شريعة وقانون

لماذا تفشل القوانين؟!

القانون

لماذا تفشل القوانين؟!

الهدف من تشريع أيّ قانون هو تطبيقه من حيث الأصل على الكافة بلا استثناء، وتحقيق المراد منه بجني ثماره الاجتماعية، أو الاقتصادية، أو الأمنية، أو السياسية، أو القانونية، للظفر بمجموعة من الغايات التي تنفع البلاد وأهلها بمجرد التطبيق والالتزام بالقانون من قبل الإدارة التنفيذية، والمخاطبين به، والمحامين والمستشارين، والقضاة والحكام. هذا الهدف مطلب بدهي يكاد أن يعرفه كل إنسان عاقل، في جميع المجتمعات البشرية الواعية.

مع ذلك، لا تصل بعض القوانين إلى النتائج المأمولة منها؛ بل ربما آلت إلى عواقب تعاكس ماكان منشودًا منها ومنتظرًا، وهذا من حيث المبدأ مفهوم نظرًا لبشريتها، والعمل البشري عرضة للمآخذ، والأهواء، وقصر النظر، ومحدودية العلم بالمستقبل. تنجم بناء على هذا الواقع عدة مشكلات بعضها مقلق، على رأسها معضلة اكتشاف وجود الخلل أولًا، ثمّ الجرأة على التصريح به، والشجاعة في مواجهته، مع العزيمة على بحث أسبابه، ومعالجة آثاره ريثما يعمد المشرعون إلى اقتراح إصلاح القانون من داخله، أو التوصية بإلغائه وإحلال قانون آخر مكانه، أو حتى المسارعة إلى الإلغاء بلا إحلال.

لكن من المناسب قبل الحكم على القانون بتدني نتائجه، وقبل الشروع في بحث أسباب فشل القوانين، الإشارة إلى صواب التأني والتروي قبل صدور مثل هذا الرأي بقطع وجزم، وقبل دمغ أي قانون بهذه الصفة التي تشينه وتبخس قدر القائمين عليه أحيانًا، وتؤذي الشركاء فيه تنظيرًا وتفعيلًا، فربما يكون الحكم على القانون بالإخفاق غير مكتمل الأركان، أو لم يحط المراقب علمًا بكل ما يؤدي إلى تصور صائب، فغدا التسرع والعجلة وسطحية الفحص من أسباب هذا المآل المسئ لمن صرح به وتبناه، فمن المعلوم سلفًا أن الجرح -أي الانتقاد- لا يقبل إلّا مفسرًا بما يثبته ويؤكده، وبما يحمي صاحبه من شبهة التهور، أو تهمة فلتات القول والكتابة؛ ولذا وجب التنبيه.

هنا يولد سؤال مفاده: ما هو سبب إخفاق القوانين؟ وهو سؤال مشروع، لا يتجه الجواب المحكم عنه نحو قول واحد فقط، إذ يختلف الحال من بلد لآخر، ومن قانون لثانٍ، ومن واقعة فما بعدها. بيد أن تلك الأسباب تكاد أن تكون سمة مشتركة في القوانين والأنظمة التي لم يكتب لها النجاح، أينما كان موضعها شرقًا وغربًا، ومتى حصلت مأساة الفشل قديمًا أو حديثًا، ومهما ترافق معها من أوضاع رخاء أو شدة، وبيان هذه السمات بيانًا عامًا هو غاية هذا المقال المختصر بعد التعريج على مظاهر القصور والإخفاق.

تكمن مظاهر هذه الخيبة المحزنة في عدة صور بعضها يمكن أن سببًا للإخفاق، فمنها امتناع تطبيق القانون امتناعًا يصل إلى الاستحالة أحيانًا، أو تصاحب العسر مع التطبيق -وليس مجرد التذمر البشري المعتاد-. منها أيضًا تعاقب التعديلات عليه، أو توالي التفاف المخاطبين به على مقتضياته بتواطؤ أو بدون. من هذه المظاهر كذلك تعارضه مع قوانين أخرى، أو انبثاق لوازم له مرهقة، وربما غير متوقعة.

يمكن أن يضاف لهذه المظاهر العامة تواتر انتقاده من داخل الرواق العدلي بأقسامه في القضاء والقانون والفقه والفتيا والمحاماة والادعاء. من هذه المظاهر أيضًا سعي ذوي المصلحة إلى خيارات بديلة مثل التحكيم، أو الاتفاق على قانون أجنبي من البداية، وقد لا يكون السبب طول الإجراءات في المحاكم كما يحدث -على سبيل المثال- في المحاكم الإيطالية التي يصل عمر بعض القضايا المنظورة فيها إلى سبعة وعشرين عامًا، وتدفع حكومة روما مئات الملايين من التعويضات السنوية للمتضررين بسبب هذه الآفة القضائية.

أما إذا أردنا الوقوف على الأسباب التي تؤدي إلى تعطيل القوانين وفشلها، فيمكن لنا أن نذكر منها ما يلي منسوبة إلى أصول عامة تجمعها:

أولًا: أسباب تتعلق بالإعداد والصياغة:

  1. اختصار المراحل التشريعية كسبًا للوقت أو تخفيفًا للتكاليف.
  2. حجب بعض المؤثرين والمتأثرين عن المشاركة في وضع القانون أو مناقشته قبل الإقرار.
  3. ضعف الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والقانونية السابقة على إصدار القانون.
  4. اقتباس قوانين أخرى دون إحداث ما يلزم من تغييرات تناسب البيئة والثقافة المحلية.
  5. قصور القانون عن بيان أحكام بعض الحالات المتكررة أو المتوقع حصولها.
  6. إعراض بعض واضعي القانون عن مراجعة قوانين سابقة قد تتقاطع مع القانون الجديد.
  7. وجود عيوب لغوية في الصياغة خاصة في الإحالة، وطول الجمل، واستعمال الضمائر.
  8. كثرة المصطلحات دون تعريف دقيق، وهجر المتعارف عليه الصحيح منها.
  9. اختلاف منهجية إعداد القوانين وبنائها وصياغتها بين قانون وآخر، وفي توحيد الطريقة التشريعية سلامة من الأخطاء، وتحقيق للوضوح، وهو ما تنتهجه المملكة حسب الدليل العملي الصادر عن لجان عليا.

ثانيًا: أسباب ترجع إلى التطبيق:

  1. تجاوز الإدارة التنفيذية لمقتضى القانون بالتنفيذ العملي المخالف لنصوصه.
  2. مناقضة أصل القانون فيما يتبعه من لوائح وقواعد وقرارات.
  3. تكرار اضطرار المتعاملين مع القانون والمخاطبين به إلى تفسير بعض نصوصه، أو القياس عليها، أو تكميل القانون، بسبب التأخر في إصدار الفتاوى القانونية.
  4. الجرأة على الاستثناءات من القانون لدواع خاصة ومصالح فئوية، أما الاستثناء للصالح العام فطريقه إصلاح القانون مباشرة.
  5. إغفال تخصيص موارد بشرية وتقنية ومالية كافية لتطبيق القانون أو متابعة تطبيقه.
  6. إهمال وضع مسارات مقترحة لتنفيذ القانون خاصة إذا كان يحل مكان غيره، أو يهدف لإنشاء مراكز قانونية جديدة، وتغيير أوضاع قائمة، على أن تكون هذه المسارات مناسبة وممكنة.
  7. التراخي في تهيئة بيئة عمل القانون لاستقباله بالفهم الواضح، والتطبيق الدقيق، حتى يرتفع الوعي العام بخصوصه.
  8. التحايل من النافذين أو المتأثرين به على إجراءاته، وجزاءاته.

ثالثًا: أسباب تتصل بآثار القانون:

  1. كثرة تعارضه مع قوانين أخرى.
  2. مناقضة القانون لأعراف مستقرة ولثقافة سائدة، مثل ما حدث مع قانون يلزم بتركيب كراسي لأطفال إلى عمر معين في السيارات، وهو قانون حسن، لكن له تكاليف مادية، ولا يناسب في تفاصيله بعض المجتمعات كثيرة الإنجاب.
  3. ما يترتب على القانون من تحمل تكاليف مالية فردية أو مؤسسية ترهق الكاهل، وتزيد الأعباء، مثل بعض القوانين بخصوص عدد المصاعد في الأبراج والعمارات.
  4. اختفاء منافع القانون عند المعاينة أو الدراسة، أو ضمور حسناته كلما طال به الزمن.
  5. قسوة عقوباته التي لا تتلائم مع الخطأ المرتكب.

رابعًا: أسباب أخرى:

  1. شيوع الفساد بما يحدثه من رغبة في تجاوز القانون أو تكبيله لمصالح مالية أو غيرها، ولهذا السبب زاد عدد السجناء في أمريكا حتى تجاوز عددهم إحصاء السكان في خمسة عشر ولاية، وضمت سجون أمريكا وحدها ربع المساجين في العالم!
  2. تقديم المصالح الشخصية والمنحصرة في دائرة واحدة على المصالح العامة والعليا، كما حصل في واقعة شهيرة في إحدى دول آسيا الوسطى.
  3. تناسي القانون ضمن زحمة القوانين وكثرتها، ويكاد أن يكون تناسيه أحيانًا عملًا توافقيًا.
  4. تنازع المسؤولية عن القانون بين أكثر من مؤسسة رسمية دون وجود حدود فاصلة للصلاحيات والمسؤوليات.
  5. ضعف الرقابة على تطبيق القوانين، وعلى فعاليتها، مثل قانون قطع الأخشاب في الأمازون دون توظيف عدد كاف من المراقبين.
  6. غياب أي حلقة تكاملية بين التشريع والتنفيذ والفقه والقضاء والفتيا فيما يخص دورة حياة القانون، وما يكتنفه من آراء، وسبل إصلاح.
  7. ابتعاد القوانين والمتشاركين في وضعها وتنفيذها وإفهامها والاحتجاج بها عن أن يكونوا عونًا على ترسيخ العدالة إلى أن يصبحوا في بعض الوقائع من أدوات الظلم وضياع الحقوق وقمع الحريات.
  8. وجود قوى مجتمعية عميقة متجذرة يصب فشل القانون وتعثره في مصالحها، ويتوافق مع مشروعاتها، وبالتالي ترعاه وتسانده سرًا أو جهارًا. هذه القوى يمكن أن تكون من المجتمع، أو ضمن المعارضة، أو واحدة من جماعات الضغط، وربما أنها عضو في جسم الحكومة.

‏لقد تحولت موضوعات القانون وعلاقته بالتنمية والازدهار، وتعزيز حكم القانون وارتباطه بالرفاهية والحرية والاستثمار، وصياغة التشريعات بإحكام وانضباط، إلى صناعات حقيقية حول العالم كله، وعند منظمات دولية عديدة تعنى بالمال، والتجارة، والشفافية. إن أحسن وصف تظفر به أي صناعة بسبب الجودة والإتقان هو طول العمر، وتحقيق مطالب أكثر فئات المجتمع، والسلامة من التناقض، أو كثرة العطب، أو الحاجة المستمرة للتبديل. إن مليارات الدولارات التي تصرف في قارات الدنيا على الإصلاح القانوني والتشريعي كل سنة ليست بمستكثرة، لكنها جديرة بأن تقابل بقوانين عملية ناجحة إلى حد كبير، تؤدي المرغوب منها، وتعين السلطات بأقسامها على حسن التدبير والإدارة، وهذا هو غاية المنى.

أحمد بن عبدالمحسن العسَّاف-الرياض

ahmalassaf@

السبت 06 من شهرِ صفر عام 1446

10 من شهر أغسطس عام 2024م

Please follow and like us:

3 Comments

  1. لامست الواقع، وكانت كلّ فقرة منها ممسكة بطرف أختها، قرأته فأتت في نفسي جملة من أشياء كانت؛ فكأنّ المقالة منسلّة من وجه الواقع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

X (Twitter)