ بيد أنه فضل التوجه حيث يريد أبوه المربي وأستاذ اللغة، وكانت العاقبة الحميدة له في ذلك.

كما تلتصق سيرة الوزير د.محمد بنتن بمكة والحرم والحج والعمرة حتى في غلاف الكتاب، فلكأنه مشدود لها بحبل متين مكين وثيق، فلا يغادرها إلّا ويعود إليها ليس للقيا الوالدين والأسرة، والتمتع بالجوار وذكريات الصبا والشباب فقط، وإنما للعمل فيما يخص الحج، وأعظم به من مجال؛ إذ عمل وهو طالب في الإحصاء، وشارك في غسيل الكعبة المشرفة مع بداية ارتباطه الوظيفي بالوزارة أيام الوزير المفكر د.محمود سفر -رحمه الله-. وفي السيرة صلة وثيقة لصاحبها مع لسانه العربي، ولغته العريقة المقدسة، يستبين ذلك من إطلاق أسماء عربية على مشروعات أسسها أو شارك فيها، ويتجلّى في أسماء كريمته ونجليه “مآب، مهاب، مثاب”، وهي أسماء عربية المبنى والمعنى، ولها دلالة على مكة التي إليها المآب، وفيها كل شيء مهاب، وهي للأرواح مثاب.

في هذه السيرة قصص لطيفة، وأيّ سيرة تخلو من القصص تصير يابسة جامدة بلا حياة ولا إمتاع. من هذه القصص حكايته عندما عين محاضرًا في الجامعة فلم يصدق الطلبة أنه أستاذ لهم، وظنوه زميلًا يمزح حتى أظهر الصرامة فسكنوا. منها كذلك حكاية الحريق في بيته بأمريكا، ورباطة جأشه التي جعلت فريق الإطفاء الأمريكي يعتقدون أنه في حال صدمة وذهول. فيها أيضًا قصة الحاج الثري النشال بالاتهام من مواطنيه دون الحقيقة، وكيف انتهى به الأمر إلى أن أصبح من ضيوف الدولة الكبار بقرار من الأمير عبدالمجيد -رحمه الله- الذي رأى تطييب خاطره لبراءته بهذه الاستضافة الرفيع شأنها. ومن جليل حكايات السيرة أن المؤلف عندما تخرج في جامعته الأمريكية أصر على ارتداء الزي السعودي في الحفل مع بلديه سامي الصبان، وإن الفتى العربي في إيوان القوم لغريب الوجه واليد واللسان واللباس، ومن ثبت هناك فهو في غيرها أثبت بحول الله.

وإن أتجاوز روايات السيرة فلن أسلو أو أغفل عن قصة الشيخ ياسر وتردادها؛ لما فيها من عظيم تدبير الله وتيسيره. الواقعة باختصار أن د.بنتن ذهب لمصر وهو وكيل لوزارة الحج كي يحل مشكلة في دولة إفريقية غير عربية تخص حجاجهم، والسبب يعود لإجراءات حكومتهم، وشاء الله أن يبقى في مصر ويعالج الإشكال من مكانه. وفي مكوثه اصطحبه مسؤول مصري في وزارة الأوقاف للصلاة بأحد المساجد الكبرى، وحين عرف إمام شاب اسمه “ياسر” أن هذا الزائر مسؤول كبير في وزارة الحج السعودية، طلب منه أداء الحج هو ووالدته، فاعتذر د.محمد لأن الحج لم يتبق عليه سوى أيام تعد على أصابع اليد، فلم يدرك اليأس الشيخ الشاب، وكتب اسمه ورقمه على ورقة، وأعطاها لأبي مآب الذي آب إلى نزله بعد نهاية الصلاة.

في طريق العودة للفندق، اتصل بصاحب السيرة مدير مكتب الوزير إياد مدني، وطلب منه البقاء في مصر؛ لإنهاء ترتيبات وفد رفيع المستوى من الحجاج المستضافين حكوميًا، فتذكر د.بنتن ورقة الإمام، وقال أبو مهاب دون هيبة أو وجل: هل يمكن إضافة شخصين معهم؟ فسأل مدير المكتب فهد الزهير وزيره الذي أجاب بالموافقه، فأملى د.محمد اسم ياسر على المتصل، وأضاف وأمه، وبذلك صار ياسر وأمه ضمن المستضافين على الورق.

ومباشرة زف المؤلف البشرى للشيخ الشاب، وطلب منه مراجعة السفارة غدًا ومعه جوازات السفر للحصول على التأشيرة، ليتفاجأ بجواب ياسر بأنهما لا يملكان جواز سفر! عندها تبخرت الأمنية الغالية، خاصة بعدما سأل مؤلفنا مسؤولًا مصريًا في المطار، فأخبره أن مدة استخراج الجواز تصل إلى شهر، ومن الخير لياسر وأمه الاستعداد للحج في عام قابل، فلم تكتمل فرحة صاحبنا، ولا طالب الحج بمثل هذا النبأ المنغص.

لكن هذا المسؤول في المطار عاود الاتصال بصاحب السيرة، وقال له: للتو وصل عبر المطار موظف كبير نافذ في الجوازات، وحدثته عن خبر ياسر وأمه، فوافق على استخراج جواز سفر عاجل لهما لسفرة واحدة، وهو ماكان. لم ينته سيل المفاجأت، فالحاج وأمه ليس عندهما ثمن التذكرة؛ ولذلك اشتراها المؤلف لهما، وطلب من ياسر الذهاب إلى المطار الساعة الثانية ظهرًا في اليوم السابع من ذي الحجة، ليأتي على الطائرة التي ستنقل الوفد المستضاف، وربط بين ياسر، وبين المسؤول في المطار الذي شارك في معرفة القصة، وتوسط في تسريع استخراج الجواز.

ثم رجع د.بنتن إلى المملكة، وورده في الساعة الثالثة عصرًا من اليوم الموعود اتصال من مسؤول المطار وهو غاضب حنق؛ لأن ياسرًا جاء إلى المطار دون لباس الإحرام، والمعضلة الأكبر أن أمه ليست معه بل في المنوفية! فقال له هذا المسؤول: تحج أنت وأمك وأنا معكم في العام القادم، بيد أن ياسر قال بلسان الجازم: بل أحج وأمي هذه السنة. وفي السابعة والنصف مساء اتصل هذا المسؤول مرة أخرى بكاتبنا ليعلمه وهو في حال ذهول قد سكت عنه الغضب بأن ياسرًا وأمه في الطائرة مع الوفد، وأن رجوع ياسر من المطار إلى المنوفية على سيارة حافلة صغيرة ثم مجيئه للمطار وإدراك الرحلة أمر مستحيل في الحسابات العادية حتى لو ركب في سيارة رسمية! المهم أن هذا الإمام لم يحج فقط، بل أصبح إمامًا للوفد، وصارت أمه محدثة لنساء الوفد كذلك، وتوثقت علاقته بالدكتور محمد بنتن، ويبقى الشيء الذي لا نعلمه هو ما حصل لياسر من أحداث أخرى في سياق رحلته للحج، والأكيد أن فيها من عظيم التيسير وعجيب التدبير ما يلفت النظر؛ فاللهم يسر لنا ودبر.

بقي أن أشير إلى شيء أسعدني، فقد سعى كثير من المسؤولين لاستقطاب د.محمد صالح بن طاهر بنتن في أعمال حكومية عديدة، وهذا يزيد الفرح الداخلي، والثقة بحكمة الاستقطاب والتكليف، فما أسعد البلد وأناسه حينما تغدو الكفاءة هي معيار مهم وازن من معايير الانتقاء وإسناد الأمانة، وللأمانة أهل بمواصفات خاصة نادرة، والله يكثر فينا القوي الأمين. وكنت أتمنى لو فصّل الوزير المؤلف في وقائع ترشيحه للمناصب وإقبالها عليه، ومغادرته لها بأكثر من صورة؛ فهي مما يضيف للسيرة نكهة وجاذبية، وحديثي هنا عن المباح من هاتيك الوقائع، ودائرة المباحات -فيما أفهم وأظن- واسعة جدًا.

 أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

الاثنين 15 من شهرِ صفر عام 1446

19 من شهر أغسطس عام 2024م

Please follow and like us:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)